الأزمة الاقتصادية في سوريا: جذور تسبق حرب النظام على السوريين
ليس انهيار قيمة الليرة إلا واحدة من العديد من الأزمات والمشاكل التي تواجه السوريين، ضمن عملية انهيار اقتصادي شامل "ملفت للانتباه"، بحسب الباحث الاقتصادي السوري د. كرم شعار.
25 مارس 2021
عمّان- بينما ينتظر السوريون ساعات طويلة في طوابير الخبز والمحروقات، ويكابدون قسوة غلاء الأسعار وسط انهيار الليرة، تحاول، على الضفة الأخرى، أسماء الأسد زوجة رأس النظام، حياكة نسيج جديد للاقتصاد السوري عبر إطلاق يد أمراء حرب ورجال أعمال جدد، في مشهد أقرب إلى إعادة تشكيل الاقتصاد بما يحقق مزيداً من الثراء الفاحش للطبقة الحاكمة على حساب قوت السوريين.
عنف أقل.. انهيار أكبر
يوم الأربعاء الماضي، حاول محمد عبد الرحمن، عبر اتصال بتقنية الفيديو، أن يشرح لـ”سوريا على طول” تأثير الانهيارات السريعة والمفاجئة في أسعار الصرف على عمله، عبر ترك كاميرا جواله تعمل أثناء حواره مع زبائن يرتادون محله لبيع الأجهزة الكهربائية المستعملة في إحدى بلدات ريف درعا الشمالي.
قال عبد الرحمن لأحد الزبائن الذي كان يريد شراء غسالة مستعملة عاينها قبل أسبوع من ذلك إن سعرها ارتفع بحيث “أصبحت قيمتها اليوم 850 ألف ليرة [198 دولاراً، بحسب سعر الصرف في السوق الموازية، والبالغ 4,290 ليرة للدولار]”، بعد أن كان السعر 600 ألف ليرة قبل سبعة أيام. وهو ما عنى مغادرة الرجل خالي الوفاض.
“تغيرات أسعار الصرف هي السبب وراء ذلك”، قال عبد الرحمن، “فأنا أُسعر جميع بضاعتي بالدولار لأجل أن أثبت قيمتها وسط تغير سعر الصرف، وفعلياً قيمة الغسالة بالدولار لم تتغير، إنما الليرة السورية هي من تغير قيمتها خلال أسبوع واحد”.
لكن ليس انهيار قيمة الليرة إلا واحدة من العديد من الأزمات والمشاكل التي تواجه السوريين، ضمن عملية انهيار اقتصادي شامل “ملفت للانتباه”، بحسب الباحث الاقتصادي السوري د. كرم شعار.
إذ “في بقية الصراعات بالعادة يكون هناك ارتباط واضح بين درجة العنف والتدهور الاقتصادي”، كما أضاف شعار لـ”سوريا على طول”، “لكن ما حدث في سوريا غريب، بمعنى أنه في أواخر 2019 عملياً كان الصراع من ناحية العنف في انخفاض شديد، ومع ذلك فإن التدهور الاقتصادي وصل إلى مراحل لا تطاق”.
تفسير ذلك، بحسب شعار، أنه “خلال السنتين الماضيتين، تلقى الشعب السوري عموماً والنظام خصوصاً مجموعة من الصدمات الاقتصادية، من قبيل أزمة المصارف في لبنان، وجائحة كوفيد-19، والتهديد بفرض العقوبات الأميركية [قانون قيصر الذي دخل حيز النفاذ فعلاً في حزيران/يونيو الماضي]، ولاحقاً التزايد في وتيرة العقوبات، إضافة إلى الخلاف الحاصل بين أفراد الطبقة الحاكمة وتمدد أسماء الأسد على حساب رامي مخلوف”.
يضاف إلى ذلك “إعادة فرض العقوبات على إيران منذ منتصف العام 2018، ما تسبب بشلل اقتصادي للنظام كون إيران الداعم الأساسي له”. معتبراً شعار أن الدعم الإيراني للنظام “مذهل” مقارنة بالدعم الروسي، و”بالنسبة لي هو كمن يقارن كأس ماء بمسبح مملوء”.
جمود السياسات الاقتصادية
حتى قبل اندلاع الثورة في آذار/مارس 2011، لم يكن الاقتصاد السوري بمجمله يعمل بفاعلية، نتيجة “سبب رئيس متعلق بالفساد والاستبداد”، بحسب د. رفعت عامر، الأستاذ الجامعي والباحث المقيم في السويد حالياً. موضحاً في حديثه لـ”سوريا على طول”، أن “غنى سوريا بمواردها الطبيعية والبشرية ساهم في تحقيق الأمن الغذائي لغالبية السوريين آنذاك، [مترافقاً] ذلك مع وجود فوارق طبقية كبيرة، وتركز للثروة والنشاط الاقتصادي بيد 10% فقط، ولصالح فئة مقربة من النظام”.
كذلك، تعد السياسات المتبعة من قبل النظام للتعامل مع الأزمة الاقتصادية الحالية، استكمالاً لسياساته المتبعة منذ ثمانينات القرن الماضي، بحسب الباحث في الاقتصاد السياسي بجامعة لوزان في سويسرا، جوزيف ضاهر. مضيفاً في حديث لـ”سوريا على طول”، أن “النظام حصل على فرصة خلال الثورة لتعميق السياسات البديلة التي ينتهجها، المتمثلة في “إعطاء دور أكبر ورئيسي للقطاع الخاص والتجار الكبار ورجال الأعمال المقربين من النظام”. إذ “مثلاً: انخفض دعم الدولة للخبز والوقود و[مواد] أساسية أخرى للشعب السوري”.
إذ خلال العقد الماضي، استمر النظام في تطبيق السياسات الأخيرة مع تعميقها بشكل أكبر، بحسب ضاهر، رغم أن “القطاع الخاص مثلاً ليس لديه القدرة على إعادة الإعمار وبناء الاقتصاد، فكيف يتم منحه هذا الأمر؟ وأيضاً ليس [للمتنفذين اقتصادياً] مصلحة في ذلك. مثلاً، ما هي مصلحة سامر فوز أو الأخوة قاطرجي في بناء اقتصاد سوري قوي وسليم؟ ليس لديهم أي مصلحة في ذلك”.
واستشهد ضاهر بأن “غالبية الحلبية إما ليس لديهم كهرباء أو يعيشون على مولدات الكهرباء الخاصة، وبعض المنتفعين من هذه الحال ليست لهم مصلحة في بناء مصنع كهرباء جديد، لكونهم يتربحون من الحال القائمة”.
مع ذلك فإن ما وصلت إليه البلاد حالياً جاء على مراحل عدة. إذ في أعقاب اندلاع الثورة وإصرار النظام على عسكرتها، “تحول الاقتصاد السوري من اقتصاد الاوليغاركية [الأقلية المتحكمة] إلى اقتصاد الحرب”، أصبح فيه النظام والمعارضة العسكرية “يشكلان مقاطعات عسكرية تعتمد بالنسبة للنظام على الدعم الخارجي من إيران بالدرجة الأساسية، وهو خط تمويل مفتوح، وكذلك استخدام الموارد المالية في البنك المركزي التي كانت بحدود 18 مليار دولار، بالإضافة إلى عمليات النهب التي حلت بالملكيات العامة والخاصة”، وفقاً لعامر، بينما “المعارضة العسكرية مُولت من أطراف خليجية مختلفة مع دعم تركي وعمليات وضع يد على الموارد المتوفرة في مناطقهم المحررة”.
وقد ساهم الدعم الإقليمي والدولي المالي للعسكرة في “تأمين الحد الأدنى من الحياة للسوريين في كل مناطق النزاع”، كما أضاف عامر، بالإضافة إلى “الدور الذي لعبته المنظمات الإنسانية في كل مناطق النزوح واللجوء السوري”.
لكن مع حلول العام 2018 الذي شهد انتهاء عمليات الحسم العسكري الأساسية “أصبح الدعم المالي لأطراف الصراع شحيحاً”، وفق عامر. كما “أصبح الحال بالنسبة لعامة السوريين أكثر سوءاً، بعد أن فقد النظام كامل موارده المالية في البنك المركزي وتوقفت إيران عن الدعم، بسبب أوضاعها الاقتصادية والمالية المزرية”. كذلك “لم يعد بمقدور النظام الحصول على عوائد مالية إضافية من خلال عمليات البيع للثروات والموارد والمنشآت الوطنية، لأنها بيعت بالكامل على شكل عقود بلغت مدة بعضها 49 عاماً”.
اقتصاد مستهلك
ما وصل إليه الاقتصاد السوري متوقع بعد عقد من الحرب والدمار، وتدمير القطاعات المنتجة في الاقتصاد السوري، برأي الباحث ضاهر، مدللاً على ذلك بانخفاض الصادرات السورية من 11 مليار دولار العام 2010 إلى أقل من 700 مليون دولار العام 2020، ما يعني أن “سوريا تحولت إلى اقتصاد مستهلك”.
لكن إرهاصات تحول سوريا إلى مجتمع أكثر استهلاكاً بدأت فعلياً “خلال العقد الأول من القرن الحالي”، كما لفت ضاهر. إلا أن “وجود إنتاج زراعي وصناعي ونفط، قلل من حجم المشاكل الاقتصادية”، بينما اليوم مع غياب الإنتاج المحلي والبدائل الأساسية للمواطن، تحول الاقتصاد السوري إلى “اقتصاد مستهلك لكل شيء”. مضيفاً أنه “في حال لم يكن لديك اقتصاد منتج وتعتمد على الاستيراد فمن الطبيعي أن تنهار العملة”.
الأخطر هو تداعيات ذلك على المدى الطويل، نتيجة منح النظام قطاعات استراتيجية في البلاد لحلفائه الروس والإيرانيين على شكل هبات اقتصادية. “لو أردت بناء اقتصاد قوي لدولتك، كيف تتخلى عن المصادر الرئيسة للاقتصاد، مثل الفوسفات وميناء طرطوس وغيرهما”، تساءل ضاهر.
