6 دقائق قراءة

الأسد يهب الأكسجين للبنان والسوريون يبحثون عنه في السوق السوداء

في ظل النقص الحاد في التجهيزات والمستلزمات الطبية، لا يجد كثير من السوريين المصابين بوباء كوفيد-19 من خيار أمامهم سوى اللجوء إلى السوق الموازية للتخفيف من شدة الأعراض التي يعانونها


بقلم ليز موفة

30 مارس 2021

عمان- حينما أصيبت أم فرح (اسم مستعار) بفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) وبدأت تعاني ضيقاً في التنفس، لم تدر إلى أين تتوجه لتلقي الرعاية الصحية. إذ إن جميع المستشفيات العامة في محيط قريتها الواقعة بريف محافظة حمص وسط سوريا، خارج الخدمة؛ إما لكونها مهدمة أو نتيجة إغلاقها خلال الحرب. 

لتخفيف ما ينتابها من أعراض، بدأت عائلة أم فرح البحث عن اسطوانة أكسجين، لاسيما أن المركز الصحي الأقرب إليهم قد أخبرهم بعدم امتلاكه أي اسطوانة. 

وكما ذكرت لـ”سوريا على طول” شقيقة أم فرح، اللاجئة إلى الأردن وتقيم في العاصمة عمان، فإن عائلتها ما كانت لتتدبر أمر تأمين الأكسجين لو لم يكن لها قريب يعمل في حكومة دمشق. لكنهم “اضطروا في نهاية المطاف لشراء [أسطوانة الأكسجين] من أناس على صلة بالنظام”. 

ولا يقتصر الأمر على أم فرح. ففي ظل النقص الحاد في التجهيزات والمستلزمات الطبية، لا يجد كثير من السوريين المصابين بوباء كوفيد-19 من خيار أمامهم سوى اللجوء إلى السوق الموازية للتخفيف من شدة الأعراض التي يعانونها. هذا في وقت يعلن فيه نظام بشار الأسد تزويد لبنان بـ25 طن أكسجين يومياً على مدار ثلاثة ايام، بدعوى مواجهة النقص الذي يعانيه الأخير على هذا الصعيد. 

العجز في التجهيزات الطبية

ليس هناك أرقام موثوقة للإصابات بوباء “كورونا” في مناطق سيطرة النظام. وفيما بلغ المجموع الرسمي حتى يوم أمس 18,638 حالة، يبدو هذا الرقم بعيداً عن الواقع، ويهدف غالباً إلى التقليل من الوعي العام بخطورة الوباء الذي تبدو سوريا غير مهيأة لمواجهته. 

وبحسب بيانات وزارة صحة دمشق، يوجد في سوريا 21 مستشفى عزل، تضم 934 سرير عزل و210 وحدات عناية مركزة و185 جهاز تنفس اصطناعي. مقارنة بذلك، يوجد في الأردن مثلاً، البلد الجار ذو التعداد السكاني الأقل، أكثر من 4,000 سرير عزل، و879 سرير عناية مركزة، وما يزيد عن 900 جهاز تنفس صناعي.  

وبحسب مكتب منظمة الصحة العالمية في سوريا، يؤدي “الوباء إلى نقص حاد في الإمدادات الأساسية، بما في ذلك معدّات التشخيص”. وحتى الآن، زودت المنظمة شركاءها في المجال الصحي في البلاد بـ73 جهازاً لتوليد الأكسجين، و51 جهاز تنفس صناعي ومحطتي توليد أكسجين، مع “محدودية سبل الوصول إلى مستلزمات الاختبار الدولية وأجهزة الرعاية السريرية”، كما أضاف المكتب في تصريح لـ”سوريا على طول”. 

وبالرغم من استثناء القطاع الطبي من العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على سوريا، والتي كان آخرها قانون قيصر الأميركي، إلا أنّ القطاع يعاني تداعيات غير مباشرة للعقوبات، نتيجة توجس الشركات متعددة الجنسيات من التعامل مع دمشق. هكذا، انخفضت سبل الوصول إلى  المعدات الطبية بسبب القيود المفروضة على المعاملات المالية مع سوريا، بالإضافة إلى قيود لوجستية أخرى من بينها تجنب شركات الشحن الدولية السوق السورية.

وفي ربيع 2020، تواردت أنباء عن عجز الناس عن تأمين الدواء، نتيجة ما قيل إنه خلاف بين وزارة الصحة ومعامل الأدوية على تسعير الأدوية. إذ يكافح أصحاب المعامل والشركات لاستيراد الأدوية بعد انهيار الليرة السورية. ومن أجل تخفيف الأزمة، رفعت الحكومة السورية أسعار 1400 صنف دوائي، كما اعتمدت في التسعير سعر صرف الدولار التفضيلي للأدوية التي تُستورد موادها الأولية. 

في الوقت ذاته، تم تأسيس خمس عشرة شركة طبية جديدة منذ ظهور وباء كورونا، معظمها لرجال أعمال غير بارزين. وربما يشير إنشاء العديد من هذه الشركات في وقت متزامن خلال شهري حزيران/يونيو وتموز/يوليو 2020 إلى أنّ النظام هو من دفع بها لرفد السوق المحلية للمنتجات الطبية. 

التوزيع غير المتكافئ لمراكز الرعاية الصحية

لا يبدو أن العديد من السوريين يكترثون لزيادة الامدادات الطبية، كونهم لا يستطيعون الوصول إلى المنشآت الصحية أصلاً.

ورغم اختلال التوازن في تغطية المناطق الريفية والحضرية، كان القطاع الطبي يتمتع بفاعلية جيدة قبل العام 2011. إلا أنّ حرب عشر سنوات استنزفت القطاع بشدة وفاقمت من حجم التفاوت الموجود مسبقاً.  

إذ بحلول العام 2020، كان قد غادر البلاد 70% من العاملين السوريين في مجال الرعاية الصحية، فيما تعرض نصف المستشفيات تقريباً للدمار أو لحقت بها أضرار، وهو ما يعود بالمجمل إلى الهجمات العسكرية التي شنتها روسيا ونظام الأسد. 

علاوةً على ذلك، “لم تأخذ الحكومة السورية على عاتقها إعادة إعمار المناطق التي كانت سابقاً تحت سيطرة المعارضة، إلا بالنزر اليسير”، وفقاً لتقرير لمنظمة أطباء لحقوق الإنسان، و”لم تقم بتعويض الخدمات الصحية الحيوية التي كانت تقوم بها المنظمات الإنسانية التي أُجبرت على الانسحاب عقب سيطرة الحكومة على تلك المناطق”.  

وكما قال الدكتور حسام النحاس، الباحث في منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان، لـ “سوريا على طول”، فإن “نقص الإمدادات الطبية يُعزى إلى إهمال من جانب الحكومة السورية”. وقد اشتكى أهالي محافظة  درعا، على سبيل المثال، من شح في الإمدادات الطبية الحيوية مثل أجهزة التنفس الصناعي، المتوفرة إلى حد ما في المناطق التي تعتبر موالية للأسد.

وتُظهر بيانات منظمة الصحة العالمية أن مستشفيات العزل تتركز في دمشق (أربع مستشفيات) ومحافظتي حلب ودرعا (ثلاث مستشفيات لكل منهما) وريف دمشق (مستشفيان)، في حين يوجد مستشفى واحد فقط في مركز المحافظات الأخرى. أيضاً، فيما تخلو محافظة السويداء، جنوب البلاد، كلياً من أي وحدة عناية مركزة أو جهاز تنفس صناعي، يوجد نحو 40  وحدة في دمشق.

أزمة الأكسجين

وفقاً لبيانات منظمة الصحة العالمية، توجد في سوريا عدة منشآت لتوليد الأكسجين، ونحو60 محطة لتوليد الأكسجين في المنشآت الصحية العامة، يمكنها إنتاج الأكسجين بكميات تتراوح بين 6 و20 متر مكعب في الساعة، وبحيث “يمكن للمنظمات غير الحكومية والشركاء العاملين في المجال الصحي شراء اسطوانات الأكسجين وإعادة تعبئتها محلياً”، بحسب مكتب منظمة الصحة العالمية في سوريا، كما تقوم الأخيرة بتزويد المستشفيات العامة بخزانات الأكسجين والمكثفات ومحطات الأكسجين بناءً على احتياجاتها.

لكن كثيراً من السوريين يعيشون بعيداً عن أي مستشفى، وغالبا ما يتم إرجاعهم لعدم توفر الأمكنة، أو أنهم يمتنعون من تلقاء أنفسهم عن الذهاب لأنهم يجدون في ذلك مخاطرة كبيرة من قبيل تعرضهم للاعتقال أثناء مرورهم على حواجز التفتيش. ومن ثم، “يفضل الميسورون التوجه للسوق السوداء أو إلى القطاع الخاص، على اعتبار أنه أكثر احترازاً بخصوص كوفيد”، كما أوضح النحاس. 

وفي مقابل صعوبة الوصول إلى الأدوات الطبية الأساسية -بما في ذلك اسطوانات الأكسجين والمكثفات وجهاز قياس الأكسجين في الدم- في المراكز الصحية والصيدليات، يُباع بعضها عبر مجموعات “فيسبوك” وقنوات “تلغرام”. وكما ذكر النحاس، فإن “الناس تحدثوا عن اضطرارهم للدفع من جيوبهم للحصول على الإمدادات الطبية اللازمة للعلاج من فيروس كورونا”.

