6 دقائق قراءة

استجابة بطيئة وحلول غائبة: مكب نفايات يلوث مياه آبار شمال إدلب

تأثر سكان قرية الهباط، 1500 نسمة، وقرية الصنمة، 700 نسمة، بتلوث مياه الآبار القريبة، التي تلوثت بسبب مكب نفايات الهباط، الذي كان مقلع حجر


18 يونيو 2024

إدلب- على بعد عشرة كيلومترات من مدينة معرة مصرين شمالي إدلب، يظهر مقلع قرية الهباط كمنعطفٍ قاسٍ، خلفه هوّة سحيقة، لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه بسبب عمق القاع الذي يصل إلى 60 متراً، وقد تحول المقلع منذ عام 2018 إلى مكبّ نفايات.

تحويل مقلع الحجر إلى مكب نفايات رئيسي للمنطقة، أدى إلى تلوث مياه الآبار الجوفية المحيطة به، وتضرر القرى القريبة منه، لاسيما قريتي الصنمة والهباط الواقعتين على بعد 300 مترٍ تقريباً، كما اشتكت عدة مصادر لـ”سوريا على طول”.

تبلغ مساحة المقلع 14 دونماً، وهو ملكية عامة يعود تاريخه إلى عام 1982، كان يُستخدم لاستخراج الحجر ومواد البناء عن طريق تفجيره بالديناميت، نظراً لطبيعته الحجرية.

“مياه البئر كانت صافية وصالحة للشرب والاستخدام اليومي، ولكن منذ شهرين تحولت إلى صفراء وذات رائحة كريهة”، قال خالد علي الجعبي، مزارع من  قرية الصنمة، شاكياً تأثر بئره القريبة من المقلع.

خالد الجعبي من قرية الصنمة يجلس على حافة بئره، ويعرض قارورة مياه تغير لونها بسبب تلوث البئر بمكب الهباط، 27/ 05/ 2024، (عبد المجيد القرح/ سوريا على طول)

خالد الجعبي من قرية الصنمة يجلس على حافة بئره، ويعرض قارورة مياه تغير لونها بسبب تلوث البئر بمكب الهباط، 27/ 05/ 2024، (عبد المجيد القرح/ سوريا على طول)

وتنبعث من مياه  بئر الجعبي،  رائحة كريهة “تشبه رائحة مكب القمامة المجاور”، على حد وصفه، مشيراً في حديثه لـ”سوريا على طول” إلى أن سكان قرية الهباط المجاورة يعانون من المشكلة نفسها، حيث يظهر التلوث في مياه آبارهم.

في العام الماضي، حفر الجعبي بئره بعمق 250 متراً، بعد أن حصل على ترخيص من وزارة الزراعة التابعة لحكومة الإنقاذ، وجهزّه بالكامل بتكلفة تجاوزت خمسة آلاف دولار أميركي، بغرض سقاية أرضه واستخدام مياهه للشرب والاستهلاك المنزلي، لكن منذ شهرين “تغيّر لون المياه وتنبعث من البئر روائح كريهة، فأوقفت استخدامها”، على حد قوله.

“كانت مياه البئر جيدة، نستخدمها للشرب وغلي الشاي، وفي الطبخ”، ومع تلوث البئر توقف عن ريّ مزروعات أرضه، “خوفاً من تلوثها وتأثير ذلك على صحة أطفالنا”، ويكتفى بسقاية الشجر فقط، بحسب الجعبي، الذي يملك أرضاً مساحتها 13 دونماً، خمسة دونمات منها مزروعة بالخضروات الصيفية.

وفي قرية الهباط، كانت بئر ياسر البكور، التي حفرها عام 2015، مصدر مياه “نقية” لسبع عائلات، وأحياناً مصدراً لـ”مياه الصهاريج في المنطقة”، كما أنه وضع حنفية ماء (سبيل) يستخدمها المارة، كما قال لـ”سوريا على طول”.

ياسر البكور من قرية الهباط يملأ قارورة من مياه بئره الملوثة بفعل مكب النفايات، 27/ 05/ 2024، (عبد المجيد القرح/ سوريا على طول)

ياسر البكور من قرية الهباط يملأ قارورة من مياه بئره الملوثة بفعل مكب النفايات، 27/ 05/ 2024، (عبد المجيد القرح/ سوريا على طول)

منذ عام، لاحظ ياسر تغيّر لون مياه الشرب، واعتقد في البداية أنها اختلطت بمياه عين قريبة، أو أن هناك تهبيطاً في البئر تسبب في تغيير اللون إلى “لون مائل للاصفرار”، لكن قبل ثلاثة أشهر انبعثت روائح كريهة من البئر فـ”أخذت عينة من مياه البئر وحللها في مختبر تابع لوزارة الزراعة في حكومة الإنقاذ، مقابل 56 دولاراً أميركياً، وكانت النتيجة أن المياه فيها تلوث جرثومي”، وأعاد التحليل مرة أخرى للتأكد “وكانت النتيجة ذاتها”، وفقاً له.

“حذروني من استخدام المياه للشرب أو حتى سقاية المزروعات، وطلبوا مني أن تقدم بشكوى”، بحسب ياسر، الذي تقدم بشكوى رسمية في الوزارة.

استجابة بطيئة 

منذ ظهور علامات تلوث مياه الآبار القريبة من مقلع الهباط، تم تحليل مياه خمسة آبار في الهباط وثلاثة في الصنمة، وأشارت النتائج إلى أن جميع الآبار التي خضعت للتحليل ملوثة، بحسب سامر البكور، وهو أحد سكان القرية أيضاً.

وأوضح سامر أن “عدم تحليل مياه جميع الآبار في المنطقة يعود إلى ارتفاع تكلفة التحليل”، متوقعاً أن تكون “جميع الآبار في المنطقة، البالغ عددها 33 بئراً ملوثة، لأن السكان لاحظوا تغير لون المياه في كل آبار المنطقة”.

ذهب سراج الحريري، الجيولوجي والناشط في مجال حماية البيئة، إلى أن أحد أسباب التلوث ناتج عن “مياه الصرف الصحي في المخيمات العشوائية القريبة من المقلع الذي تحول إلى مكب نفايات، كونها تصب فيه”، كما قال لـ”سوريا على طول”.

من جهته، قال علي رمضان رئيس دائرة الاستثمار في مديرية الموارد المائية بحكومة الإنقاذ، وعضو اللجنة المكلفة بمتابعة تلوث المياه أن سبب التلوث الرئيسي “ارتفاع منسوب المياه الناتج عن زيادة معدل الأمطار في الشتاء الماضي، التي تجمعت في المكب”.

“الأمطار الغزيرة، التي رفعت منسوب المياه في مكب النفايات، وتسليط مياه الصرف الصحي لأحد المخيمات القريبة إلى المكب وضعنا في مأزق”، قال الجعبي، الذي خسر الانتفاع من مياه بئره بعد تلوثها.

وقال سامر أن منسوب المياه في مكب (مقلع) الهباط وصل ارتفاعها إلى “ثمانية أمتار، متوزعة على كامل مساحته، أدى ذلك إلى تسرب المياه إلى داخل التربة”.

تعليقاً على ذلك، قال رمضان أنّ “التحاليل أظهرت وجود تلوث جرثومي في عدد من آبار المنطقة، ولكن ليس كلها ملوثة”، وهذا مؤشر على أن “التلوث موجود في عرق مائي واحد”. 

قبل أزمة التلوث الحالية بسنوات، اعترض أهالي المنطقة، عام 2020، على وجود المكب، ومنعوا سيارات البلدية من الوصول إلى المكب، لكن بدلاً من الاستجابة لمطالبهم “تم توقيف عشرة شبان لمدة 24 ساعة، وطُلب من وجهاء قرية الهباط توقيع تعهد بعدم التعرض لسيارات البلدية، وعليه أطلق سراحهم”، بحسب سامر.

“منذ البداية، رفضنا إنشاء تحويل المقلع إلى مكبّ نفايات، وحذرنا من تلوث الآبار، ولكن مسؤولون في الحكومة أكدوا لنا أن المنطقة لن تتضرر”، في إشارة إلى حكومة الإنقاذ، وفقاً لسامر.

واشتكى سامر من بطئ الاستجابة مع أزمة التلوث، مشيراً إلى أن سلطات المنطقة الوسطى، مركزها مدينة معرة مصرين، استجابت “قبل عدة أيام” لشكواه التي تقدم بها في آذار/ مارس الماضي، وحينها “أبدوا تجاوباً وأفادوا بأنهم يتابعون المشكلة مع الحكومة الإنقاذ”، بحسب قوله.

“قدمنا عدة شكاوى، وحصلنا على وعود باتخاذ الإجراءات اللازمة، لكن المشكلة ما تزال قائمة”، وفقاً لسامر.

يبلغ عدد سكان قرية الهباط 1500 نسمة، وقرية الصنمة المجاورة 700 نسمة، بحسب أرقام تقديرية لمصادر من القريتين، وفي كليهما يعتمد السكان على الآبار الجوفية لتأمين مياه الشرب وريّ الأراضي الزراعية.

لم يعد لهؤلاء بئر صالح للشرب، وهذا يحمّلهم عناء “الذهاب إلى القرى المجاورة من أجل تأمين مياه نظيفة”، بحسب سامر، الذي تحتاج عائلته أسبوعياً خمسة آلاف لتر مكعب.

سامر البكور من قرية الهباط يملأ قارورة من صنبور مياه في حديقة منزله، ويتضح تغير لون المياه بسبب تلوثها، 27/ 05/ 2024، (عبد المجيد القرح/ سوريا على طول)

سامر البكور من قرية الهباط يملأ قارورة من صنبور مياه في حديقة منزله، ويتضح تغير لون المياه بسبب تلوثها، 27/ 05/ 2024، (عبد المجيد القرح/ سوريا على طول)

البحث في الحلول

يمثل وجود مكبات نفايات رئيسية حلاً جيداً للحد من المكبات العشوائية، لا سيما في شمال غرب سوريا، المنطقة التي يقطنها أكثر من أربعة ملايين نسمة، نصفهم نازحون، يتوزعون على أكثر من 1900 مخيم.

لكن، عدم إدارة مكبات النفايات، والتخفيف من آثاره الضارة على الإنسان والبيئة تحوّله إلى مصدر خطر للمنطقة عموماً، وسكان المناطق القريبة منه، كما في حالة مكبّ الهباط، شمال مدينة إدلب.

ومع أن الأزمة الأكثر إلحاحاً حالياً، تتمثل في تلوث مياه الآبار المحيطة بالمكبّ، إلا أن هناك تداعيات أخرى، من قبيل: “انتشار الأمراض الجلدية بين الأطفال، بسبب لدغات الحشرات التي تعيش في بيئة المكبّ”، بحسب خالد الجعبي، مشيراً إلى أن “لدغة ذبابة في بعض الأحيان تتطلب نقل الطفل إلى مستشفى لعلاجه”.

وأيضاً، يعاني سكان المنطقة من تلوث الهواء، إذ عندما تهب الرياح الشرقية يصبح الهواء محملاً بالدخان الكثيف، نتيجة إحراق النفايات في المكب، وهذا بدوره يسبب أمراضاً تنفسية لدى سكان المنطقة، بحسب عدد من السكان الذين تحدثوا لـ”سوريا على طول”.

وانعكس ذلك على “اليد العاملة” في المنطقة، بحسب ياسر البكور، لأن “العديد من العمال لم يعد لديهم الرغبة بالعمل في أراضينا بسبب الروائح الكريهة المنبعثة أثناء حرق النفايات”، كما قال.

تحول مقلع الهباط إلى مكب نفايات كأمر واقع، “بعد تزايد عدد المجالس والبلديات التي ترمي القمامة فيه منذ عام 2018، بحسب فياض حسين، مدير مكتب العلاقات العامة في شركة البيئة النظيفة (E-clean)، مشيراً إلى أن شركته تعتمد المكب منذ تأسيسها في عام 2022.

ومع تأثيره البيئي والصحي، يمكن أن يكون التلوث الحاصل “مشكلة عارضة، إذا تم التعامل معها بالشكل المناسب، وتم عزل المكب بشكل عاجل”، وفقاً لسراج الحريري، الجيولوجي وناشط حماية البيئة.

ومن وجهة نظره، هناك عدة خطوات للحلول المستدامة، منها: سحب السوائل الملوثة من قاع المكبّ وتجفيفها، وعزل الجزء الغربي بشكل كامل من المكب ونقل النفايات المتراكمة إليه، أو عزل الجزء الشرقي، أو عمل خزان معزول لتجميع السوائل، مع ضرورة معالجة أرضية المكبّ من بقايا المياه المتسربة إليه حالياً”.

قدّم الحريري ما بجعبته من حلول كمقترحات لعدّة جهات، بينها وزارة الزراعة ووزارة الإدارة المحلية وشركة البيئة النظيفة (E-clean)، على حد قوله، إضافة إلى “نضح المياه من الآبار الملوثة بشكل دوري لتجديد المياه الجوفية، والعمل على إجراء تحاليل للمياه بشكل أسبوعي لمراقبة التلوث”.

وأشار الحريري إلى أن التخلّص الآمن من النفايات يكون عن طريق فرزها وإعادة تدويرها، لاسيّما النفايات العضوية، لأنها مصدر رئيسي للتلوث، إضافة إلى ضرورة عزل المكبات وتحويلها إلى مطامر صحية تحقق الشروط البيئية.

بدورها، تواصلت شركة البيئة النظيفة (E-clean) مع عدد من المنظمات الإنسانية لتحويل المكبّ الى مطمر صحي “لكن لم تُتخّذ أي خطوة في هذا الاتجاه  إلى الآن”، بحسب حسين.

وفي ظل عدم وجود بوادر حل على المدى القريب، يرغب أهالي القريتين -الهباط والصنمة- بـ”ترحيل القمامة بشكل كامل وإغلاق المكب”، وفقاً لسامر البكور.

شارك هذا المقال