استجابات يائسة
وسط الأزمات المستمرة التي يعيشها السوريون، يحاول النظام البحث عن تمويل من أي مصدر ممكن، وهو ما يدلل عليه، بحسب شعار، “حجم الوثائق التي نشرت مؤخراً والتي توضح الحجز الاحتياطي على أملاك كثيرين أو فرض حجز قضائي على شركتي الاتصالات سيريتل وإم تي إن”. مضيفاً: “كما يقال في حلب: التاجر المفلس بدور دفاتره القديمة، أي المفلس يحاول البحث في أي مكان يمكن أن يحصل منه على مال”.
هذا الأمر أكد عليه أيضاً الباحث ضاهر، معتبراً أن “القرارات الحكومية المتعلقة في التعامل مع الأزمات الاقتصادية أدت إلى نتائج عكسية، بمعنى أنه لا يوجد خط استراتيجي مستمر من الحكومات السورية، ودائماً هناك تراجع بعد أي قرار حكومي”. موضحاً أن “القرارات والسياسات الاقتصادية الحكومية هي فقط لصالح التجار وكبار ورجال الأعمال القريبين من النظام”.
كذلك، رأى شعار أن المشكلة الحالية تكمن أيضاً في “الاستجابة التي تقوم فيها الحكومة السورية للأزمات الاقتصادية”، والتي وصفها بأنها “غريبة”. ضارباً مثلاً على ذلك بالمحروقات التي هي في “غالبيتها الكاسحة في مناطق النظام مستوردة بعدما خرج معظم حقول النفط عن سيطرة [دمشق]”. إذ إن “الاستجابة المتوقعة هي رفع النظام الأسعار بما يتناسب مع سعر الاستيراد، لكن ما حدث هو شيء غريب، إذ قام بخليط ما بين الأمرين؛ رفع الأسعار لكن بأقل من كلفة الاستيراد خوفاً برأيي من ثورة جديدة، ومن ثم تقليل الكمية إلى حد الشح”.
أي مستقبل؟
“إذا أراد النظام الاستمرار في التعنت السياسي وعدم تقديم تنازل واحد، فإن الوضع الاقتصادي سيظل على ما هو عليه، إن لم يسؤ أكثر”، برأي د. شعار، والذي أكد عليه ضاهر أيضاُ: “للأسف في المستقبل القريب لا أرى توقعات إيجابية، لكون سياسات الحكومة والنظام ليست في صالح الطبقة الشعبية بشكل عام، وإنما في صالح طبقات معينة خاصة بالتجار ورجال الأعمال المرتبطين بالنظام أو دول متحالفة معه. وإذا ما بقيت الحال على ما هي عليه فإن الأمور ستسوء أكثر”.
وأمام هذا التردي الاقتصادي، بات “السوريون يعيشون على ثلاثة مصادر رئيسة: إعانات الدولة، والتي انخفضت خلال العقد الماضي؛ والحوالات الخارجية من السوريين اللاجئين في أوروبا أو دول الجوار أو في دول الخليج العربي؛ والمصدر الأخير هو المساعدات الدولية”، وفقاً لضاهر.
في المقابل، فإن “حماسة إدارة [الرئيس الأميركي] بايدن فرض عقوبات على رموز النظام السوري والمتعاونين معه، تبدو أقل بكثير من إدارة [الرئيس السابق] ترامب”، برأي شعار. “ولو استمرت الحال على ما هي عليه، فإن من الطبيعي برأيي أن تُخلق طبقة وأوجه جديدة في السوق السورية تبدأ في أخذ موضوع ريادة الأعمال وتنطلق فيه قدماً. وهو ما سيساعد في تخفيف عزلة النظام وتحسين الوضع الاقتصادي بالنسبة له”.
أما إن استمرت الإدارة الأميركية بنفس درجة الضغط القائمة في عهد ترامب على النظام، أي “عدم السماح لدول الخليج وبالدرجة الأولى الإمارات أن تنفتح على النظام السوري، واستمر النظام بالتعنت السياسي، فإننا سنذهب باتجاه الوضع الأسوأ”، بحسب شعار، لاسيما وأن داعمي بشار الأسد الروس والإيرانيون وصلوا إلى “مرحلة من القرف من الأسد”، على حد وصف شعار، “لعدم استعداده للتنازل عن أي شيء”. لذا باتت سياسة الحلفاء وكذلك النظام وفق مقولة “مشي الحال، بحيث لا يبدو أنه سيكون هناك حل مستدام بالمعطيات الحالية. وهنا أيضاً يبدو أن من يدعم بشار وصل بالفعل لمرحلة أنه لا يريد دعمه لأجل أن يخرج من كل معضلاته”.
في الأثناء يصل الأمر بالسوريين مثل عبد الرحمن أن اضطر والده لأجل شراء صفيحة زيت دوار الشمس الشهر الماضي إلى “توفير راتبه الشهري كاملاً لثلاثة أشهر لجمع ثمنها”، كما قال.