أبعد من صراع مخلوف-الأسد: تغييرات جذرية تطال قطاع الاتصالات في سوريا
الخلاف بين قمة السلطة في سوريا ومخلوف بدأ كنزاع على شركة "سيريتل" التي تمثل درة التاج لمخلوف
15 يونيو 2020
عمّان – فاجأت سلسلة الفيديوهات الأخيرة التي نشرها ابن خال بشار الأسد ورجل الأعمال الأغنى في سوريا رامي مخلوف، الكثيرين، وأثار تكهنات بشأن مستقبل النظام السوري.
ورغم اتخاذه طابعاً شخصياً إلى حد كبير، فإن الخلاف بين قمة السلطة في سوريا ومخلوف بدأ كنزاع على شركة “سيريتل” التي تمثل درة التاج لمخلوف. ففي العام 2019، بلغت قيمة أرباحها الصافية 59 مليار ليرة سورية، ما يجعل منها شركة عملاقة في مجال الاتصالات، ومشغل الاتصالات الخلوية الأكبر في القطاع الخاص السوري.
في الفيديو الأول الذي نشره في 30 نيسان (أبريل) الماضي، زعم مخلوف أن الحكومة استهدفت شركته، وطالبتة بدفع مليارات الليرات السورية كضرائب مستحقة غير مدفوعة. وفي الفيديوهات اللاحقة، حملت نبرة مخلوف تحدياً للدولة، إذ احتج على قيام أجهزة حكومية بمداهمة مكاتب “سيريتل” واعتقال عدد من موظفيها.
بيد أن “سيريتل” لم تكن الشركة الوحيدة المستهدفة، وإن لم يُسلَّط الضوء على غيرها بالقدر ذاته. فقد طالبت الحكومة مشغل الاتصالات الخلوية الآخر “إم تي ان سوريا” أيضاً بتسديد ضرائب غير مدفوعة، وبحيث بلغ مجموع المبلغ المستحق على الشركتين 233.8 مليار ليرة. وعلى الرغم من استهداف مخلوف بشكل رئيس، فإن استهداف قطاع الاتصالات برمته يشير إلى أن الأمر أكبر من مجرد نزاع شخصي بين مخلوف والأسد. إذ إن “السياسة والاقتصاد في سوريا مترابطان على الدوام”، كما يقول أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة لوزان، جوزيف ضاهر، لـ”ـسوريا على طول”، و”من الواضح أن الحكومة بحاجة إلى مراكمة رأس المال، وهي لهذا السبب تحتاج إلى النفاذ إلى قطاع [الاتصالات] للوصول إلى أرباحه، إضافة إلى كون الأمر متعلقاً أيضاً بالسيطرة على الشبكات السياسية”.
بداية أحد أكثر الاستثمارات ربحية في سوريا
تسيطر شركتان من القطاع الخاص على قطاع الاتصالات في سوريا، هما “سيريتل” المملوكة لرامي مخلوف، و”إم تي إن سوريا” المملوكة من شركة اتصالات جنوب أفريقية يساهم فيها رئيس الوزراء اللبناني الأسبق نجيب ميقاتي. وكان ميقاتي ذاته يملك رخصة تشغيل الخلوي الأصلية، وتمتّع بعلاقات قويّة مع بشار الأسد.
وجسَّدت شركات مثل “سيريتل” و”إم تي إن سوريا”، كما شخصيات مثل مخلوف، الأهمية المتنامية لشركات القطاع الخاص في الاقتصاد السياسي لسوريا مع نهاية القرن الماضي ودخول القرن الحالي، لاسيما في مجالات العقارات، والتأمين، والاتصالات، والبنوك.
ووفقاً لقانون الاستثمار رقم 10 للعام 1991، تم فتح القطاعات التي كانت مغلقة أمام القطاع الخاص للمستثمرين السوريين والأجانب. واستفادت الشخصيات المقربة من النظام، مثل مخلوف، من هذه البيئة الاقتصادية المتغيرة، فأسسوا شركاتهم الخاصة، ولعبوا دور الوسطاء لرأس المال الأجنبي. واستطاعوا، بالتالي، تجميع ثروات هائلة يحتفظون بها، في كثير من الأحيان، في حسابات بنكية خارج البلاد.
وقد شهدت “سيريتل”، تحديداً، نمواً كبيراً جداً، حتى أنها باتت تعمل في باكستان، واشترت أسهماً في شركة اتصالات في اليمن، ما جعلها واحدة من الشركات السورية القليلة التي تتمتَّع بحضور دولي.
بيد أن “اللبرلة” الاقتصادية في سوريا لم تنطوِ يوماً على فرصٍ متكافئة لجميع المشاريع في البلاد. فالحد الأدنى لقيمة الاستثمار، وفقاً لقانون الاستثمار رقم 10، هو 10 ملايين ليرة سورية، أي ما يعادل حوالي ربع مليون دولار في حينه. وقد تم في كثير من الأحيان منح المشاريع التي حصلت على الموافقة إعفاءات ضريبية لمدة تتراوح بين خمس وسبع سنوات.
وفي العام 2000، تم تعديل القانون بحيث يُسمح للمستثمرين فتح حسابات بنكية خارج سوريا بالعملات الأجنبية، ونقل أرباحهم من البلاد وإليها بحرية. وفي الواقع، ساعد هذا القانون على زيادة مصادر الريع وتجميع ثروات هائلة من قبل المقربين من النظام. كما أدت العلاقات مع النظام إلى إعطاء الأولوية للمصالح الرأسمالية المحلية في حال نشوب نزاع، تماماً مثلما حدث مع “سيريتل” في بداية القرن الحالي.
إذ بدأت “سيريتل” كاستثمار مشترك مع “أوراسكوم”، وهي شركة مصرية كبيرة يملكها الملياردير المصري نجيب ساويرس. وقد امتلكت هذه الأخيرة 25% من أسهم “سيريتل”، لكنها لم تقدم رأس المال، وإنما الخبرة التقنية والفنية بشكل رئيس. إذ كانت “أوراسكوم حذرة إلى حدٍ ما بشأن مقدار الأموال التي ستلتزم بها، وفي النهاية لم تستثمر كما أراد مخلوف بسبب بنية الصفقة”، كما يوضح المحلل السياسي والاقتصادي في معهد تشاتام هاوس في لندن، ديفيد بتر، لـ”سوريا على طول”
وبعد نزاعٍ مالي بين الطرفين، قامت محكمة سورية بتجميد أصول “أوراسكوم” المحلية، والتي تقدر قيمتها بحوالي 49 مليون دولار. وخلال فترة الإجراءات القانونية، تم على نحو مستعجل تعيين إيهاب مخلوف، شقيق رامي مخلوف، ليتولى إدارة “سيريتل” في المرحلة الانتقالية. وقد أنهى الخلاف الشراكة مع “أوراسكوم”، ما أدى إلى تركيز السلطة بشكل أكبر في يد مخلوف.
صفقات أكثر من جيدة
زعم مخلوف في الفيديو الأول أن “سيريتل” تدفع أكثر من 12 مليار ليرة ضرائب سنوياً، بما يعكس ضخامة شركته وقدرتها على ملء خزائن الدولة. بيد أن الاطلاع على تفاصيل قطاع الاتصالات يرسم صورة أكثر تعقيداً للقطاع وعلاقته بالدولة.
ففي تسعينات القرن الماضي، مع بدء الدول منح رخص تشغيل الهاتف الخلوي، اتبع معظمها نظاماً يقوم على منح الرخص وفقاً لمزاد علنيّ بحيث يتم اختيار الشركة صاحبة العرض الأفضل. أما في سوريا ولبنان، فتم اللجوء إلى نظام مختلف، حيث اعتمدت الدولتان على ما يعرف بعقود “الإنشاء والتشغيل ونقل الملكية” (BOT)، كما اتسمت عملية طرح العطاءات بالغموض نسبياً. وكما يشرح بتر، كان ذلك “بشكل ما، أشبه بنظام شبه حكومي يُضِّر بالمستهلكين بسبب غياب المنافسة، ومستويات الاستثمار المتدنية”.
وحتى عندما سعت “سيريتل”، في العام 2003، إلى جمع مزيد من رأس المال عبر طرح أسهم للبيع، فإنها لم تستطع بيع سوى 15% فقط من الأسهم المعروضة، ما دفعها في نهاية الأمر إلى تمديد العرض واللجوء إلى مستثمرين من دول الخليج العربي لبيع السبعة ملايين سهم التي كانت عرضتها للبيع.
بعد سنوات قليلة، بدأ القطاع بجني الأرباح بالفعل. فبحلول العام 2007، ارتفع عدد المشتركين في “سيريتل” و”إم تي إن سوريا” إلى 4.6 مليون مشترك، بعد أن كان 400 ألف مشترك فقط في العام 2002. وشهدت “سيريتل” وحدها نمواً بنسبة 31.5% في العام 2005، وارتفعت أرباحها بنسبة تزيد عن 20% في السنوات اللاحقة.
لكن مخلوف لم يكن المستفيد الوحيد من هذا النمو في قطاع الاتصالات. إذ في العام 2006، بلغت مساهمة القطاع 3.7% في الناتج المحلي الإجمالي لسوريا، ووفر ما يقارب 21.6 مليار ليرة (430 مليون دولار) كرسوم ترخيص و17.6 مليار ليرة (350 مليون دولار) كضرائب. وتعادل هذه المساهمات حوالي 9% من الإيرادات في موازنة الحكومة، مشكلة مصدراً أساسياً لدخل الدولة مع تراجع إيرادات النفط في ذلك العام.
نصّ عقد “الإنشاء” والتشغيل وتحويل الملكية” الذي مُنح لشركتي الاتصالات في العام 2001، لمدة 15 عاماً، على أن قيامهما بزيادة مساهماتهما للحكومة على مدار 15 عاماً، بحيث تدفعان في السنوات الثلاث الأولى 30% من الإيرادات للحكومة، ومن ثم ترتفع هذه النسبة إلى 40% في السنتين الرابعة والخامسة، وصولاً إلى 50-60% في السنوات المتبقية.
وبحلول العام 2009، كانت الشركتان قد دفعتا 41.1 مليار ليرة (أو ما يعادل 900 مليون دولار تقريباً في حينه) كرسوم وضرائب للحكومة. لكن مع اقتراب انتهاء مدة العقد، قامت الشركتان بإعادة التفاوض حول الرخصتين مع الحكومة.
وفي صفقةٍ، هي في الواقع من طرفٍ واحد، قامت كلتا الشركتين بتحويل العقدين إلى رخص لمدة 20 عاماً، عبر دفع مبلغ 25 مليار ليرة كرسوم تُدفع لمرة واحدة (عندما تم الاتفاق على المبلغ في العام 2010، كان هذا المبلغ يُعادل 500 مليون دولار، لكنه أصبح يُعادل 150 مليون دولار فقط عندما تم دفعه بالفعل في العام 2014). في المقابل، يُسمح للشركتين بالاستمرار في عملهما في البلاد، على أن تنخفض النسبة المحوّلة إلى الدولة من الإيرادات تدريجياً. وقد تم خفض رسم الرخصة إلى 50% من الإيرادات للعام 2015، و30% للعامين 2016 و2017، وصولاً إلى 20 % للعام 2018 وحتى انتهاء العقد في 2034.
وبحسب وزير الاتصالات والتقانة (التكنولوجيا) عماد الصابوني في حينه: “وجدنا أنه سيكون أفضل بكثير لإيرادات الدولة شراء الشركتين رخصتيهما الآن”. فيما كان من المتوقع دخول مشغل ثالث للسوق، ما يعني إمكانية تعويض أي خسائر محتملة في الإيرادات.
وقامت الحكومة السورية برفع أسعار خدمات الهواتف الخلوية ثلاث مرات على المستهلكين، في الأعوام 2013 و2015 و2016. لكن بسبب طبيعة الصفقة، فقد استفادت “سيريتل” و”إم تي إن سوريا”، وليس الحكومة السورية، من هذه القرارات. علاوةً على ذلك، لم يدخل المشغل الثالث إلى السوق، وفقدت الحكومة بشكل متزايد مصدراً مهماً للأموال.
وبحسب “سيريا ربيورت”، وهي مطبوعة اقتصادية متخصصة، شكلَّت هذه الصفقة خسارة عظيمة لخزانة الدولة السورية. وبسبب خفض النسبة المدفوعة من الإيرادات كرسوم ترخيص، تُقدّر قيمة ما فقدته الحكومة بـ200 مليار ليرة من الإيرادات ما بين العامين 2015 و2018، والذي يساوي تقريباً الأموال المطلوبة اليوم من “سيريتل” و”إم تي إن سوريا”.
ونظراً إلى أن الحكومة أدركت فقدانها مصدراً مهماً للإيرادات، فإن التحركات الأخيرة تشير إلى حكومة مفلسة بشكل متزايد، تسعى إلى إعادة ترتيب شبكات القوى السياسية والاقتصادية في البلاد. وكما يقول بتر: “قد تكون هذه بمثابة تغيير بأثر رجعي لقواعد اللعبة. إذ كانت، على الأرجح، تميل بشكل كبير لصالح “سيريتل” و”ام تي ان سوريا”. وقد يكون النظام راغب في استعادة بعض الأموال، [إلا أن ذلك] لا يبعث رسالة جيدة لمجتمع الأعمال. لكننا أيضاً نتحدث هنا عن دولة لا يوجد فيها سوى واجهة كاذبة لتنظيم الأعمال”.
إعادة هيكلة القطاع
في الوقت الذي سُلِّطت فيه الأضواء على مخلوف وممتلكاته، كان قطاع الاتصالات قد شهد تغيّرات عميقة منذ العام 2019، عندما بدأت الحكومة بالبحث عن طرقٍ جديدة لزيادة إيراداتها.
في صيف ذاك العام، انتشرت شائعات بأن مخلوف، وحتى بعض إخوته، وُضعوا تحت الإقامة الجبرية، لكن لم يتم تأكيد هذا الأمر بشكل رسمي إطلاقاً. قبل ذلك، في أيلول/سبتمبر 2018، طلبت هيئة مكافحة غسيل الأموال ومحاربة الإرهاب من البنوك المحلية تقديم الكشوفات البنكية لكل من “إم تي إن سوريا” و”سيريتل” للفترة ما بين كانون الثاني/يناير 2017 وأيلول/سبتمبر 2019. ثم قام المصرف العقاري السوري، أحد أكبر البنوك المملوكة للدولة، بتجميد الحسابات البنكية لـ”سيريتل” والشركات التابعة لها. وبعد شهرين، قامت الحكومة بتجميد الأصول التابعة لـ”إم تي إن سوريا”، بالإضافة إلى رئيس وأعضاء مجلس إدارتها.
وسط هذه التغيرات العميقة، تنحى نائب رئيس “إم تي إن سوريا”، باسم التاجي، من منصبه، لتحل محله نسرين ابراهيم، التي تمثل شركة “تيلي إنفيست” المُسجَّلة في جزر كايمان والتابعة لمجموعة “دلة البركة القابضة” السعودية، وتملك 24% فقط من أسهم “إم تي إن سوريا”. وقد اشترت أسهماً في “إم تي إن سوريا” عندما كانت تعرف باسم “سبيس تل”، ويتوقع البعض أن “تيلي انفيست” تمثل مصالح النظام عبر ابراهيم.
