أحلام اللاجئين السوريين في مخيم عراقي تتوقد بـ”السينما والتمثيل”
في كردستان العراق، يمنح مهرجان سينمائي دولي اللاجئين السوريين فرصة الاستمتاع بالسينما والمشاركة في صناعة أفلام نمت أفكارها من المنطقة
13 ديسمبر 2022
دوميز- كان من المحال تهدئة عشرات الأطفال المتراكضين في أروقة قاعة العرض، بعد أن انطلقوا فتياناً وفتيات في سن المدرسة بحماس، مندفعين في أسراب إلى الداخل، يطوون كراسي المسرح تارة ويعيدون فتحها تارة أخرى وأصوات ضحكاتهم تعلو المكان، بينما يسير الكبار بخطى هادئة ويجلسون على مقاعدهم بانتظار عرض الفيلم.
في النهاية، استسلم عبد الرحمن والمتطوعون الآخرون، الذين يرشدون الحضور إلى مقاعدهم، وقطع الضجيج قائلاً: “فقط اصبروا إلى أن يبدأ الفيلم”، قالها بابتسامة عريضة وهو يهزّ كفيه، في إيماءة تشير إلى عبثية الكلام، وأضاف: “تزداد الفوضى. إنّهم متحمسون جداً، وطيلة وقتهم يركضون إلى داخل القاعة وخارجها، ومهمتنا الرئيسية تهدئتهم”.
بدت القاعة المجهزة بشاشة عرض كبيرة ومئتي مقعد مسرحيّ مخمل أحمر كما لو أنها دار سينما حقيقية، ويمكن الاختلاف الوحيد في موقعها، الكائن في مخيم للاجئين السوريين بالعراق. لم يسبق للعديد من هؤلاء الأطفال، الذين يحومون بصخب في الممرات، أن حضروا عرضاً سينمائياً من قبل.
موقع العرض هو عبارة عن صالة كبيرة للمناسبات، عادة تستخدم لإقامة حفلات الأعراس ومجالس العزاء، تم تجهيزها في غضون أسابيع لإطلاق مهرجان دهوك السينمائي الدولي، الذي يُقام سنوياً في مدينة دهوك بإقليم كردستان العراق ذي الحكم الذاتي، منذ عام 2021، حيث تُعرض عشرات الأفلام في المهرجان، الذي يشكل ملتقىً لصانعي الأفلام الكرد من داخل المنطقة وخارجها وكذلك الأجانب.
حتى هذه السنة، كانت الأفلام تُعرض في جامعة دهوك وفي السينما الوحيدة الموجودة في المدينة، وهي دارٌ قديمة تضم ثلاثة مسارحٍ صغيرة، ولكن العرض في عام 2022، الذي استمر من الأول إلى الثامن من كانون الأول/ ديسمبر، كان مختلفاً.
“قررنا أن نعرض بعض الأفلام السينمائية الكردية في مخيم دوميز، لبناء جسر بين اللاجئين والمهرجان”، كما قال المدير الفني للمهرجان، شوكت أمين كوركي، لـ”سوريا على طول”. دوميز 1 هو أكبر مخيم للاجئين في إقليم كردستان العراق، يقع على مشارف دهوك، ويأوي 30 ألف لاجئ سوري، فيما يأوي دوميز 2 المجاور له نحو عشرة آلاف لاجئ.
إدخال الفن إلى المخيم
انبثقت فكرة نقل المهرجان إلى دوميز من موضوع العرض المطروح لهذا العام، وهو “الهجرة”، كما أوضح كوركي، قائلاً: “نتيجة لما حدث في هذا الجزء من العالم، ونظراً لاستمرار ارتفاع معدلات الهجرة على مدى السنوات الماضية، ولأنّ منطقتنا تضم الكثير من مخيمات اللجوء والنزوح، وبسبب الحرب في أوكرانيا، شكلت الهجرة موضوعاً عالمياً”.
شعر المنظمون أنَّ هذا الموضوع سيكون له وقعه الخاص على أهالي مخيم دوميز، اللاجئين السوريين الفارين من بلادهم جرّاء الحرب السورية، وكذلك الناس الذين يعيشون في مخيمات لجوء ونزوحٍ أخرى حول دهوك.
ولكن حضور هذا الجمهور من اللاجئين إلى دور السينما ليس سهلاً، لأن “المخيمات بعيدة نوعا ما، ويصعب على الأهالي السفر إلى المدينة كل يوم من أجل مشاهدة الأفلام”، على حد قول سامان مصطفى، منسق المهرجان، لـ”سوريا على طول”.
