الإيزيديون السوريون: كفاح طويل ضد انعدام ملكية الأراضي والتمييز في ريف الحسكة
رغم التقدم القانوني الكبير حيال الأقليات الدينية في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا خلال السنوات الأخيرة، غير أنَّ معظم الإيزيديين في محافظة الحسكة ما يزالون فلاحين لأرضٍ لا يملكونها وليس لهم أي حقوق رسمية في المنازل والقرى التي بنوها.
4 أبريل 2023
قزلاجوخ- تبدو قرية قزلاجوخ بمنازلها الطينية المنخفضة المحاطة بمساحاتٍ شاسعة من سنابل القمح كما غيرها من القرى الأخرى في ريف عامودا، إحدى مدن محافظة الحسكة في أقصى شمال شرق سوريا، غير أن الأوشحة الرقيقة ذات اللون البنفسجي الفاتح، التي تلفها نساءٌ عدة على رؤوسهن هنا وهناك، تشير إلى اختلافها عن القرى الكردية، التي ترتدي نساؤها أوشحةً سوداء طويلة مزركشة بأطيافٍ من اللون الأصفر والأبيض والأحمر.
يقطن قريةَ قزلاجوخ الإيزيديون، وهم أقلية دينية يعيش أفرادها تاريخياً في مناطق متفرقة من العراق الحالي، إيران، تركيا وسوريا، المناطق التي يسكنها الكُرد في المجمل. غالباً ما يُعتبر الإيزيدون من الكُرد، كونهم يتكلمون الكرمانجية، وهي لهجة كردية، إلا أنَّ البعض يعتبرون أنفسهم مجتمعاً منفصلاً.
كما غيرهم من الأقليات الدينية والعرقية في شمال شرق سوريا، تعرّض الإيزيديون لعقودٍ من السياسات التمييزية في ظل حكم البعث في سوريا، ومن ضمنها العوائق التي تحول دون وصولهم للتعليم أو حصولهم على الوظائف، وصعوبات شراء وتسجيل الممتلكات بأسمائهم.
قبل ثورة آذار/ مارس 2011 بوقتٍ طويل، اضطر العديد من الإيزيديين للهجرة بسبب الحرمان من الحقوق والفرص الاقتصادية. يقدِّر البيت الإيزيدي، منظمة جامعة تُعنى بالدفاع عن حقوق الإيزيديين في شمال شرق سوريا، أنَّ عدد الإيزيديين الذين ما زالوا في سوريا حالياً انخفض إلى 15 ألف نسمة، من ضمنهم نحو سبعة ألاف الموجودين في محافظة الحسكة، بعد أن بلغوا ذروتهم في التسعينيات، حيث وصل عددهم إلى مئة ألف نسمة.
وصلت الهجرة إلى ذروة غير معهودة في عام 2015 تقريباً، بعد المجازر التي ارتكبها تنظيم “داعش” في سوريا والعراق ضد الإيزيديين. منذ عام 2014 فصاعداً، قتل التنظيم منهم أكثر من 1,200 شخصاً، وخطف وسبى ما ينيف عن سبعة آلاف. معظم الإيزيديين ، البالغ عددهم 550 ألف، الذين كانوا يسكنون في شمال العراق هُجِّروا من ديارهم. كما نزح من عفرين السورية، التي استضافت الجزء الأكبر من المجتمع الإيزيدي في سوريا قبل الحرب، عشرات آلاف الإيزيديين في عام 2018 عندما استولت فصائل المعارضة المدعومة من تركيا على المنطقة.
على النقيض من ذلك، ظلت القرى الإيزيدية في محافظة الحسكة بمنأى عن الحرب نسبياً ولم تطالها أيدي التنظيم. غير أنه بعد عشر سنوات من الانسحاب شبه الكامل للنظام السوري من محافظة الحسكة، ما يزال الإيزيديون لا يملكون أي حق في الأراضي والمنازل والقرى التي يسكنونها منذ قرون. الآن وبعد عقودٍ من التمييز، التي حرمت الآلاف منهم من التعليم وفرص العمل، ما يزال أمامهم الكثير من العمل لتحسين وصول الأفراد إلى حقوق الملكية.
مجتمع إقطاعي
جالساً على سجادة تغطي أرض منزله ذي الفرش المتواضع، حاول صلاح سليمان خضر، مزارع في الأربعين من عمره، أن يسترجع الذكريات والقصص التي سمعها في طفولته عن أصول قرية قزلاجوخ، مسقط رأسه.
بدأ يستذكر الحكاية وعلامات الخجل بادية عليه، ثم استرسل في الحديث عن أسلافه الذين وصلوا إلى شمالي سوريا قبل نحو 150 عاماً، هرباً من الاضطهاد الديني فيما يعرف حالياً بجنوب تركيا.
في سوريا، استقر الجد الأكبر لخضر وأقاربه في أول أرضٍ متاحة وجدوها، بعد أن اشتروها من مالكها المسيحي. “جرت كل الأمور وفقاً للقانون، وسُجلت المعاملة في دوائر السلطة، وكان بحوزة جدي الأكبر ملهم كل المستندات الضرورية التي تثبت ملكيته”، قال خضر لـ”سوريا على طول”.
ولكن بعد موت ملهم، نشب خلافاً بين أبنائه على الميراث. مرت عقود على الحادثة، وتفاصيل النزاع ضبابية في ذاكرة خضر، ولكنه يعتقد أنَّ جده وعمه الأكبر باعا حصصهما إلى رجلٍ إيزيدي ثري في قزلاجوخ، أصبح مختار القرية فيما بعد بحكم امتلاكه معظم الأراضي.
منذ تلك اللحظة إلى وقتنا الراهن، أصبح جد خضر وذريته فلاحين لأرضٍ لا يملكونها. استمروا بزراعة حقولهم، شريطة أن يُعطوا المختار حصةً من حصادهم في كل سنة. وهذا هو حال معظم أهالي قزلاجوخ اليوم، يزرعون أرضاً تعود ملكيتها لعائلةٍ واحدة: أقارب المختار الذي وافته المنية منذ بضع سنوات.
“الناس الذين يعيشون في هذه القرية كلهم عمالنا”، قال أحد أبناء المختار الراحل لـ”سوريا على طول”، الذي طلب عدم الكشف عن هويته حفاظاً على خصوصيته، مشيراً إلى أن “الأراضي في جميع أنحاء القرية مسجلة باسمنا في السجل العقاري”.
وهذه ليس حالةً استثنائية فريدة من نوعها، وإنما ما تزال هذه الهيكلية الاقتصادية الهرمية، التي يزرع فيها غالبية الفلاحين الذين لا يملكون أرضاً أو أراض تعود ملكيتها لعائلةٍ واحدة، شائعةً في الكثير من المجتمعات الإيزيدية.
ويعود ذلك جزئياً إلى إرث المجتمع الإقطاعي التقليدي، المقسَّم إلى ثلاث طبقات منفصلة كلياً: زعماء الدين، زعماء السياسة، والعوام. على الرغم من تلاشي هذا النظام الطبقي تدريجياً، غير أنّه ما يزال سائداً في المناطق والمجتمعات الريفية وما يزال يطيل أمد أوجه عدم المساواة والفوارق ضمن المجتمع.
“بعد نشوء الدولة السورية الحديثة، كان غالبية الإيزيديين الذين حصلوا على حقوق قانونية في الأراضي من المخاتير أو الأغوات [لقب فخري للقادة المدنيين والعسكريين في عهد الإمبراطورية العثمانية]”، بحسب إلياس سيدو، عضو المجلس الإداري للبيت الإيزيدي، قائلاً في حديثه لـ”سوريا على طول”: “كونهم قادة سياسيين، كان لهم تواصل مباشر مع الدولة، وكانوا أكثر تمكناً في الحصول على الاعتراف بحقوقهم”.
مجموعة من قضايا الملكية
في ظل حكم حزب البعث، الذي استولى على السلطة في عام 1963، كان الإيزيديون والكُرد يُعتبرون مواطنين من الدرجة الثانية، لدرجة أنهم “أُجبِروا على تعلم العربية والديانة الإسلامية في المدرسة، ولم يُعترف بالديانة الإيزيدية”، بحسب سيدو.
“معظم الذين كانوا يرتادون المدرسة لم يتمكنوا أبداً من اجتياز الثانوية العامة، وأولئك الذين اجتازوها لم يُعطَوا شهادات، ولذلك لم يتمكنوا من التقدم لوظائف مكتبية وإدارية”، كما استذكر خضر.
جعل التمييز البنيوي بطبقاته المتعددة العديد من الإيزيديين أكثر اعتماديةً على الزراعة، إذ أنهم واجهوا عوائق تحول دون حصولهم على التعليم والوظائف وملكية الأراضي. وهذا بدوره، قيّدهم أكثر بالنخب المحلية التي تتحكم بالأرض و بمن يحق له زراعتها.
لكن الصفعة الكبرى لحقوق الكُرد، بما فيهم الإيزيديين، حدثت قبل وقت قصير من وصول حزب البعث إلى السلطة. في عام 1962، أمر محافظ الحسكة آنذاك بإجراء إحصاءٍ عاجل يهدف رسمياً إلى مواجهة تدفق المهاجرين الكُرد من تركيا إلى سوريا. لم يُمنح المقيمون سوى يوماً واحداً لتقديم أوراق تثبت أنهم كانوا يعيشون في سوريا قبل عام 1945، ومن لم يتمكن من إثبات ذلك تم تجريده من جنسيته السورية. حرم التعداد نحو 120 ألف كردي من الجنسية.
لم يعد بوسع الكُرد المجردين من الجنسية امتلاك العقارات، أو القيام بالأعمال التجارية، أو السفر، أو العمل في القطاع العام، أو الحصول على شهاداتٍ جامعية. ما اضطر الآلاف إلى تسجيل ممتلكاتهم باسم قريبٍ أو جارٍ أو صديق لهم. ولكن هذا الحل جعلهم أكثر عرضةً للابتزاز وسوء المعاملة، إذ يمكن لأولئك الذين أعاروهم أسماءهم أن يستردوا الملكية في أي وقت.
تأثر العديد من الإيزيديين أيضاً بهذا الوضع، ورغم أنَّ معظم أهالي قرية قزلاجوخ تمكنوا من إثبات جنسيتهم السورية، غير أنه تم تسجيل عائلتين في القرية على أنهم مكتومي القيد [لعدم امتلاكهم أي مستندات أو وثائق شخصية تثبت إقامتهم في سوريا].
اقرأ أكثر: “لا مستقبل لنا في العراق”: تداعيات التجريد من الجنسية تلاحق الكرد السوريين في مهجرهم
بمرور الوقت، اتسعت فجوة التعليم ومحو الأمية بين أولئك الذين يمتلكون الجنسية و المجردين منها، وكذلك بين النخب المحلية والعوام. ونتيجة لذلك، ما يزال العديد من أهالي قزلاجوخ من دون أي حق في الأرض التي يزرعونها أو المنازل التي يسكنونها.
“ما نزال عبيداً للمختار”، قال والد خضر، ذو الثمانين عاماً، لـ”سوريا على طول”، وأضاف: “أعيش في هذه القرية منذ وُلِدت، وأزرع فيها طول حياتي، ورغم ذلك، لا أملك قطعة أرض واحدة”.
عندما توفي المختار، ذهبت مزارعه، التي تبلغ مساحتها ثلاثة آلاف دونم (300 هكتار) إلى سبعةٍ من أقاربه المباشرين، إلى جانب الأرض التي بنيت عليها القرية. على الرغم من أنّ الجميع في القرية يعتبرون المنازل فيها ملكاً للعائلات التي تقطنها، إلا أنّه ليس لدى أيٍ منهم فعلياً مستندات إثبات ملكية، ما يعني أنّ للمالك إمكانية طردهم ما بين ليلةٍ وضحاها إن شاء ذلك، أو بيع الأرض لشخصٍ آخر.
“نظراً لأن معظم الإيزيديين ما يزالون فلاحين بأرضٍ لا يملكونها فلا يُمكنهم أن يحفروا فيها بئراً أو بيعها أو تأجيرها، وعندما تغادر إحدى العائلات، تعود قطعة الأرض التي كانوا يزرعونها إلى المالك”، بحسب سيدو.
الزراعة في الحسكة بعلية بالمجمل، لكن المزارعين باتوا يعتمدون بشكل متزايد على الآبار للري، نتيجة انخفاض معدل الأمطار في السنوات الأخيرة. ولأنَّ السلطات المحلية لا تمنح البذور المدعومة والوقود سوى للمزارعين الذين يقومون بسقاية أراضيهم، فإن أولئك الذين يعتمدون على الأمطار، كما في حالة خضر، يتلقون دعماً أقل بكثير من المزارعين المالكين للأراضي.
