الانتحار في شمال غرب سوريا: يترك ذوي الضحايا في مواجهة “وصمة العار”
يتعارض الانتحار مع مبادئ المجتمع السوري دينياً ومجتمعياً، وهو ما يدفع أقرباء وأصدقاء الضحايا إلى إنكار حقيقة انتحار أحبائهم أو رفض ذكر أسمائهم أمام الرأي العام والإعلام هرباً من إعادة قصصهم إلى الواجهة، وأملاً بأن يطويها الزمن.
21 يونيو 2022
إدلب- في الرابع من حزيران/ يونيو الحالي، أقدمت مريم، 24 عاماً، على الانتحار بتناول حبّة “غاز الفوسفيد”، في محافظة إدلب، كردة فعلٍ على عقد قرانها من رجل يكبرها بعشرين عاماً، كما قالت سمية، إحدى قريبات مريم، لـ”سوريا على طول”.
مريم هي واحدة من خمس حالات انتحار شهدتها مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام والمعارضة شمال غرب سوريا منذ مطلع حزيران/ يونيو الحالي، آخرها انتحار الشاب حاتم علوش داخل خيمته بمخيمات قاح شمال إدلب، في العاشر من هذا الشهر.
ظنت عائلة مريم أن الوفاة طبيعية، ليتبين لاحقاً أن ابنتهم انتحرت، ومع ذلك “ما زالوا ينكرون ذلك، ويروّجون رواية أنها توفيت بسبب تناول خضار تم رشّها بمبيد حشري شديد السمية”، في محاولة للهروب من نظرة المجتمع، بحسب سمية، التي طلبت عدم الكشف عن هويّتيهما.
ووثق فريق منسقو استجابة سوريا، منظمة إنسانية محلية، 33 حالة انتحار في شمال غرب سوريا، منذ مطلع عام 2022 حتى الخامس من حزيران/ يونيو الحالي، منها 26 حالة أدت إلى الوفاة، من بين الوفيات 10 نساء وتسعة أطفال، في مؤشر على تزايد حالات الانتحار في المنطقة.
وتحتوي “حبة الغاز” على مادة “فوسفيد الألمنيوم” ويتم استخدامها “لعدم وجود رقابة من السلطات المحلية تضبط استخدامها” للأغراض الخاصة بها باعتبارها مبيداً للقوارض والحشرات، ومادة حافظة للحبوب”، كما قال الطبيب مهند الخليل أخصائي الأمراض الباطنية، والذي يجري جلسات دورية لرأب الفجوة النفسية عند المرضى النفسيين، مشيراً في حديثه لـ”سوريا على طول” إلى أن هذا مفعول الحبة يؤثر على “الجهاز الهضمي، الكبد، الكلى، الجهاز العصبي المركزي، الرئتين، عضلة القلب، الأنسجة والخلايا، وهو ما يقلص فرص النجاة بعد ابتلاعها”.
دوافع الانتحار
نجا الشاب عدي، 28 عاماً، من الموت بعد أن فشلت محاولته في الانتحار بإطلاق الرصاص على منطقة البطن، في آذار/ مارس الماضي، وتمكنت عائلته من إسعافه قبل مفارقته الحياة، كما قال لـ”سوريا على طول”.
خضع عدي، المقيم في محافظة إدلب، “لعمليتين جراحتين من أجل إزالة الرصاصتين من جسدي”، وما زال يعاني “من ندوب في البطن ومشاكل في الأمعاء”.
عبّر عدي عن ندمه على محاولة الانتحار، مستذكراً “مشهد بكاء أطفالي وخوفهم من الحادثة، حيث هرع أطفالي الثلاثة إلى الغرفة، وأمست ابنتي بيدي عندما كنت أنزف”، لكن ما كان ليفعل ذلك لولا “تراكم الديون، وعجزي عن تأمين الطعام لأولادي”، بحسب قوله.
فوق ذلك، شعر عدي بالعجز عن القيام بواجبه “تجاه أمي الفاقدة للبصر وحاجتها للمتابعة الطبية المأجورة”، رغم عمله في مجال الديكور والدهان، موضحاً أن الأعباء المعيشية تفوق قدرته.
تعليقاً على ظاهرة الانتحار في شمال غرب سوريا، قال أحمد العثمان، قائد فريق دعم نفسي في اتحاد منظمات الإغاثة والرعاية الطبية أن “الأمور المتعلقة بالمعيشة والسكن من أهم الأسباب التي قد تؤدي إلى اضطرابات نفسية وميول انتحارية”، مشيراً في حديثه لـ”سوريا على طول” أن فريقه تعامل منذ مطلع عام 2022 مع 12 حالة لديها ميول انتحارية في محافظة إدلب “بسبب الاكتئاب الحاد واضطراب الشخصية”، وأوضح أن “الأشخاص الذين تتراكم عليهم الديون ويعجزون عن سدادها يميلون إلى الانتحار”.
من جانبها، فسّرت نادرة القاسم، داعمة نفسية اجتماعية في إحدى منظمات المجتمع المدني العاملة في مخيمات أطمة شمال إدلب، انتحار النساء “بسبب العنف القائم على النوع الاجتماعي، والظروف والمشكلات العائلية، التي تتنوع بين الإهمال والتعنيف وعدم توفير الاحتياجات”، إضافة إلى “الإجبار على الزواج”، كما في قصة مريم.
وفي الوقت الذي تعيش النساء “في ظل عادات وتقاليد مقيّدة لها”، حملت الحرب المرأة “مسؤوليات جديدة إضافية، وجعلتها في كثر من الحالات بمقام رب الأسرة، ما يعني مسؤوليتها عن تأمين المال وإدارة البيت، كل ذلك يولد ضغوطاً إضافية قد لا تتحملها”، وهو ما يدفع بعضهنّ في نهاية المطاف إلى الانتحار، كما قالت القاسم لـ”سوريا على طول”.
ويعيش أكثر من 90% من سكان سوريا تحت خط الفقر، وفقاً لوكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، مارتن غريفيث، في إحاطته لمجلس الأمن حول الوضع الإنساني، في 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2021.
في شمال غرب سوريا، بلغ عدد الشباب العاطلين عن العمل ممن دون سن 35 عاماً 85%، وفقاً لاستبيان صادر عن “منسقو استجابة سوريا” في شباط/فبراير 2021، وبحسب البيان 50% ممن هم فوق 35 عاماً ليس لديهم عمل.
وتوقع محمد حلاج، مدير منسقو الاستجابة، زيادة في نسب البطالة بالمنطقة، خاصة “مع الأزمة الاقتصادية التي فرضتها الحرب الروسية على أوكرانيا، وانخفاض مستوى دخل الفرد مقابل ارتفاع أسعار الصرف”، كما قال لـ”سوريا على طول”.
واقع الصحة النفسية في إدلب
مع بداية عام 2020، تزايد اهتمام الجهات المانحة في مشاريع الدعم النفسي بشكل واضح، بعد أن كان التركيز سابقاً “على المشاريع المركزية لتعزيز حوكمة القطاع الصحي في شمال غرب سوريا”، كما قال منسق مشاريع في إحدى منظمات المجتمع المدني بإدلب، طالباً عدم الكشف عن اسمه لأسباب تتعلق بعدم رغبة المنظمة في التصريح للإعلام عن مشاريع الدعم النفسي.
وجاء الاهتمام المتزايد من المانحين “من مبدأ تكاملية الخدمات، والحاجة للدعم النفسي في ظل الأزمات”، وهو ما دفع المنظمات المحلية إلى الاستجابة “تلبية لهذا الاهتمام بهدف زيادة فرص التمويل”، لكن ما تزال خدمة الدعم النفسي “غير متوفرة لجميع السكان في إدلب”.
وأوضح المصدر أن “خدمات الصحة النفسية ليست مكلفة، وغالباً لا تتجاوز 3% من الموازنة الشهرية للمرفق الخدمي”، لكن إذا كانت “الخدمات نوعية كتلك المقدمة في المستشفيات التخصصية تكون التكلفة مرتفعة”، مشيراً إلى “وجود مستشفى واحد فقط متخصص بالأمراض العقلية والنفسية، يقع في مدينة سرمدا شمال إدلب”.
ويعاني قطاع الصحة النفسية في شمال غرب سوريا، الذي يقطن فيه أكثر من أربعة ملايين نسمة نصفهم نازحون، من “قلة المختصين النفسيين”، بحسب أحمد العثمان، قائد فريق الدعم النفسي في اتحاد منظمات الإغاثة والرعاية الطبية.
وتستقبل الكوادر العاملة في هذا القطاع “أي حالة مرضية حاولت الانتحار أو إيذاء نفسها”، وبعد تقييمها سريرياً “يتولى مشرف الحالات النشطة الإشراف المباشر والفوري على الحالات التي لديها أفكار انتحارية نشطة”، وفقاً للعثمان، فيما يتم “تقديم خدمة التثقيف النفسي بتعزيز عوامل الحماية والتخلص من عوامل الخطورة للحالات الباردة”.
إلى جانب هذه الجهود، ينظم العاملون في قطاع الصحة النفسية بإدلب “أنشطة توعية جماعية تهدف إلى التعامل الواعي من قبل المجتمع المحيط مع الأفراد الذين لديهم أفكار انتحارية”، كما قال العثمان.
“وصمة عار”
في أواخر نيسان/ أبريل الماضي، أقدم صديق محمد الإدلبي من قرية ترمانين بريف إدلب الشمالي على الانتحار بـ”حبة غاز”، وهو “رابع فرد من العائلة ينتحر في غضون عامين”، كما قال الإدلبي لـ”سوريا على طول”.
كان الإدلبي في مكان واقعة انتحار صديقه، ذو الثلاثين عاماً، مشيراً إلى أنه سمع نداءه “قبل أن يغيب عن الوعي، يطلب مني إسعافه، وهو مغمض العينين”، وفي أثناء الطريق إلى مستشفى باب الهوى فارق الشاب الحياة وهو يردد “لا أريد أن أموت”، لكن “فات الأوان” بحسب الإدلبي.
بداية قصة العائلة مع الانتحار كانت قبل عامين، عندما “أقدم والد صديقي على الانتحار بتناول حبة غاز في عام 2020 بسبب سوء وضعه الصحي وتدهور علاقاته العائلية”، ومن ثم انتحرت زوجة صديق الإدلبي “نتيجة خلافات عائلية وإهمال زوجها”، الذي انتحر قبل شهرين، كما “انتحر أخوه، 25 عاماً، بإطلاق النار على نفسه “بعد صدمة نفسية ناتجة عن خسارة مالية كبيرة”.
بعد ذلك، صار صديق الإدلبي “انطوائياً ويفضل عدم الخروج من المنزل هرباً من كلمات الناس المؤذية، التي تعيّره بزوجته وأبيه وأخيه”.
ولطالما تردد على مسامع صديق الإدلبي، بحسب قول الأخير، كلمات من قبيل: “متى دورك؟، كم حبة سوف تشرب؟”، كل ذلك أسهم في تأزم حالة صديقه، حتى “بدت عليه علامات الموت وهو على قيد الحياة”، بحسب الإدلبي.
ويتعارض الانتحار مع مبادئ المجتمع السوري دينياً ومجتمعياً، وهو ما يدفع أقرباء وأصدقاء الضحايا إلى إنكار حقيقة انتحار أحبائهم أو رفض ذكر أسمائهم أمام الرأي العام والإعلام “هرباً من إعادة قصصهم إلى الواجهة، وأملاً بأن يطويها الزمن”، وهو ما حدث مع عائلة مريم، التي تنكر انتحار ابنتها حتى اليوم، وفقاً لقريبتها سمية.
وقد يصل الحال بذوي ضحايا الانتحار إلى “رفض افتتاح مجالس عزاء لهم، أو التبرؤ من الضحية”، كما في حالة فاطمة (اسم مستعار)، التي أقدمت على الانتحار منتصف شباط/ فبراير الماضي، في مخيمات أطمة، “بعد أن تزوج زوجها عليها من سيدة أخرى وتغيرت معاملته معها”، بحسب ما قال شقيق زوجها لـ”سوريا على طول”.
وفي هذا السياق، قال أحمد العثمان بأن “محيط الشخص المنتحر يشعرون بالخزي والعار إضافة إلى مشاعر الحزن والأسى التي تخيّم عليهم”، معتبراً أن “وصمة العار” أكثر ما يخيف ذوي ضحايا الانتحار “على خلفية معتقداتهم الدينية وعادات وتقاليد وثقافة المجتمع، وهو ما يجبرهم على عدم تقبل السلوك ورفضه”.
وفي سبيل الحدّ من عمليات الانتحار، شدد العثمان على أن “بعض الخطط قد تحتاج إلى حلول على مستوى السلطات، من قبيل: تحسين الوضع المعيشي، وتأمين فرص العمل، وضبط أسعار المواد الأساسية”.
خصص اتحاد المنظمات الطبية الإغاثية السورية (UOSSM) خطاً ساخناً لاستقبال الاستشارات النفسية، شمال غرب سوريا، يومياً ما عدا يوم الخميس من الساعة 9 صباحاً حتى الساعة 9 ليلاً: 00905468785540