وعليه، “قررنا أن نأتي بالسينما إليهم في المخيم”، رغم صعوبة ذلك، لأن إيجاد موقع لتنظيم المهرجان يشكل تحدياً دائماً بالنسبة للمنظمين في مدينة دهوك، التي لا يوجد فيها سوى سينما تجارية واحدة. لذلك، كان الخيار الوحيد في دوميز، تجهيز قاعة فارغة من الصفر، “ورغم ذلك، رأينا أنها أفضل من لا شيء”، وفقاً لكوركي.
غرفة مكتظة
أثمرت جهود تنظيم المهرجان، ولاقت العروض السينمائية إقبالاً شعبياً، لدرجة أن القاعة خلال أسبوع المهرجان “كانت ممتلئة في كل الأيام”، بحسب مصطفى، قائلاً: “الجمهور أذهلنا”، وكان معظم الحضور من العائلات والأطفال، رغم أن الأفلام المختارة للعرض من فئة الوثائقيات والأفلام الروائية الطويلة التي تُسرد بوتيرة بطيئة، وقد يصعب على الشريحة الأصغر سناً من الجمهور الاستمتاع بمشاهدتها.
بعد عرض فيلم “قبل الليل“، في 6 كانون الأول/ ديسمبر، وهو فيلم روائي طويل تم إنتاجه في المنطقة الكردية بتركيا، تحدث رواد المهرجان، الذين قابلتهم “سوريا على طول”، بإيجابية عالية عن المهرجان، رغم عدم ارتياح البعض للأفلام التي تخالف الثقافة السائدة والأعراف الاجتماعية.
“أحببت فيلم الليلة، وأشكر المنظمين على عرضه لنا”، قال رمضان، شاب في مطلع العشرينيات، ولكن من وجهة نظره “كان هناك بعض المشاهد التي يجب ألا يتضمنها الفيلم”. في أحد المشاهد تلك الليلة تعالت شهقات الجمهور عندما عرضت لوحة كبيرة لامرأة عارية على الشاشة.
ربما كان يُشير رمضان أيضاً إلى المشاهد التالية، التي أظهرت الشخصية الرئيسة في الفيلم، وهي شابة كردية، مستلقيةً على السرير مع عشيقتها تشربان الكحول. ولكنَّ روجن، شابة في الثامنة عشر من عمرها، وتتردد لمشاهدة العروض يومياً، قالت أن المشاهد لم تكن صادمة لها “فهذه القصص تحدث في كل مكان حول العالم”.
فرصة للتمثيل
على مر السنين، استقطب مهرجان دهوك العديد من المخرجين الكرد والأجانب، وعاد العديد منهم لتصوير الأفلام في المنطقة، ما خلق فرصاً للبعض في المخيم، مثل سوسن، وهي شابة ثلاثينية، مقيمة في المخيم، وتعمل منذ ثلاث سنوات في التمثيل بالأفلام بشكل متقطع، مقابل 13 دولاراً عن كل يوم تصوير.
“كنت أريد أن أجرّب التمثيل منذ طفولتي، ولكنني لم أتخيل يوماً أن يتحقق هذا الحلم، خاصةً بعد أن تزوجت ورُزقت بأطفال”، قالت سوسن، الأم لثلاثة أطفال، التي تنحدر من ريف القامشلي، شمال شرق سوريا.
من أهم المشاهد التي شاركت فيها سوسن، وما تزال محفورة في ذاكرتها، كانت ضمن “فيلم العروس”، دراما خيالية لعام 2022، تروي قصة امرأة أوروبية شابّة تتزوج من مقاتل في تنظيم “داعش”، وتُحاكم في العراق كونها جزءاً من تنظيم داعش.
عُينت سوسن وقرابة 50 امرأة أخرى من مخيم دوميز للعب دور زوجات وأمهات شخصياتٍ من تنظيم “داعش” ينتظرن المحاكمة.
“عندما ارتديت ملابسي المخصصة لهذا الدور، شعرت بالرعب. لم يسبق لي يوماً أن ارتديت النقاب”، واصفةً تجربتها بأنها “كانت غريبة”.