عشر سنواتٍ من الحكم الذاتي
في عام 2013، انسحب النظام السوري من معظم أنحاء محافظة الحسكة تدريجياً، ليعزز وجوده في أجزاء أخرى من البلاد، لمحاربة فصائل المعارضة المسلحة، التي ظهرت بعد ثورة 2011. حلّ في مؤسساته تحالف من الأحزاب الكردية والعربية والآشورية والسريانية بقيادة الكُرد، التي عرفت منذ عام 2018 باسم الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.
ما لبث التحالف الجديد، متعدد الأعراق، أن اتخذ تدابير لإنهاء التمييز الرسمي ضد العديد من الأقليات في شمال شرق سوريا، بما في ذلك الإيزيديين والآشوريين. إذ تم الاعتراف بالآرامية والكردية كلغات رسمية إلى جانب اللغة العربية، وتم الاعتراف بالعقيدة الإيزيدية كغيرها من الديانات، وتمكن الإيزيديون”التنفس لأول مرةٍ منذ عقود”، على حد قول سيدو.
لكن الإجراءات الشكلية لا يمكنها محو عقود من أوجه اللامساواة المتأصلة بين ليلةٍ وضحاها، وفيما يتعلق بحقوق الملكية، لم يكن هناك تغيرات إلا بالقدر اليسير بالنسبة لأهالي قزلاجوخ.
ما يزال معظم السكان لا يعلمون يقيناً أي حقوقٍ -إن وجد أياً منها- يمكنهم المطالبة بها بخصوص منازلهم، ويجدون أنَّ الخوض في الإجراءات الإدارية والقانونية متاهة شاقة. تساءل خضر: “إن أردت أن أسجل منزلي غداً، أين يجب أن أذهب؟ ماذا يجب أن أفعل؟ إلى من أتكلم؟”، لذلك، “يتعين على السلطات زيارة قريتنا وتسجيل منازلنا باسمنا لأننا لا نعرف كيف نفعل ذلك”.
قبل عام 2013، بما أنّ الإيزيديين يعلمون أنه لا يمكنهم تسجيل المنازل بأسمائهم أو الحصول على الرخص المطلوبة من أجهزة أمن الدولة، كان معظمهم يبنون بيوتهم بشكل غير رسمي، من دون تراخيص وسندات ملكية، من مواد رخيصة ومتوفرة محلياً كالطين، عوضاً عن استخدام الإسمنت والطوب باهظة الثمن. وكانوا يتوقعون أن تغض الحكومة السورية الطرف عنهم، حيث بنيت جميع المنازل في الريف بهذه الطريقة.
في وقتنا الراهن يسود الطابع غير الرسمي وثقافة العشوائيات، ولا يرى الكثيرون المغزى من تسجيل ممتلكاتهم. قال ابن المختار: “لم نفكر يوماً بتسجيل هذه المنازل وفق الأصول في السجل العقاري”، مضيفاً: “هكذا تجري الأمور دائماً في المناطق الريفية، تبنى المنازل بشكل غير نظامي منذ البداية ولا تسجل بعدها أبداً. لم يطالبنا احدٌ بتسجيلها، ولا نخشى أن يطالبنا أحد”.
ما تزال الأراضي متركزة في أيدي نخبة قليلة، ورغم انخفاض عدد سكان القرية عقب الحرب من 25 عائلى إلى 14 “لم يتغير شيء بالنسبة لنا”، قال خضر، مشيراً إلى أن “الناس غادروا، ولكن الأراضي التي كانوا يزرعونها عادت إلى عائلة المختار”.
ورغم وجود عائلته المستمر في القرية لأكثر من ثلاثة أجيال، يدرك خضر أنَّ هذه الجذور التي تربطه بالأرض واهية، قائلاً: “إن امتلاك حقوق على هذه الأرض مهم جداً بالنسبة لي، ولمستقبل أطفالي”، وختم قوله: “كنا دائماً نزرع هذه الأرض، ومن الجيد أن تصبح أرضنا بشكل قانوني”.
تم نشر هذا التقرير أصلاً في اللغة الإنجليزية وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور