أن تفقد كامل عائلتك في ليلة: ناج يستذكر وقائع مجزرة الكيماوي في غوطة دمشق
يظل الأشد وطأة بالنسبة للناجين من مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية، مثل ضياء الدين الشامي، واصفاً شعوره بـ"شعور قهر، أسى، وجع. شعور مختلط لا يمكن وصفه. والله لا يمكن وصفه".
23 أغسطس 2020
عمان- “عجوز في آخر العشرينات”، عرف عن نفسه ابن مدينة زملكا في الغوطة الشرقية، ضياء الدين الشامي. فهو وإن نجا من الموت خنقاً بغاز السارين يوم 21 آب/أغسطس 2013، لكن بقيت تلك الجريمة التي نفذها النظام السوري “سكيناً غرزت في قلبي وقلب كثير من الناس فقدوا أحبابهم وآباءهم وأمهاتهم وأهلهم”، كما يقول لـ”سوريا على طول”، وبحيث ستبقى “بالنسبة لنا جرحاً لا يندمل، جرحاً محفوراً في ذاكرتنا وقلوبنا لا يمكن أن ينسى”.
فقبل سبع سنوات، استهدف النظام السوري غوطتي دمشق الشرقية والغربية بنحو 10 صواريخ محملة بغاز السارين السام، ما أدى إلى ارتقاء 1,127 مدنياً، منهم 107 أطفال و201 امرأة، بينهم عائلة ضياء الدين.
وكما يستذكر ضياء الدين في شهادته تفاصيل المجزرة: فقد “كنت نائماً مع أهلي. وعند الساعة الثانية إلا ربعاً بعد منتصف الليل سمعنا صوتاً غريباً للصواريخ”. إذ كما يوضح “عشنا جو القصف ونعرف القذيفة وصوتها، حتى إننا نعرف نوعها من صوتها، وكذلك اتجاهها. لكن هذا الصوت في 21/ 8 كان غريباً”.
للوهلة الأولى ظنّ ضياء الدين وعائلته أن الصواريخ “معطلة، فالصوت خفيف، كما لا نسمع انفجاراً”. لكنه مع ذلك صوت “مرعب إلى حدّ كبير”.
بعد قليل وقت “صار نفسنا يضيق”، كما يصف، قبل أن تصرخ شقيقته الكبرى: “هذا غاز كيماوي”. عندها سارعت العائلة إلى “إغلاق الشبابيك، ووضعنا أقمشة مبللة بالمياه على أنوفنا. لكن نفسنا صار يضيق أكثر”. لذلك اقترح شقيق ضياء الدين الصعود إلى سطح المنزل “لأن الغاز الكيماوي ثقيل، وقد يكون صعودنا هو الحل الأفضل”.
أخذت العائلة بتسلق أدراج البناء المكون من خمسة طوابق، وكان أفرادها على الترتيب “أمي وأخي الصغير في المقدمة، بعدهما أختي الكبيرة بين البنات، ومن ثم أنا، وخلفي أختي الوسطى بين البنات، ومن ثم الصغيرة، وأخيراً كان أخي الكبير”.
غير أنه “لما وصلنا إلى الطابق الثالث وقعت أمي، فحضَنها أخي الصغير مباشرة. عندها صرخت أختي الكبرى: أمي، ثم وقعت”. في هذه الأثناء استدار ضياء الدين ليتفقد من خلفه، وقد “وجدت أختي الصغيرة تجلس على الأرض وتصرخ بأعلى صوتها. كان تقول وصوتها مبحوح من الغاز: يا الله لم أعد أرى… يا الله لم أعد أرى. بينما أختي الوسطى كانت ملقاة على الأرض ترتجف ويخرج الزبد من فمها”.
كانت لحظات، لكنها تفوق الوصف في ثقلها، مرّت على ضياء الدين وهو يقف مع شقيقه الأكبر حائرين بشأن ما يفعلان. في الأثناء “استند [شقيق ضياء الدين] على الحائط، ثم وقع ولم يعد له حسٌ ولا خبر”. عندها أكمل ضياء الدين صعوده إلى السطح. ويقول اليوم مستغرباً: “ما الشعور الذي دفعني إلى إكمال صعودي إلى السطح؟ لا أعرف. وصلت إلى السطح وفقدت الوعي وقتها”.
استيقظ ضياء الدين لاحقاً على فاجعة فقدان أفراد أسرته جميعاً: “أهلي كلهم استشهدوا، أمي، ثلاث أخوات بنات، وأخوين شباب، مجموعهم ستة أشخاص”. أما مجموع أقاربه الذين قضوا في المجزرة “فيزيد عن 35 شخصاً، والمصابون لم أعد أذكر عددهم”.
جريمة مستمرة
مضت سبع سنوات على ذلك اليوم، لكن “غاز الكيماوي ما زال في دمنا” يقول ضياء الدين. وهو لا يعني ذلك مجازاً. فإضافة الآثار النفسية هناك “آثار جسدية إلى الآن”، مستشهداً بحادثتين. الأولى، هي “إنجاب امرأة من الغوطة الشرقية بعد تهجيرها إلى شمال غرب سوريا طفلاً مشوهاً بسبب الكيماوي”. أما الثانية، فتتمثل في رفض المشافي بتركيا، حيث يقيم ضياء الدين الآن، “تبرع السوريين بالدم بذريعة أن بلادنا تعرضت للقصف بالكيماوي”.
ويظل الأشد وطأة بالنسبة للناجين، مثل ضياء الدين، تلك الآثار النفسية. فهو لا يستذكر المجزرة في ذكرى وقوعها بل في “السنة كلها، ولكن يزداد الشعور في هذا الشهر”. وهو “شعور قهر، أسى، وجع. شعور مختلط لا يمكن وصفه. والله لا يمكن وصفه”. مضيفاً: “لا أحد يسألني ما هو الشعور. أنا كشخص أكتب، [لكن] مهما كتبت، ومهما جفّت أقلام، لن أستطيع وصف الشعور بالرغم من أني عشته. لا أقدر على وصفه”.
العدالة آتية
لم يسبق لضياء الدين الإدلاء بشهادته عن المجزرة لأي منظمة حقوقية، إلا أنه تم التواصل معه من قبل المركز السوري للإعلام وحرية التعبير في ألمانيا، قبل حوالي عام، “وطلبوا شهادتي … لكن لم يتم ذلك حتى الآن”.
ورغم استعداده للإدلاء بشهادته، فإن ضياء الدين “كمتضرر أو ضحية غسلت يديّ [يئست] من أن تتم محاكمة [المجرم]. غسلت يديّ من القصة، كلهم شركاء. المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية والإنسانية [الدولية] كلهم شركاء”. معتبراً أن وقوف هؤلاء “في وجه بشار الأسد يعني بالضرورة أن يقفوا في وجه حكومات وأنظمة حاكمة وقوى عظمى، ولا أعتقد أو مستحيل أن يحاكموه”.
وحتى إن حوكم بشار الأسد دولياً، فأقصى ما يمكن فعله برأي ضياء الدين هو “نفيه إلى خارج البلد، ومن ثم العمل على انتقال سياسي. يعني أنه سيبقى [على قيد الحياة] وثروته التي جناها ستبقى أيضاً، أما حقوق الناس فستضيع”. مستدركاً: “لكن إذا نحن كشعب ثرنا كثورتنا الأولى [العام 2011] فسيحاسب بأيدينا”.
“نحن لن نسامح الآن، ولا غداً، ولا بعد مليون سنة. نحن لن نسامح. وجعنا معروف، والمجرم معروف، وسنحاسبه اليوم أو بعد مليون سنة”، يؤكد ضياء الدين.