“البعث” في درعا: عين الأسد الأمنية وإرث أبيه لتثبيت النظام
بعد مرور 6 سنوات على عودة مؤسسات النظام إلى درعا، ما تزال مقرات حزب البعث مغلقة في العديد من مدن وبلدات المحافظة الجنوبية، ومع ذلك يحاول الحزب استعادة نشاطه ودوره
26 أغسطس 2024
باريس- في حادثة هي الأولى من نوعها بمحافظة درعا جنوب سوريا، شارك العضوان في مجلس الشعب السوري فاروق قاسم الحمادي وياسين غصاب الزامل، إلى جانب وجهاء ومخاتير وقادة محليون، في 13 آب/ أغسطس الحالي، بتشكيل جسم عسكري محلي في مدينة إنخل، بريف المحافظة الشمالي، تحت قيادة عبد الحكيم العيد، قائد مجموعات تابعة للواء الثامن.
يسعى الفصيل الجديد إلى “إدارة مصالح ومشاكل البلد وتخليصه مما هو فيه من عادات سيئة”، بحسب بيان التأسيس المنشور على مواقع التواصل الاجتماعي، وسيصدر لاحقاً “حزمة من القوانين والأنظمة التي سيتم اتباعها والعمل بها بعد أخذ موافقة أعيان البلد عليها”.
لعب الزامل، وهو أحد الشخصيات البارزة في حزب البعث العربي الاشتراكي (الحاكم)، إلى جانب شخصيات بعثية أخرى في المدينة دوراً رئيسياً في تشكيل الجسم العسكري، كما قال اثنان من أبناء المدينة لـ”سوريا على طول”، دون الأشارة إلى الأسباب التي دفعتهم للمشاركة أو إن كانا مدفوعين من الحزب، في مسعى للنظام بإعادة دور “البعث” في إدارة المحافظة الجنوبية بعد استعادة السيطرة عليها بموجب اتفاق التسوية بين النظام والمعارضة في عام 2018 بدعم روسي.
رسخ حزب البعث دوره في إدارة البلاد في دستور سوريا، الصادر عام 1973، إذ تنص المادة الثامنة منه على أن “حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية”.
تراجع دور حزب البعث في إدارة شؤون البلاد، لا سيما بعد خروج مناطق واسعة عن سيطرة النظام خلال سنوات الثورة السورية، التي اندلعت في ربيع 2011، كما في حالة محافظة درعا، التي يحاول الحزب استعادة نشاطه ودوره فيها.
العودة إلى الواجهة
بعد مرور ست سنوات على عودة مؤسسات النظام إلى محافظة درعا، ما تزال مقرات حزب البعث في العديد من مدن وبلدات المحافظة مغلقة لعدم موافقة فصائل التسوية أو شخصيات محسوبة عليها على إعادة فتح مقرات الحزب كما كانت عليه قبل عام 2011.
يمارس أعضاء شعبة منطقة بصرى الشام في حزب البعث أعمالهم من مقر الحزب في مدينة درعا، لأن اللواء الثامن، الذي يتبع رسمياً لشعبة الاستخبارات العسكرية السورية ويقوده القيادي السابق في المعارضة أحمد العودة، يمنع أعضاء الحزب من إعادة فتح مقرّاتهم في المدينة، كما قال مسؤول في شعبة الحزب ببصرى الشام لـ”سوريا على طول”.
لكن بقاء المقرات مغلقة لا يعني أن أعضاء الحزب غير متواجدين في حوران أو لا يمارسون أنشطة في مدنها وبلداتها لصالح الحزب والنظام. في إنخل “عاد عناصر حزب البعث لتنفيذ أنشطة في المدينة عقب اتفاق التسوية”، رغم أن المقر ما زال مغلقاً، بحسب أبو اسماعيل، من أبناء إنخل، وهو معلم في مدارس المدينة وعضو سابق في حزب البعث.
“يعقد رجال البعث في إنخل اجتماعاتهم الدورية بمنزل أحد أعضاء الحزب في المدينة، وأجروا انتخابات داخلية للحزب قبل أسابيع”، وكان لهم دور في “الترويج” لانتخابات مجلس الشعب، التي أجريت في منتصف تموز/ يوليو الماضي، “ودعم مرشحي الحزب”، كما أوضح أبو اسماعيل لـ”سوريا على طول”، طالباً عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية.
تاريخياً، تعد المدارس الساحة الأبرز لنشاطات حزب البعث وترويج أفكاره، ومع استعادة النظام سيطرته على إنخل “سيطر الحزب على مدارس المدينة، ونظّم الكثير من الأنشطة الرامية لنشر أفكار الحزب ومبادئه وشعاراته”، وفقاً لأبو اسماعيل.
وكذلك، سعت شخصيات تابعة لحزب البعث في إنخل إلى لعب أدوار على صعيد ملف الخدمات الأساسية، التي تم إعادة تشغيل بعضها على نفقة أبناء المدينة بعد إطلاق حملات تبرعات، إذ حاول أعضاء البعث البارزين في المدينة “تصدر مشهد جمع التبرعات الأهلية بشكل متكرر، وتصوير الحملات على أنها برعاية من الحزب أو مدعومة منه”، كما أوضح أبو اسماعيل، مشيراً إلى أن “الأهالي رفضوا ذلك وأبعدوا هذه الشخصيات عن المشهد”.
أما في مدينة طفس، ادعت اللجنة المركزية في ريف درعا الغربي، التي تشكلت في أعقاب تسوية 2018 وتتولى إدارة المنطقة والتفاوض مع النظام، أن “نشاط الحزب ممنوع” لكن في الواقع “ينشط عناصر الحزب سراً، وينظمون اجتماعاتهم في المنازل، ويذهبون إلى مدينة درعا لإتمام أعمالهم”، بعد أن توصلوا إلى “اتفاق غير معلن” مع اللجنة والقادة العسكريين في طفس قبل عدة أشهر، كما قال مصدر إعلامي مقرب من اللجنة لـ”سوريا على طول”.
وفي منتصف تموز/ يوليو، سمحت اللجنة المركزية لأعضاء حزب البعث بوضع صندوق اقتراع لانتخابات مجلس الشعب، التي جرت “تحت حماية المجموعات المحلية في المدينة”، بحسب المصدر الإعلامي.
وأيضاً، هناك تنسيق بين أعضاء حزب البعث في طفس ولجنة الإصلاح التابعة للجنة المركزية في بعض القضايا داخل المدينة، ولكن يجري التنسيق بشكل غير معلن لعدم استفزاز السكان الرافضين لـ”حزب البعث”، بحسب المصدر.
تواصلت “سوريا على طول” مع اللجنة المركزية للتعليق على دور الحزب في طفس والتأكد من صحة ما قيل عن التنسيق بينها وبين أعضاء الحزب، لكنها لم تتلق أي رد حتى لحظة نشر هذا التقرير.
من جهته، قال مسؤول في حزب البعث في ريف درعا الشمالي أن الحزب “يشرف على المدارس، ويعمل على الصلح الاجتماعي بين الناس، إضافة إلى تنظيم المهرجانات والنشاطات الرياضية والعلمية”، مشيراً إلى وجود “قنوات اتصال مباشرة مع المسؤولين الحكوميين” في المحافظة الجنوبية.
وأيضاً، يحاول أعضاء حزب البعث حلّ المشكلات المتعلقة بالخدمات الأساسية “عبر الاتصال الهاتفي [بالمسؤولين] أو إجراء زيارات ميدانية”، وفي حال عدم الاستجابة “نرفع ذلك إلى قيادة الفرع أثناء رفع جلسة الشعبة”، كما قال المسؤول لـ”سوريا على طول” طالباً عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية.
بالتزامن مع عودة نشاط الحزب إلى جنوب البلاد، يعمل أعضاء الحزب في درعا بـ”حذر”، ويحرصون على أن تكون أنشطتهم “في أماكن آمنة، لأننا تلقينا الكثير من التهديدات”، بحسب المسؤول.
وخلال السنوات الست الماضية، قُتل العديد من أعضاء حزب البعث على يد مجهولين في محافظة درعا، في ظل ما تشهده المحافظة من فلتان أمني مستمر، أبرزهم: أمين شعبة حزب البعث في مدينة نوى غرب درعا، فريد العمارين، الذي اغتيل في نيسان/ أبريل 2022.
“أدوار قيادية لا رقابية”
تؤدي الأحزاب السياسية دوراً مهماً في تنشيط الحياة السياسية، من خلال تكوين آراء الناخبين ومساعدتهم، وضمان الانتقال السلمي للسلطة، والرقابة على أعمال الحكومة، وهذا لا ينطبق على سوريا، التي يدير فيها حزب البعث مؤسسات الدولة ويتدخل في مفاصلها.
رصدت “سوريا على طول” المعرفات الرسمية التابعة لشُعَب حزب البعث في محافظة درعا على وسائل التواصل الاجتماعي، وتشير البيانات إلى أن أمناء الشُعَب مارسوا أدواراً أعلى من الأدوار الرقابية المتعارف عليها في دور الأحزاب وعلاقتها مع المؤسسات الحكومية.
في 28 تموز/ يوليو الماضي، زار حابس الغصين، أمين شعبة الحزب في مدينة الصنمين شمال درعا، مجموعة التعليم المتكامل في المركز الثقافي العربي في الصنمين. وفي مطلع الشهر ذاته، أجرى الغصين رفقة عضو آخر في قيادة شعبة الصنمين زيارة إلى المصرف الزراعي في الصنمين “للاطلاع على واقع العمل فيه والوقوف على الصعوبات وإيجاد سبل تذليلها”.
وفي شعبة بصرى الشام، شرقي درعا، أجرى أمين الشعبة، عقلة عبد الكريم، العديد من الزيارات للمؤسسات الحكومية والمجتمعية، منها زيارة مشروع حفر بئر جديد ومشروع صرف صحي في بلدة معربة بالريف الشرقي من المحافظة، جرى تمويلهما من قبل الأهالي، رافقه في الجولة رئيس بلدية معربة خالد الكردي.
تظهر الصور المنشورة عن الأنشطة التي رصدتها “سوريا على طول” واللغة المستخدمة في الإعلان عن هذه الأنشطة تعامل مسؤولي المؤسسات الحكومية مع أمناء شُعب الحزب على أنهم مسؤولين أعلى رتبة.
تعليقاً على ذلك، قال محمد سعيد مصري، الضابط المنشق عن جهاز الشرطة السوري والباحث في مركز جسور للدراسات ومقره تركيا، أن “الأدوار التي يقوم بها أمناء حزب البعث ليست الأدوار الرقابية المتعارف عليها للأحزاب السياسية في العالم، وإنما هي آليات قيادية وتنفيذية مباشرة”، على حد وصفه في حديثه لـ”سوريا على طول”.
عندما يزور أمين شعبة الحزب مدرسة أو مؤسسة حكومية، يستقبله مدير المؤسسة “استقبالاً رسمياً” وهذا لا يتاح لباقي الأحزاب “إن كان هناك أحزاباً حقيقية في سوريا”، بحسب مصري.
وعزا مصري هذا المشهد المتكرر إلى أن “أعضاء حزب البعث يتعاملون وكأن البعث هو القائد للدولة والمجتمع، متجاهلين تماماً الثورة التي جرت على الأرض، والتغيرات الدستورية [التي تضمنها دستور 2012، وتؤكد على التعددية السياسية]”، ومع عودة النظام إلى جنوب سوريا “عادوا إلى تعزيز نظريتهم بأن الحزب هو القائد للدولة والمجتمع”.
يتجلى ذلك في قضية عزل القيادة المركزية لحزب البعث نقيب المهندسين الزراعيين عبد الكافي الخلف، في 17 تموز/ يوليو الماضي، وتعيين علي سعادات بديلاً عنه، وفي هذا “تجاوز لصلاحيات الحزب على النقابات المهنية دستورياً وعرفياً”، إذ إن “سحب الثقة من النقيب أو مجلس النقابة أو أحد أعضائه” من صلاحيات المؤتمر العام للنقابة، وهو أعلى هيئة فيها، بحسب القانون 8 لعام 2018 الناظم لمهنة الهندسة الزراعية.