والشهر الماضي، شهد القطاع ذو الأرباح العالية إجراءاتٍ أكثر جذريةً. فبعد أن طلبت الحكومة السورية من شركتي “إم تي إن سوريا” و”سيريتل” دفع مبلغ 200 مليار ليرة كرسوم مستحقة، استقال رئيس مجلس إدارة الأولى بشير المنجد، بالإضافة إلى عضوين آخرين من مجلس الإدارة، هما نصير سبح وجورج فاكياني.
وبعد أسبوع واحد، نقلت وكالة الأنباء السورية “سانا”، في 17 أيار/مايو، إعلان الهيئة الناظمة للاتصالات والبريد والذي ذكر أنه “يتم استكمال العمل مع شركة “إم تي إن سوريا” بكل شركائها والانتقال للمرحلة الثانية الخاصة بتحديد آلية تسديد المبالغ المستحقة على الشركة لإعادة التوازن للترخيص الممنوح لها”.
في اليوم التالي، أعلنت “تيلي إنفيست” أنها مستعدة لدفع كامل مبلغ الرسوم المستحقة على الشركة للهيئة، ما يعني أن “تيلي إنفيست” ستكون الجهة المالكة الجديدة لرخصة تشغيل الهاتف الخلوي. وإذا ما تم ذلك، فستكون هناك شركة مرتبطة بالسعودية مسؤولة عن إدارة واحد من أكبر عقود القطاع الخاص في سوريا.
لكن في اليوم ذاته، أعلنت إدارة شركة “إم تي إن سوريا” أنها تدرس طلب دفع رسوم الرخصة، الأمر الذي يناقض مزاعم “تيلي إنفيست”، ويثير الغموض بشأن هوية الجهة المسؤولة عن تشغيل الرخصة.
على الرغم من ذلك، ما تزال هوية المالك الحقيقي لشركة “تيلي إنفيست” غير واضحة؛ فهل هي مملوكة بالفعل لمجموعة “دلة البركة القابضة” السعودية، أم أنها تمثل شخصيات مقربة من النظام؟
وقد توفي مالك “دلة البركة”، الشيخ صالح كامل الذي يعد من أغنى رجال الأعمال في السعودية، في 18 أيار/مايو الماضي أزمة قلبية. علاوةً على ذلك، يُزعم أنه فقد الكثير من ممتلكاته بعد اعتقاله في فندق الريتز كارلتون، في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2018، في إطار حملة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ضد “الفساد الممنهج”، ما يقلل من احتمالية أن تكون “تيلي إنفيست” ممثلة بالفعل لمصالح “دلة البركة”.
وعلى نحو مماثل لـ”إم تي إن سوريا”، شهدت “سيريتل” هي الأخرى تغيرات جذرية في هيكلها الإداري خلال الفترة القليلة الماضية. ففي 16 أيار/ماضي الماضي، نشرت الهيئة الناظمة للاتصالات والبريد رسالة من المدراء التنفيذيين للشركة يذكرون فيها أنهم وافقوا على طلب الحكومة رفع رسوم رخصة الشركة إلى 50% من الإيرادات. ورداً على ذلك، استقال نائب رئيس مجلس إدارة الشركة إيهاب مخلوف، ثم تبعه عضو مجلس الإدارة محمد جليلي.
تالياً، وبناءً على طلب الهيئة الناظمة للاتصالات والبريد، قامت سوق دمشق للأوراق المالية بتجميد أسهم مخلوف كافة في الشركات المدرجة في السوق، بما في ذلك الأسهم ذات القيمة العالية في 12 من أصل 14 بنكاً خاصاً في سورياً. ويُفترض أن يظل هذا التجميد نافذاً إلى أن يقوم مخلوف وشركته بدفع الرسوم المطلوبة من الهيئة والمتعلقة برخصة “سيريتل”.
وفي ظل إعادة هيكلة قطاع الاتصالات برمته، يبدو أن الحكومة السورية تهدف إلى إعادة تنظيم القوة الاقتصادية في البلاد، بهدف تعزيز مصادر الريع والثروة. وبدلاً من اختزال الأزمة في كونها خلافاً شخصياً بين مخلوف والأسد، أو تنافساً ما بين الروس والإيرانيين، فإن التغيرات التي طرأت على مدار العام الماضي تشير إلى رغبة الحكومة في تهميش طبقة رأس المال التي كانت مسيطرة في فترة ما قبل الحرب واستبدالها بشبكات رجال أعمال جدداً.
في هذا السياق، يرى ضاهر أنه “بخلاف ما حدث في العامين 2014 و2015؛ عندما خسر النظام سيطرته على أجزاء مهمة من الجغرافيا [السورية]، وكان موقفه التفاوضي ضعيفاً، فإنه يشعر الآن بأمانٍ أكبر يسمح له باتخاذ تدابير عدائية. وقد دفع الوضع الاقتصادي السيء النظام إلى تجميع رأس المال من خلال استهداف واحد من القطاعات الأكثر ربحيةً وشبكاته السياسية”.
المشغل الثالث
هناك إجابات متعددة حول كيفية قيام النظام بإعادة تنظيم القوة الاقتصادية وتقوية شبكة الأعمال المرتبطة به. ومن ثم، يرى بعض المتابعين أن المشغل الحكومي “السورية للاتصالات” قد يحل محل “سيريتل” و”إم تي إن سوريا” ويستحوذ على أصولهما. لكن إن كان التاريخ يحمل أي دلالة، فإن إفساح المجال أمام مشغل ثالث يتمتع بعلاقات أفضل مع الحكومة، قد يكون هو الخيار الأكثر احتمالية، وإن لم يكُن ذلك متوقعاً في المستقبل القريب.
عندما وقعت كل من “إم تي إن سوريا” (وكانت تحمل اسم “سبيس تل” حينها) و”سيريتل” عقد “الإنشاء والتشغيل ونقل الملكية” لمدة 15 عاماً في العام 2000، نص العقد على عدم إدخال الحكومة منافساً جديداً إلى السوق إلا بعد مرور سبع سنوات من تاريخه.
بيد أنه في العام 2005، بدأت وزارة الاتصالات والتقانة، والتي كان يتولاها في حينه بشير المنجد، بتحضير وثائق العطاء لمشغل ثالث للهواتف الخلوية، وكانت التكهنات تشير إلى أن “السورية للاتصالات” مهتمة بالرخصة الجديدة.
وفي العام 2007، قالت “السورية للاتصالات” إن المشغل الثالث سيدخل السوق على الأرجح بحلول العام 2009، مؤكدة أنها مهتمة بتشغيل الشبكة بنفسها، لكنها ما تزال تدرس السوق. في الوقت ذاته، كانت شركات دولية مثل “فودافون” و”إم تي سي” الكويتية و”اتصالات” الإماراتية، مهتمة أيضاً بالعمل في السوق السوري المتنامية.
لكن لم تقم الحكومة بطرح العطاء لمشغل الهواتف الخلوية الثالث إلا في العام 2010. وقد وقع الاختيار الأولي على خمس من أصل ست شركات تقدمت بعروض، هي: الاتصالات السعودية، و”كيوتيل” القطرية (التي صار اسمها لاحقاً Ooredoo)، و”فرانس تيليكوم” (التي أصبحت تعمل تحت اسم “أورانج”)، و”تُركسل” التركية.
وفي آذار/مارس 2011، انسحبت كل من “فرانس تيليكوم” و”اتصالات” و”تركسل” من المنافسة قبل انتهاء الموعد النهائي بأيام، لأنها اعتبرت الشروط غير مناسبة لها. وقد فُهم في حينه أن على المشغل الجديد دفع 25% من إيراداته للحكومة.
بعد ذلك، اندلعت الاحتجاجات في جميع أنحاء سوريا، وقامت الحكومة بتأجيل العطاء للمشغل الثالث إلى أجل غير مسمى. ثم عاد وزير الاتصالات والتقانة، علي الظفير، بعد مرور خمس سنوات على توقف الحديث عن الأمر، ليعبّر، في العام 2016، عن رغبة الحكومة في منح رخصة لمشغل ثالث. وفي كانون الثاني/يناير 2017، زار رئيس الوزراء السوري عماد خميس إيران، ووقَّع مذكرة تفاهم مع طهران، مانحاً رخصة التشغيل الثالثة لشركة الاتصالات الخلوية الإيرانية (والمعروفة باسم علامتها التجارية “Hamrahe Aval”).
على الرغم من ذلك، أثار الظفير في وقتٍ لاحقٍ من ذاك العام الشكوك حول احتمالية وجود مشغل الثالث. وفي النهاية، تم تأجيل الصفقة لسبب غير واضح، لكن إشاعات أفادت بأن دمشق كانت متخوّفة من فكرة وجود شركة مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني قادرة على الوصول إلى نظام الاتصالات السوري.
لاحقاً، في شباط/فبراير 2019، عادت القضية إلى التداول ، عندما ذكر وزير الاتصالات والتقانة إياد الخطيب أمام مجلس الشعب أن المفاوضات بين سوريا وإيران جارية، لكنها لم تُسفر بعد عن نتائج ملموسة. ويرى ضاهر أن “وجود شركة مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني أمر جلل من وجهة نظر أمنية. وقد يكون مخلوف من ضمن الذين عملوا ضد تنفيذ الفكرة أيضاً”، مرجحاً “أن الصفقة لم تتم لهذا السبب في النهاية”.
بيد أن القضية عادت إلى السطح مرة أخرى في ظل الأزمة التي يعاني منها قطاع الاتصالات اليوم. إذ قال عضو البرلمان الإيراني حشمت الله فلاحت بيشه، مؤخراً، إن إيران أنفقت ما بين 20 إلى 30 مليار دولار في سوريا، وأنها تريد استعادة هذه الأموال في المستقبل.
وفيما لم يستبعد ديفيد بتر بشكل نهائي احتمالية منح الرخصة الثالثة لمشغل إيراني، إلا أنه أيضاً بقي حذراً متحفظاً بشأن ذلك، إذ “لا أرى دليلاً على مفاوضات ملموسة لرخصة ثالثة” كما يقول، وقد “حدث أمر مشابه بخصوص امتياز في مجال النفط، حظي ببعض الاهتمام لأنه نوقش في مجلس الشعب [السوري]، لكن هذا لم يحدث في هذه الحالة. وإذا ما حدث هذا الأمر بالفعل، فسيكون سداداً لديون لأنه لا يُتوقع أن يدفع الإيرانيون [مقابل رسوم الرخصة]”.
لكن هناك بديل آخر، يتمثل في حشد شبكات الأعمال التابعة للنظام لتشغيل الرخصة الثالثة في البلاد.
وقد كان هناك حديث عن أن شخصيات مثل أسماء الأسد، وقريبها مهند الدباغ، أو سامر الفوز، مهتمون بمثل هذا الاستثمار. لكن يظل مثل هذا الحديث مجرد إشاعات لا تستند إلى أدلة.
في السياق ذاته، وفيما لا يستبعد ضاهر الاحتمال السابق نهائياً، فإنه يلفت إلى أن “تحدي سيطرة “سيريتل” على السوق ليس سهلاً، ويتطلب الكثير من الاستثمارات”، و”في الفترة التي لا يسيطر فيها النظام على سوريا بأكملها، فإن الاستثمار يحتاج إلى رأس مال كبير وشبكات في مختلف المناطق. وهذا أمر ليس سهلاً على الإطلاق”.
تم نشر أصل هذا التقرير باللغة الإنجليزية، وترجمته إلى العربية لينا شنك