“هذا يشكل عبئاً مالياً كبيراً”، كما لفتت سارة كيالي، الباحثة في منظمة هيومن رايتس ووتش، في حديث لـ”سوريا على طول”. موضحة أنه استناداً إلى مقابلات أجرتها مع أهال وممرضات، فإنهم يشترون اسطوانات الأكسجين من الموردين الخاصين بمبلغ يقارب 500 دولار للاسطوانة الواحدة، و12,000 دولار لجهاز التنفس الصناعي، في حين ينبغي أن يكون السعر الطبيعي لهما نحو 100 دولار لاسطوانة الأكسجين و800 دولار لجهاز التنفس. 

وثمة مزاعم بأن بعضاً من هذه المعدات يتم تهريبها إلى سوريا من لبنان، البلد الذي يعاني أيضاً قطاعه الصحي من ضغوط جمة. وكان العديد من اللبنانيين قد لجأوا إلى شراء معدات طبية للاستخدام الشخصي، وربما انتهى بها المطاف في سوريا. 

“أعرف شخصاً اشترى اسطوانة أكسجين من لبنان لأقربائه”، قال صهيب الغازي، الباحث ومحلل المصادر المفتوحة، لـ “سوريا على طول”. مضيفاً أنه تم شراء الاسطوانة في بيروت ومن ثم تهريبها بالسيارة إلى حلب. وعلى الأرجح أن هذه السوق الموازية تديرها “شخصيات على ارتباط بالميليشيات المحلية بطريقة ما. وهو ليس إلا مشروع آخر لجني الأرباح”، برأي الغازي. 

وترتكز السوق الموازية إلى حد ما على شبكات التهريب الموجودة سابقاً، والتي تستند أيضاً إلى مساع يبذلها الأفراد لإغاثة من هم في الداخل. إذ إن “الأموال التي تأتي من الخارج هي المصدر الأساسي لدعم من يحتاجون مثل هذه الخدمات المكلفة جداً”، كما قال النحاس. 

ومن بين المصادر المحتملة الأخرى التي ترفد هذه السوق حرف المساعدات، بما فيها الطبية، المقدمة لسوريا. ففي خضم الفساد المستشري “كان الناس يرون أجهزة التنفس الصناعي المرسلة كإغاثة تباع في السوق السوداء”، وفق كيالي. 

بالإضافة إلى ذلك، “وردت تقارير عن قيام الحكومة السورية ببيع معدات اختبار خاصة بفيروس كورونا كانت قد تبرعت بها دول أخرى”، بحسب النحاس. و أفاد مراقبون محليون أيضاً باضطرار الناس إلى دفع رشاوى أو اللجوء إلى استخدام علاقاتهم الشخصية حتى يتم إدخالهم المستشفيات. 

وفيما لم يستبعد أحد كبار الموظفين في منظمة دولية غير حكومية، له باع طويل في القطاع الطبي، في حديث لـ”سوريا على طول”، حرف المعدات والتجهيزات العامة والمساعدات عن المسار المخصص لها، فإنه رأى في الوقت ذاته “أنه من المستبعد أن تكون عملية ممنهجة، نظراً إلى أن النظام يعاني فعلياً من شح كبير في المعدات الطبية.”

كما ذكر مكتب منظمة الصحة العالمية في سوريا أنه يمتلك نقاط اتصال في المحافظات السورية، “تتولى متابعة توزيع وتركيب المعدات المُرسَلة. وكل [قطعة] من المعدات لها رقم تسلسلي خاص بها ويتم تعقبها حين يتطلب الأمر”.

رغم ذلك، ثمة اعتقاد بوجود ارتباط بين السوق الموازية والمؤسسات الرسمية. إذ “بعد أن يخبرونك في المركز الصحي أن الأكسجين غير متوفر، يأتيك اتصال من شخص يعرض بيعك الأكسجين بطريقة مواربة”، بحسب ما ذكرت شقيقة أم فرح. “بالطبع لا أعلم من أي مصدر يأتي الأكسجين، ولا نسأل عن ذلك، لكني أعتقد أن هذه الأمور متشابكة”. 

ويعاني السوريون في المناطق التي يسيطر عليها النظام أصلاً في تأمين حتى الخبز والوقود والسلع الأساسية، والتي يتم تحويلها من مستودعات المواد المدعومة إلى السوق السوداء لتباع بأسعار خيالية لا طاقة للمواطنين بها. وقد عمق وباء كورونا انعدام الثقة بالمؤسسات الرسمية التي ينخرها الفساد. وطريقة التعامل مع الوباء ليست سوى وجه آخر من وجوه الاقتصاد الاستغلالي الذي تتمدد جذوره في كل اتجاه.

تم نشر هذا التقرير أصلاً باللغة الإنجليزية، وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور.

شارك هذا المقال