انتهز علي حجي، الذي مثلّ دور جندي كردي في الفيلم ذاته، فرصة العمل في التمثيل لمواصلة أحلامه وهرباً من الضجر والبطالة في المخيم، كما قال لـ”سوريا على طول، مضيفاً: “لقد مثلت في العديد من الأفلام، لكن فيلم العروس كان المفضل لي من بينها كوني، لعبت فيه دور جندي”.
“كنت أرتدي زي جندي عراقي يحرس سجناء داعش. أحببت هذا الدور، لأنني كنت من البشمركة، حتى أنني أصبت في الحرب. لكنني تركت الجيش، ولم يعد أمامي الكثير من الفرص الآن”، قال حجي، وبريق الفرح يرتسم في عينيه.
ولادة مجتمع محب للتمثيل
تصوير الأفلام داخل المخيم فتح أبواباً لشريحة مجتمعية داخله يستهويها التمثيل، ومنهم على سبيل المثال محمد مسلميني، المعروف باسمه الفني “كنجو”، وهو سوري كردي من بلدة القحطانية (تربيسبي) بريف الحسكة، حيث استكمل مشواره الطويل في التمثيل، الذي بدأ قبل خمسين عاماً في سوريا، والآن في المخيم.
“لم يكن لدينا في سوريا مجال للتمثيل، لأنها بلد تفتقد للحرية”، بحسب كنجو، مستذكراً أول فيلم شارك فيه آنذاك، عندما “تواجد عنصر من الأمن على باب منزلنا في اليوم التالي”. في هذا الوسط الفني المقيد، يفضل كنجو أن يبقى بعيداً عن الأضواء، ويوجه تركيزه نحو التمثيليات الصغيرة والمسرحيات التي قلّما تستقطب العيون [الرقيبة] عليها فلا تخلق بلبلةً هو بغنىً عنها.
وأضاف: “قدمنا عروضاً داخل المنازل وداخل مجتمعنا وخلال الاحتفالات، خلال عيد النوروز مثلاً، وغيره من المهرجانات الكردية”.
منذ وصوله إلى دوميز في عام 2012، حافظ كنجو على شغفه بالتمثيل إلى جانب عمله بأعمال أخرى، فيلتحق في يومين أسبوعياً إلى كادر تمثيلي صغير يُؤدون التمثيليات والمسرحيات الهزلية داخل المخيم، كما أنهم ينشرون فيديوهات على اليوتيوب أيضاً.
يشكل التمثيل بالنسبة لكنجو جسراً مهماً بين الحياة داخل المخيم والعالم الخارجي، فـ”عاداتنا هنا مختلفة، والصعوبات التي نواجهها مختلفة”، لذلك “من خلال أدائنا التمثيلي، نملك فرصة عرض حياتنا وواقعنا الخاص للعالم”، بحسب قوله.
ولكن لا يحظى الجميع بهذه الفرص بالتساوي، فما يزال بمثابة “وصمة” في بعض العائلات، خاصة ما يخصّ النساء. وفي ذلك، عبّرت سولين عن امتنانها لزوجها “لأنه لا يحول دون تحقيقي لهذا الحلم”، لكن “ليست كل عائلتي داعمة”، كما أوضحت.
رغم شغف علي بالتمثيل، إلا أنَّه يضيق ذرعاً بفكرة الأداء التمثيلي لزوجته أمام الكاميرا، قائلاً: “لا أريدها أن تمثِّل. في مجتمعاتنا من المعيب أن تغادر امرأة متزوجة بيتها للعمل، لأن ذلك يعني أن الزوج لا يقدم كفاية”، بحسب قوله.
واستدرك علي “إن أرادت العمل، قد لا أعارض عملها، ولكن ليس في التمثيل لأنها ستكون محط أنظار الجميع وحديثهم”.
رغم الأراء والردود المختلفة، إلا أنّ الشريحة المعنية في التمثيل داخل المخيم تتسع سنةً بعد أخرى، بفضل المهرجان، الذي خلق صلات فنية جديدة في دوميز، وفتح أفاقاً جديدة لبعض قاطنيه.
يعد نقل المهرجان إلى دوميز هذا العام خطوة أخرى جديدة، تتيح لأهالي المخيم دخول عالم فني جديد، ليواصلوا أحلاماً ما كان لهم أن يحققوها بغير ذلك. قال كنجو: “نحن سعداء بإحياء المهرجان هنا هذا العام، ونشعر بأننا غير منسيين وما زال الناس يفكرون بنا”.
تم نشر هذا التقرير أصلاً في اللغة الإنجليزية، وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور.