عمان- فيما تكاد الآثار التي تحتضنها محافظة إدلب، شمال غرب سوريا، تماثل في أهميتها تلك الموجودة في تدمر بمحافظة حمص، فإن لآثار الأولى، كان يبدو، نصيب من اسم “مدنها المنسية” المدرجة منذ العام 2011 على لائحة التراث العالمي الصادرة عن منظمة اليونسكو، فهي لا تحظى بصيت مماثل لذاك الذي تعرفه مدينة تدمر وسواها من مواقع أثرية في سوريا.
تحتضن محافظة إدلب “نحو 760 موقعاً أثرياً، مسجل رسمياً في مديرية الآثار والمتاحف التابعة للنظام. أهمها يعود إلى الألفية الرابعة قبل الميلاد”، كما قال لـ”سوريا على طول” مدير مركز آثار إدلب، أيمن نابو. وتشمل هذه المواقع “40 قرية أثرية، تشكّل 5 باركات [منتزهات] سجّلت على لائحة التراث العالمي، تنتشر من أقصى شمال المحافظة إلى أقصى جنوبها، وهي: بارك جبل باريشا، ومن معالمه قلعة حارم التي تعود إلى العصر البيزنطي، إذ شيّدت العام 959؛ وبارك الجبل الأعلى، ومن معالمه قرية الكفير الأثرية المهجورة التي تضم 21 قصراً، وكنيسة كانت قبل ذلك معبداً يعود [تاريخ بنائه] إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وتشكل واحدة من القرى القديمة أو المدن المنسية في شمال سوريا؛ وبارك الجبل الوسطاني؛ وبارك جبل الزاوية-المعرة، ومن معالمه قرية الرويحة التي تعود إلى العهد الروماني البيزنطي، وتقع جنوب شرق إدلب، وتعد أيضاً واحدة من المدن المنسية؛ وبارك جبل الزاوية- البارة”. وبحسب نابو، يتولى مركز آثار إدلب “إدارة معظم الباركات، عدا تلك التي أصبحت نقاط اشتباك عسكرية، أو سيطر عليها النظام مؤخراً، من مثل: معرة النعمان، البارة، سرجيلا، وشنشراح”.
وإلى جانب المنتزهات (الباركات) الأثرية، تنتشر في إدلب تلال أثرية “يتجاوز عددها 200 تل، تتوزع على كامل مساحة المحافظة”. كما “تحوي متحف معرة النعمان الذي يعد ثاني أكبر متحف فسيفساء في الشرق الأوسط، ومتحف إدلب الذي يضم أكثر من 15 ألف رقيم مسماري [قطعة أثرية أو لوح أثري منقوش عليه باللغة المسمارية] اكتشف في إيبلا، تعود إلى ما قبل الألفية الثالثة قبل الميلاد” كما كشف نابو.
الاعتداء على الآثار
في العام 2012، خضعت المناطق الأثرية في محافظة إدلب لسيطرة فصائل المعارضة، لتقع مسؤولية إدارة تلك المواقع الأثرية على عاتق مركز آثار إدلب، وهو منظمة مجتمع مدني أسسها مختصون في علم الآثار في تموز/ يوليو 2012. لكن مع تقدم القوات الحكومية والميليشيات المساندة جنوب المحافظة بداية العام الحالي، لم يتبق تحت إشرافنا “سوى 600 موقع أثري. إذ إن المناطق التي سيطرت عليها القوات الحكومية تضم أكثر من 100 موقع” بحسب نابو. مبيناً أن من أهم المواقع الأثرية التي فقدتها المعارضة مؤخراً “موقع إيبلا- تل مرديخ الذي يعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، ومتحف معرة النعمان (خان مراد باشا)، إضافة إلى ضريح الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي يحمل رمزية تاريخية ودينية”.
قبل ذلك، تعرضت آثار إدلب، على مدار السنوات الماضية، لأنواع عدة من الانتهاكات، من مثل قصف القوات الحكومية الذي أدى إلى “خسارة أجزاء كاملة مع عدة مواقع أثرية نتيجة استهدافها المباشر، كما حدث في آثار شنشراح، وربيعة، وخربة الخطيب، التي تعود إلى الفترة الكلاسيكية [وهي الفترة التي تجمع العهدين الروماني والبيزنطي]. كما تضررت تلال أثرية ومواقع طينية مثل إيبلا التي تعود لفترة الشرق القديم، وكذلك متحف إدلب، ومتحف معرة النعمان، والبارة، وسرجيلا، وقلعة حارم، وقلعة آفس”، وفقاً لنابو، في وقت يمثل “ترميم الآثار مهمة صعب جداً لأنها تحتاج لخبرات عالمية”.
ورغم أن القانون السوري، كما الدولي، يجرّم الاعتداء على الآثار، فإن قصف القوات الحكومية شكل “أكبر مسبب للأضرار بآثار إدلب”، كما ذكر لـ”سوريا على طول” أسامة السبع، مدير منظمة محامون من أجل العدالة، وهي منظمة محلية تأسست في شباط/فبراير 2014، وتعمل على توثيق الانتهاكات، بما فيها تلك المتعلقة بالآثار.
يضاف إلى ذلك تعرضت آثار إدلب لانتهاكات من قبيل “عمليات التنقيب العشوائية عن الآثار وتكسير حجارتها، وزحف البناء العشوائي على المواقع الأثرية”، لاسيما “في تل مرديخ، وتل الطوقان، وقلعة الشغر تل السلطان”، بحسب نابو. موضحاً أن “الخطورة على المواقع الكلاسيكية المبنية بالحجارة الكبيرة، تكمن في تكسير حجارتها وزحف البناء الحديث عليها، ما يخرج هذه الأبنية عن إطارها التاريخي والحضاري. أما المواقع الأثرية العائدة لفترات الشرق القديم أو الأبنية الطينية، فتكمن الخطورة التي تتهددها في الحفر العشوائي، إضافة إلى العوامل الجوية في فصل الشتاء، ما يؤدي إلى تخلخل أساساتها وتهدمها”.
التنقيب عن الآثار أدى، بطبيعة الحال، إلى ازدهار التجارة غير المشروعة بالآثار. وقد اشترك عدد من أهالي المنطقة في عمليات التنقيب عن القطع الأثرية والاتجار بها، متعاونين مع شبكات من المهربين والتجار، تنقل الآثار إلى دول الجوار ومن ثم طرحها في السوق السوداء. وقد شاركت القوات الحكومية وتنظيم داعش وفصائل المعارضة، كما دول إقليمية في الاعتداء على الآثار والاتجار بها. فرغم أن تهريب الآثار السورية والإتجار بها يعود إلى ما قبل العام 2011، بحسب شاكر شبيب، مدير منظمة سوريون من أجل التراث (سمات)، التي تأسست في فرنسا العام 2018، فإن عمليات التهريب الحالية “يصعب ضبطها، خصوصاً أنه ليس لدينا قوة تنفيذية تمنع التهريب في إدلب”.
في المقابل، استذكر شبيب في حديثه لـ”سوريا على طول”، قصة السيدة الستينية أم سليمان التي كانت تعتبر نفسها وصيّة على موقع سرجيلا الأثري الذي كانت تعيش بجانبه بعد أن نزحت من مدينة كفرنبل، وكانت تمنع الناس من العبث به أو سرقة آثاره حتى اضطرارها للنزوح مجدداً بعد أن أصبح الموقع منطقة اشتباك. “عندما أفكر بهؤلاء الناس البسطاء الذين يحمون الآثار من دون مقابل”، قال شبيب، “لا أخشى أبداً توقف دعم مشاريعنا لحماية الآثار”.
فعلى نحو ما فعلت أم سليمان، أسهم سكان آخرون، بمن فيهم نازحون، في حماية آثار إدلب. إذ “تقع المواقع الأثرية بالقرب من التجمعات السكنية التي قصدها نازحون” كما قال نابو، وكان بعض “العائلات يتخذ من مواقع أثرية مساكن مؤقتة”. مضيفاً أنه “كنا نخرج في زيارات توعوية لهذه المناطق، محذرين من إضافة أبنية أو تغيير ملامح المواقع الأثرية التي يقطنونها أو تشويهها”. لكن خلال تلك الزيارات “لاحظنا اهتمام النازحين بالآثار، ورغبتهم في الحفاظ على حضارة سوريا وآثارها”، بمعنى أن “وجودهم في هذه المواقع لم يسبب ضرراً، وإنما كانوا يحمون تلك المواقع التي يعيشون فيها”.
توثيق الآثار والانتهاكات
شبيب، الباحث في علم الآثار من جامعة باريس، والذي شغل سابقاً منصب مدير التنقيب والأبحاث الأثرية في المديرية العامة للآثار والمتاحف- دائرة آثار إدلب حتى العام 2011، وعمل في مشروع “حماية التراث في سوريا والعراق” (SHOSI) منذ العام 2014، كان قد عمل لسنوات أيضاً في مركز آثار إدلب الذي يديره أيمن نابو. وكما أوضح: “عملنا منذ بداية الثورة كمجموعة ناشطين من دون تمويل. لكن في كانون الأول/ديسمبر 2013 حصلنا على تمويل لمشروع تدعمه منظمة سميثسونيان العالمية [وهي مؤسسة أميركية تُعنى بالحفاظ على التراث العالمي وإعداد أبحاث عنه]. حيث بدأنا تنفيذ مشاريع الحماية الأولى في سوريا، كسوريين يعيشون في أوروبا وسوريين في الداخل، بعد خضوع فريق إدلب لتدريبات على العمل في تركيا”.
كذلك، حصل مركز آثار إدلب، بحسب نابو، على “تدريبات من هيئة الآثار المصرية، وجامعة تسوكوبا اليابانية، وجامعة لندن، تركزت على كيفية التعامل مع الآثار أثناء الحروب، والاستفادة من التجارب المماثلة لأوضاعنا التي تم تنفيذها في ليبيا واليمن وتونس، لنطبقها نحن في إدلب بما يخدم عملنا حفظ وحماية المواقع الأثرية”. إذ رغم كون القائمين على مركز آثار إدلب ومنظمة “سمات” متخصصون في مجال الآثار، فإنه “لم تكن لدينا الخبرة الكافية في حماية الآثار، خاصة خلال فترة الأزمة”، كما قال شبيب. كما “نحاول أيضاً توفير الموارد المالية كافة لتنفيذ مشاريع الحماية. ومن أجل ذلك قدمنا على مشروع حماية المتحف الحديث، وحماية 1000 قطعة أثرية بعد القيام بعدة تدريبات لفريق مركز آثار إدلب في تركيا”.
كذلك، ينسق مركز آثار إدلب مع منظمة محامون من أجل العدالة؛ إذ تم توقيع مذكرة تفاهم بينهما منذ تأسيس المركز، تتضمن “توصيف الانتهاك كل حسب اختصاصه. فالمركز متخصص بالجانب الفني كون [أعضائه] خبراء آثار، والمنظمة بالجانب القانوني. وعندما يحدث انتهاك لأي موقع أثري يقوم مركز آثار إدلب بإعلام المنظمة، ومن ثم تتم معاينة مشتركة لموقع الانتهاك سواء كان قصفاً أو غيره”، كما قال أسامة السبع.
وعن آلية التوثيق القانوني للاعتداء على الآثار، أوضح السبع: “نجمع الأدلة، بما في ذلك شهادات شهود العيان الموثقة بتسجيلات مصورة، ونستعين بالمراصد التي تتبع حركة الطيران الحربي. كما إننا نعاين مكان القصف، ونجمع القرائن المادية الملموسة لدينا كبقايا الصواريخ، ومن ثم تتم عملية أرشفة كل الوثائق وحفظها إلكترونياً لدى المنظمة ومركز آثار إدلب”.
وتعدّ الأرشفة الإلكترونية واحدة من “أحدث الاستراتيجيات المتبعة في التوثيق لدى مركز آثار إدلب، بعد أن كنا نعتمد التوثيق الورقي”، بحسب نابو. لافتاً إلى “استخدام تقنيات أخرى من مثل التصوير الجوي بتقنية ثلاثي الأبعاد في توثيق المباني الأثرية وحفظها من الضياع”، وهي تقنية “تسمح بالاحتفاظ بنسخة مشابهة للموقع تماماً، ويمكن الاستعانة بها في حالة تعرض الموقع الأثري لأضرار كبيرة. إذ يمكننا إعادة بنائه بنفس الطريقة القديمة إذا ما تمكنا من الترميم مستقبلاً”. كما يعدّ التوثيق مهماً في “إدانة للمجرمين مستقبلاً”.
ويندرج ضمن التوثيق أيضاً تتبع مركز آثار إدلب “المعلومات والصور عن قطع أثرية [مسروقة] يتم عرضها على وسائل التواصل الاجتماعي”، بحسب نابو. و”بعد التأكد من أنها قطع أثرية غير مزورة، يتم توثيقها وأرشفتها”، مشيراً إلى أن “عدد القطع المسروقة الموثقة لدينا نحو 700 قطعة”.
الأمر ذاته تقوم به أيضاً، كما قال شبيب، منظمة “سمات” من خلال “تقصي أي صور مؤرخة لآثار هُرّبت إلى أوروبا وغيرها، أملاً بإمكانية استرجاعها لاحقا”. مبيناً أنه “احتفظنا بصور لقطع أثرية عرضها أشخاص الأسبوع الماضي. فإذا عثرنا على القطع المصورة في السنوات المقبلة في أحد المتاحف خارج سوريا، يمكننا المطالبة بإعادتها”، كما “إننا نعد قاعدة بيانات نعتزم تسليمها للإنتربول الدولي. فهذا هو سلاحنا الوحيد ضد السرقة والتهريب”.
في السياق ذاته أيضاً، شكلت حكومة دمشق مكتباً لاسترداد القطع الأثرية، كما كشف لـ”سوريا على طول” مسؤول رفيع في مديرية آثار ومتاحف سوريا، التابعة للحكومة السورية. مؤكداً أن المكتب “على تواصل مباشر مع الإنتربول الدولي من أجل التنسيق واستعادة القطع المسروقة”.
وبحسب المسؤول، فقد تم رفع “دعاوى قضائية في عدد من الدول الأوروبية لمنع بيع القطع المسروقة، لكن إلى الآن لبنان هو الدولة الوحيدة التي أعادت لنا بعض القطع الأثرية”، إضافة إلى “قطع اشتراها سوريون في أوروبا، وأحالوها إلينا عبر وزارة الخارجية وبعض الأصدقاء”.
حرب الحماية
اصطدم مركز آثار إدلب، وغيره من المنظمات المهتمة بالآثار في مناطق المعارضة السورية بعدة تحديات، منها غياب الاعتراف الرسمي، كما حدث مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو)، إذ “لم تعترف بمراكز حفظ الآثار التي تعمل في مناطق سيطرة المعارضة، واكتفت بالتنسيق مع النظام” بحسب شبيب. عدا عن “أننا طالبناهم في أكثر من مؤتمر بضرورة اتخاذ موقف ضد انتهاكات النظام بحق الآثار، ولكن هذا لم يحصل، وكأنهم لا يعترفون سوى بانتهاكات داعش ضد الآثار”.
وحاولت “سوريا على طول” الحصول على تعليق من مكتب اليونسكو في فرنسا ولكنها لم تتلق أي ردّ حتى نشر هذا التقرير.
ومع سيطرة القوات الحكومية على مناطق أثرية في إدلب، أخذت التحديات أشكالاً أخرى، إذ “لم يعد هناك إمكانية لوصولنا والعمل هناك” كما قال شبيب، معبراً عن رغبته في “استمرار العمل بملف الآثار في المناطق التي خرجت عن إرادتنا، ولكن النظام لن يقبل ذلك، إذ يعتبرنا أعداء”. فوق ذلك تتزايد مخاوف مركز آثار إدلب من “نقل النظام قطعاً أثرية أو فسيفساء بأحجام كبيرة من المتحف إلى أماكن أخرى، ما قد يؤدي إلى ضياعها”، بحسب نابو، مستدلاً على ذلك “بضياع قطع في عدد من المتاحف التي سيطر النظام عليها سابقاً”.
في المقابل، اعترف المسؤول الحكومي بنقل قطع أثرية من معرة النعمان، لكن ذلك تم بحسبه “بعناية إلى متحف حماة الوطني. أما الفسيفساء فقد بقيت داخل المتحف [معرة النعمان]، لعدم إمكانية نقلها بسبب كبر حجمها، ولكنها محمية بأكياس من الرمل كان قد وضعها أهالي المنطقة لحمايتها”. متهماً القائمين على حماية الآثار وتوثيقها في شمال غرب سوريا، خلال سيطرة المعارضة، من مثل مركز آثار إدلب، بأنهم “يظهرون بأنهم كانوا يحمون الآثار، لكنهم لم يعرضوا على الإعلام سوى بعض القطع الأثرية البسيطة التي يدعون حمايتها، وهذه تعتبر آثاراً من الدرجة الرابعة”.
وفيما تحدّى المسؤول من سماهم “الطرف الآخر” بـ”عرض لوحة واحدة من أرشيف إيبلا الملكي [الرُقُم المسمارية]”، شدد نابو على أن “الرُقُم المسمارية موجودة وتم جردها وتوثيقها”. مضيفاً: “نحن حمينا الأرشيف الملكي، وهم [الحكومة السورية] دمروا المملكة ذاتها”.