الأمهات ذوات الإعاقة في شمال غرب سوريا: تحديات مضاعفة وخدمات ناقصة
تواجه النساء ذوات الإعاقة صعوبات مضاعفة في متابعة صحّتهنّ الإنجابية بمناطق سيطرة المعارضة، شمال سوريا. يعاني 56 بالمئة من الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و58 عاماً من الإعاقة، والنسبة الأكبر من هؤلاء نساء
17 أكتوبر 2024
إدلب- بعد أحد عشر عاماً من بتر طرفيها السفليين إثر إصابتها بغارة جوية استهدفت منزلها في محافظة ريف دمشق، أنجبت صفاء هنو (اسم مستعار)، 30 عاماً، طفلتها قبل ثمانية أشهر، وسط دهشة محيطها وطبيبتها في مدينة عفرين، الواقعة تحت سيطرة الجيش الوطني السوري (المعارض) في شمال غرب سوريا.
“في مراجعتي الأولى سألتني الطبيبة: أليس من الصعب عليكِ الحمل في وضع كهذا؟، فأجبتها أنا وزوجي أن كل شيء سيكون على ما يرام”، قالت هنو لـ”سوريا على طول” في اتصال عبر تطبيق الزوم، مضيفة: “كانت الطبيبة سعيدة بقرارنا، وبهذه الحالة الفريدة التي تشرف عليها”.
قبل بتر طرفيها بشهر، وضعت السيدة الثلاثينية طفلها الثاني، لكنها لم تستطع إرضاعه والاعتناء به، فاضطرت والدتها إلى الاعتناء به “إلى أن بلغ عمره سبعة أشهر، حينها أصبح لدي قدرة على الحركة والاعتناء به”. وكان عمرُ ابنها الأول عامين عند إصابتها.
تحدّت هنو إصابتها وتمسكت بحقها في الأمومة، حالها حال العديد من النساء ذوات الإعاقة في شمال غرب سوريا، رغم كل التحديات الجسدية التي تزيد من صعوبة حملهنّ ورعايتهنّ لأطفالهن، لا سيما مع أحد أطرافهنّ، إضافة إلى ما يكتنفهنّ من مخاطر.
مخاطر الحمل والولادة
تواجه النساء ذوات الإعاقة صعوبات مضاعفة في متابعة صحّتهنّ الإنجابية، خلال فترة الحمل والولادة وما بعدها. في مناطق سيطرة المعارضة، شمال سوريا، يعاني 56 بالمئة من الأشخاص، الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و58 عاماً من الإعاقة، علماً أن النساء تشكل النسبة الأعلى من نظرائهنّ الذكور، بحسب مسح أجرته وحدة تنسيق الدعم، عام 2023، ويشمل المسح شمال غرب سوريا إضافة إلى رأس العين (سري كانيه) وتل أبيض في شمال شرق البلاد.
“ازدادت الحالات أكثر بعد الزلزال”، كما قالت الطبيبة النسائية هبة حاج يوسف، التي تعمل في مستشفى الرفاه بناحية جنديرس في ريف عفرين منذ افتتاحه في 2020، مشيرة إلى أن المستشفى يستقبل 300 حالة أسبوعياً، من بينهنّ ثلاث نساء من ذوي الإعاقة.
وأوضحت الطبيبة حاج يوسف لـ”سوريا على طول” أن الإعاقة لا تؤثر على الحمل، ولا تسبب خطورة على الجنين بشكل عام، لكن “قد يسبب الحمل خطراً على الأم في حالة الإعاقة الحركية، بسبب قلة الحركة وإمكانية حدوث جلطة دموية”، إضافة إلى أن “العوامل الوراثية في الإعاقة الحسيّة تزيد من احتمال انتقالها إلى المولود”.
وفي حال كانت تعاني المريضة من الاكتئاب مع إعاقة حركية شديدة فإنها “قد تتعرض لمخاضٍ صعب أو ولادة مبكرة”، وفقاً للطبيبة.
خضعت صفاء هنو في ولادتها الثالثة لعمل جراحي (ولادة قيصرية)، بينما كانت ولادتها طبيعية في الحملين السابقين اللذين سبقا إصابتها. حاولت القابلة أن تكون ولادتها الأخيرة طبيعية، لكن “عندما وصل الخطر إلى حياة ابنتي، وانخفضت دقات قلبها، قرر الأطباء في القسم إجراء عملية قيصرية”، وفقاً لها.
“تعذبت كثيراً، رأيت الموت بعينيّ، بعد ذلك تم تخديري تخديراً عاماً لأن التخدير القطني [النصفي] لم يؤثر في جسمي”، قالت هنو، التي تستخدم عكازين وطرفاً صناعياً واحداً لقدمها الأيسر، بينما قدمها اليمنى، المبتورة من فوق الركبة، ما تزال بلا طرف.
إحدى حالات الإعاقة، التي تابعتها الطبيبة حاج يوسف خلال فترة حملها، كانت لسيدة أصيبت بشلل كامل بالطرفين السفليين نتيجة إصابتها في زلزال السادس من شباط/ فبراير 2023، واكتشفت أنها حامل في شهرها الأول بعد خروجها من تحت أنقاض منزلها المدمر، بحسب الطبيبة هبة حاج يوسف.
شهدت مناطق المعارضة المتأثرة بالزلزال في شمال غرب سوريا العديد من حالات الولادة المبكرة، أو ما عرفت بـ”ولادة الخوف“، ومع ذلك وضعت المريضة مولودها بعد فترة حملها كاملة، لكنها “تعرضت لمخاضٍ صعب” واحتاجت رعاية طبية خاصة، بحسب الطبيبة حاج يوسف.
قضت المريضة فترة حملها بـ”حالة نفسية سيئة”، وعند الولادة “أعطيت الأسبرين كمميع للدم، ما تسبب بزيادة السائل حول الجنين”، لكن في النهاية “وُلدت الطفلة بحالة جيدة”، بحسب الطبيبة حاج يوسف.
وفي حالة أخرى، أشرفت الطبيبة حاج يوسف عليها، وُلدت سيدة مولودها الثاني، والأول بعد أن فقدت يدها في زلزال شباط/ فبراير، ورغم إصابتها وصعوبة حملها وولادتها “كانت حالتها النفسية جيدة”، على حد قول الطبيبة.
على عكس حالات بتر الأطراف السفلية السابقة، كانت جميع ولادات أم أسامة، 27 عاماً، طبيعية وفي مستشفيات عامة، كما قالت السيدة، التي تقيم في بلدة أخترين بريف حلب الشمالي، وهي مبتورة الطرف السفلي الأيمن، جراء إصابتها بغارة جوية استهدفت منزلها في عام 2012.
لأمّ أسامة ثلاثة أطفال، يبلغ أكبرهم سبعة أعوام، والثاني ستة أعوام، بينما عمر الثالث سنة وعشرة أشهر، حملت بهم واعتنت بهم بعد الولادة رغم إعاقتها الحركية، بحسب قولها لـ”سوريا على طول”.
في ولادتها الأولى “كان الكادر الطبي قلقاً بسبب وضعي الخاص، لكنّ ولدت دون أية مخاطر، وتبددت مخاوفهم في الولادَتين التاليتين، بعد تأكّدهم أن الأمور طبيعية”، بحسب أم أسامة.

صفاء هنو تنشر ملابس طفلتها في شرفة منزل تسكنه بمدينة عفرين، شمال غرب سوريا، الواقعة تحت سيطرة الجيش الوطني السوري (المعارض)، 22/ 09/ 2024، (سوريا على طول)
تحديات لا بد منها
في فترة حملها كانت صفاء هنو تزور طبيبتها مرة واحدة في الشهر، مع دخولها في شهرها التاسع اضطرت إلى مراجعة الطبيبة عدة مرات، تكلفة كل مراجعة 500 ليرة تركية (15 دولاراً أميركياً)، يشمل هذا المبلغ معاينة الطبيبة والتحليلات والصور إضافة إلى تكلفة المواصلات، وهو “رقم كبير بالنسبة لي”، على حد قولها.
لذا، عندما لم تستطع هنو تأمين تكاليف المعاينة كانت تضطر إلى المراجعة في عيادة عامة، كما أنها وُلدت في مستشفى عام، لأن “تكلفة إجراء العملية القيصرية في مستشفى خاص تبلغ مئتي دولار”، وهذا المبلغ عجزت العائلة عن تأمينه.
لدى هنو كرسي متحرك يدوي تستخدمه في الأماكن القريبة، بينما تعتمد في تنقلاتها البعيدة على عكازين وطرف واحد، وترافِقها والدتها في جميع مراجعاتها الطبية أثناء فترة الحمل وبعد الولادة، كما قالت.
تجد هنو صعوبة في الاهتمام بطفلتها الأخيرة، خاصة أثناء “استحمامها وتغيير ملابسها”. مع الوقت “تأقلمتُ شيئاً فشيئاً”، لكن الأصعب بالنسبة لها عدم قدرتها على حمل صغيرتها والمشي بها كما تفعل الأمهات، قائلة: “عندما أخرج من المنزل، يحمل زوجي طفلتنا، أو والدتي أو والدي. ينفطر قلبي لأنني لا أستطيع حملها”.
ومن التحديات التي تواجهها النساء ذوات الإعاقة، عدم مراعاة أولويتهنّ في المرافق الطبية، إذ كانت هنو تنتظر وقتاً طويلاً أثناء معاينتها، وهو ما كان يدفعها أحياناً إلى ارتياد عيادة خاصة رغم التكاليف المرتفعة.
اتفقت أم أسامة مع هنو في عدم مراعاة الظروف الخاصة لذوي الإعاقة في شمال غرب سوريا، مشددة على ضرورة “توفير بيئة أكثر دعماً للأمهات ذوات الإعاقة”.
وفي معاناة من نوع آخر، كانت أم أسامة تتكبد مشقة الوصول إلى المراكز الطبية خلال أحمالها الثلاثة، لأن المرافق والمواصلات العامة في شمال غرب سوريا لا تراعي ظروف ذوي الإعاقة الحركية، لذا لا تستطيع زيارة المركز الطبي إلا بـ”استخدام سيارة أجرة أو أن يصطحبني زوجي على دراجته النارية”.
تعليقاً على ذلك، قالت الطبيبة حاج يوسف، أن المستشفيات غير مجهزة بتجهيزات خاصة للنساء ذوات الإعاقة “باستثناء الكرسي والتذكرة الطبية”، مضيفة: “كان لدينا عيادات جوالة تابعة للمستشفى، لكن تم إلغاؤها بسبب انخفاض الدعم”.
خدمات محدودة
للنساء ذوات الإعاقة نفس احتياجات الصحة الجنسية والإنجابية كغيرهنّ من النساء، إلا أنهنّ يواجهن “عقبات فريدة وواسعة الانتشار بسبب الأشكال المتعددة والمتقاطعة للتمييز على أساس الجنس والإعاقة، مما يحول دون الإعمال الكامل لحقوقهنّ وصحتهنّ الجنسية والإنجابية”، ومن أشكال التمييز ضدهنّ تلقيهنّ “رعاية دون المستوى المطلوب”، و”عدم توافر المواد المتعلقة بصحة الأمهات والمواليد بانتظام في أشكال ممكنة الوصول”، إضافة إلى أشكال أخرى.
وقد تكون المعدات والمرافق غير مهيئة مادياً أو مصممة بشكل يلائم النساء ذوات الإعاقة، أو أن يصطدمنّ بعقبات مالية واجتماعية ونفسية “تحول دون الحصول على الرعاية الصحية الإنجابية الكافية”، بحسب المنظمة العالمية لتمكين المرأة.
وفي هذا السياق، قالت الطبيبة حاج يوسف أن “العيادة الجوالة قبل توقفها كانت تساعد في الوصول إلى ذوات الإعاقة اللواتي يصعب عليهنّ الوصول إلى مراكز طبية”.
لا تعرف الطبيبة حاج يوسف أي جهة في شمال غرب سوريا توفر خدمات خاصة ومتكاملة للنساء ذوات الإعاقة، مشددة على ضرورة “توفير شبكة إحالة، وطرق نقل الحالات من وإلى أماكن سكنهنّ، إضافة إلى توفير أدوات مساعدة مثل الكراسي المتحركة أو النظارات أو السماعات، إضافة إلى التثقيف بالصحة الإنجابية ووسائل تنظيم الأسرة”.
وفي هذا الصدد، قال أمجد المالح مؤسس “رابطة مصابات الحرب في الشمال السوري” أن هناك بعض المنظمات تقدم خدمات للنساء ذوات الإعاقة “لكن تلك الخدمات غالباً ما تكون محدودة”، لذا “هناك حاجة ماسة إلى توسيع الخدمات لتكون شاملة ومستدامة”.
وأشار المالح في حديثه لـ”سوريا على طول” إلى أن منظمته تركز على “دعم النساء اللواتي تعرضن للإصابة نفسياً واجتماعياً، وتوفير العديد من الخدمات التي من شأنها إدماجهنّ في المجتمع”، إضافة إلى “تقديم بعض المعدات الطبية البسيطة مثل العكازات والكراسي المتحركة”، وكذلك “إعادة التأهيل المهني”.
وفي إطار عملها، قدمت “رابطة مصابات الحرب في الشمال السوري” جلسات توعية حول الصحة الإنجابية للنساء ذوات الإعاقة، بالتعاون مع مختصين صحيين من منظمات أخرى، لكن “هذه الأنشطة كانت محدودة بسبب قلة الموارد والدعم المتاح”، بحسب المالح.
توقف الدعم المالي للرابطة، ومع ذلك تواصل الرابطة نشاطها “معتمدة على الجهود التطوعية من النساء المصابات”، بحسب المالح، وتشمل الأنشطة الحالية جلسات الدعم النفسي وفعاليات التوعية المحلية، بالإضافة إلى جمع التبرعات لتلبية الاحتياجات الأساسية للمصابات.
وتكتسب الرابطة أهميتها في كون “العديد من النساء العاملات هنّ مصابات حرب، واجهن تحديات جسدية ونفسية كبيرة، ولكنهنّ تغلبن عليها ويعملن على دعم زميلاتهن”، بحسب المالح.
مع ضعف الخدمات المقدمة للنساء ذوات الإعاقة، يبرز دور التكافل العائلي، بحسب أم أسامة، التي اعتمدت على أمها في ولاداتها الثلاث، لكن هذا لا ينفي ضرورة “الاعتماد على النفس”، على حد قولها.
وأضافت أم أسامة: “يتعين على المنظمات توفير تسهيلات وخدمات أكبر للأمهات ذوات الإعاقة، لأنهنّ يواجهن صعوبات أكبر في رعاية أطفالهنّ، وعدم مراعاة ظروفنا الخاصة يسبب لنا تحديات إضافية”.
والدة صفاء هنّو كانت سنداً لها بعد ولادتها الأخيرة، بالإضافة إلى أخواتها وجيرانها “جميعهم ساعدوني ورافقوني”، قالت الأم، مثنية أيضاً على دور ابنتها، التي تبلغ 13 عاماً، لأنها “حملت عني عبئاً كبيراً”.
“كنت أتمنى أن تحتوي المراكز الطبية العامة جميع الخدمات والأدوية، وأن يتوفر فيها بوابات مناسبة للدخول”، قالت هنّو.
“ورود” هو اسم مولودة هنّو الأخيرة، أرادت تسميتها بهذا الاسم لأن “قدومها كان لحظة فارقة غيرت مجرى حياتي للأجمل”، بحسب الأم، معتبرة أن ابنتها ورود هي أجمل هدية بعد إصابتها ببتر طرفيها.
تم إعداد هذا التقرير بالتعاون بين “سوريا على طول” و “رابطة مصابات الحرب في الشمال السوري”ضمن برنامج “صوتنا”.