التقارير الأمنية
منذ سبعينات القرن الماضي، رسخ حزب البعث مبدأ “التقارير الأمنية” عندما ربط الترقية في مؤسسات الدولة أو في منظومته الحزبية بـ”التقارير الأمنية”، كما قال محمد سعيد مصري، الباحث في جسور، وضرب مثالاً على ذلك بأنه “لا يمكن للمعلم أن يترقى في وظيفته إلى موجه تربوي أو مدير مدرسة قبل أن يكتب تقارير أمنية بحق زملائه وطلابه”، على حدّ قوله.
وبالتالي، فإن “الكفاءة ليست معياراً في سوريا، وإنما الانتماء الحزبي والمشاركة في الأنشطة الحزبية”، وأهمها ما يعرف بـ”الوظائف الحزبية الملازمة، أو الدور الملازم، أي التقارير الأمنية”، بحسب مصري، قائلاً: “حتى تكون بعثياً حقيقياً، يجب أن تكتب تقارير أمنية لأنها عنصر جوهري للترقية”.
وبذلك، تحولّت كوادر البعث إلى شخصيات أمنية، وهذه الصفة ملازمة لهم طيلة عقود طويلة وما تزال حاضرة إلى اليوم في حوران، كما قال أربعة من المصادر الذين تحدثوا لـ”سوريا على طول”.
وفي هذا السياق، قال قيادي سابق في المعارضة، مقيم في شرق درعا، أن “غالبية الدراسات الأمنية التي تجريها الأفرع الأمنية اليوم في حوران، تتم عبر أعضاء حزب البعث”، مشيراً إلى أن “الفرع الأمني يرسل الدراسات الأمنية عن الأشخاص، ويقوم أعضاء البعث بتصحيح المعلومات أو تأكيدها، وأحياناً يًطلب منهم إعداد دراسات أمنية”.
لذلك، يشعر الأهالي بـ”الخوف من تقارير أعضاء حزب البعث، ولا يستطيعون التحدث بأريحية أمامهم”، بحسب أبو اسماعيل من مدينة إنخل.
في أيار/ مايو 2024، التقى بشار الأسد، بصفته الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي، لجنة الرقابة والتفتيش الجديدة، وبحث مع أعضائها “تنشيط دور اللجنة وتنفيذ مهامها بفاعلية أعلى لتحقيق الأثر المطلوب في المجال الرقابي”. في إشارة إلى ما يعرف بـ”فقرة التقارير الواردة أو التقارير العامة، وهي فقرة من اجتماعات الحزب الرسمية”، بحسب الباحث مصري.
تاريخياً، حوّل النظام السوري حزب البعث “من أداة سياسية إلى رقابية واستخباراتية على المجتمع، لدرجة أن عناصر البعث صاروا جزءاً من المنظومة الاستخباراتية”، قال مصري، وحالياً يعيد استخدام “الأذرع الحزبية الموثوقة لمهام أمنية في درعا”، التي تشهد فوضى أمنية منذ اتفاق التسوية، ويسيطر النظام عليها شكلياً.
وعلى عكس ما جرى الحديث عنه من فصل الحزب عن السلطة، يبدو أن الأسد وقادة البعث “اتخذوا قراراً بإعادة تفعيل دوره السياسي والمجتمعي والإداري الذي تراجع خلال السنوات الماضية، وتنشيط الحزب وأعضاءه ليكون واجهة سياسية من جديد”، بحسب مصري، لافتاً إلى أن “بشار الأسد يعود لنهج أبيه المتمثل بتأسيس نظام شمولي، يقوم على الطائفية والأمن والجيش وجعل حزب البعث الذراع السياسي”، ما يعني أن “بشار الأسد ينظر إلى حزب البعث على أنه ركن من أركان قيادة البلد”.