7 دقائق قراءة

التمكين الاقتصادي للعائدات من الهول إلى الرقة: عنوان عريض لـ”جهود متواضعة”

رغم أهمية التمكين الاقتصادي للنساء العائدات من مخيم الهول إلى الرقة ودوره في إدماجهنّ بمجتمعاتهنّ، ما تزال البرامج في هذا الإطار خجولة لأن تمويل المشاريع الصغيرة غير مدرج على جدول المانحين


25 نوفمبر 2024

الرقة- بينما تجلس أم علي (اسم مستعار)، 36 عاماً، خلف آلة خياطة في مشغل صغير من ضمن منزلها، ببلدة المنصورة في ريف الرقة الجنوبي الغربي، كانت بعض النسوة من زبائنها يجلسن على الأرض لأخذ قياساتهنّ أو استلام طلباتهنّ من العباءات النسائية والفساتين.

في الصيف، أنهت أم علي دورة لتعليم الخياطة، شارك فيها 75 سيدة، ممولة من منظمة “شباب أوكسجين”، وهي منظمة مجتمع مدني محلية تستهدف عبر برامجها نساء الرقة، العائدات من مخيم الهول في ريف الحسكة، المخصص لإيواء عائلات تنظيم “داعش”، وانتهت الدورة بحصول 22 سيدة منهنّ على دعم مالي لافتتاح مشاريع صغيرة خاصة بهن، لكن لم يحالفها الحظ بالحصول على التمويل، كما قالت لـ”سوريا على طول”.

لذلك، حوّلت السيدة الثلاثينية جزءاً من منزلها، المؤلف من غرفة واحدة ومنتفعاتها، إلى مشغل صغير عزلته بحاجز قماشي، أملاً بتحقيق الاكتفاء الذاتي وإعالة ابنتها الوحيدة وأختها المقيمة معهما.

ورغم افتتاح مشروعها الخاص، إلا أنها تعجز في بعض الأحيان عن تأمين أجرة المنزل، البالغة قيمتها 50 دولاراً أميركياً، وهو مبلغ “باهظ جداً”، على حد قولها، لأنها تتقاسم الأرباح مع سيدة أخرى، تعود ملكية آلة الخياطة لها، لأنها لم تستطع شراء آلة خاصة بها.

تعيش أم علي منذ ثلاث سنوات، وهو الوقت الذي خرجت به من مخيم الهول بموجب كفالة عشائرية، رفقة ابنتها الوحيدة وأختها، بعد أن فقدت معيلها في غارة جوية جنوب بلدة المنصورة عام 2017 ، لذا كان لا بدّ من إيجاد مصدر دخل لتأمين احتياجاتها الشهرية في ظل غياب من يعينها على ذلك من الأقارب والمعارف.

بين عامي 2018 و2021، غادر مخيم الهول نحو ثلاثة آلاف شخص (900 عائلة)، غالبية من النساء والأطفال، إلى محافظة الرقة، بموجب كفالات عشائرية، يضاف إليهم 360 شخصاً (96 عائلة) خرجوا في أيلول/ سبتمبر 2023.

منذ بدء خروج العائلات من الهول، عملت العديد من المنظمات الدولية والمحلية على تصميم برامج ترمي إلى دعم النساء العائدات وإدماجهنّ في مجتمعاتهن، إلا أن ظروفهنّ الاقتصادية وغياب فرص العمل، كانت عائقاً أمام تحقيق الفائدة المرجوة من هذه البرامج، ما دفع الجهات المانحة والمنظمات المحلية إلى إطلاق برامج تمكين اقتصادية وتمويل مشاريع صغيرة لتأمين الاستقرار الاقتصادي لتلك النسوة.  

وفي هذا الإطار، تقدم منظمة “شباب أوكسجين”، التمكين الاقتصادي للنساء العائدات من المخيمات والنازحات والنساء من المجتمع المضيف في المنصورة وريفها، بمحافظة الرقة، من خلال مركز الدمج المجتمعي متعدد الأغراض، الذي أطلقته مطلع 2024، ويستمر حتى نهاية آذار/ مارس 2025، كما قال مدير المنظمة، بشار الكراف، لـ”سوريا على طول”.

يستفيد من المركز 450 سيدة، وتشكل العائدات من المخيمات وذويهم 40 بالمئة من المستفيدات من خدماته، التي تشمل “دورات محو الأمية التجارية والدعم العيني للمشاريع الاقتصادية التي تديرها النساء، ومحو الأمية القرائية والحسابية، وخدمات الترفيه والرعاية النهارية للأطفال دون 6 سنوات”، إضافة إلى “أنشطة الحماية والدعم النفسي الاجتماعي”، وفقاً لكراف.

دور العمل في الإدماج

يسهم العمل في تحقيق الاستقلالية المالية وبناء الثقة في المجتمع المحلي، ويساعد النساء العائدات من الهول على تأسيس علاقات مع مجتمعهنّ أو المجتمع المضيف، ما يعزز بدوره من إحساسهنّ بالانتماء ويساعدهنّ على تجاوز الوصمة المجتمعية، التي ترافقهنّ بسبب وجودهنّ في مخيم مخصص لعائلات تنظيم “داعش”.

تأكيداً على ذلك، قالت أم علي أن “العمل يساعد العائدات على الاختلاط في المجتمع، ويمكن من خلاله تعريف الشخص بنفسه”، مشيرة إلى أنها استطاعت “بناء شبكة علاقات مع المجتمع، وصار يزورني نساء وفتيات من بلدات مجاورة”، على حد قولها.

بينما، من دون عمل يبقى الإنسان “في دوامة التفكير، أو يضطر سؤال فلان وعلان، ولا أحد يعطي من دون مقابل”، بحسب أم علي، معتبرة أن “العمل شغلني ومنحني الرضا بنفسي، لأنني أعمل بما أحب، وأؤمن قوت يومي بجهدي”.

تأمل أم علي أن تحصل على دعم لمشروعها، محددة احتياجاتها بـ”آلة خياطة، وطاولة قص (تفصيل)، ومكواة بخارية، ومنظومة طاقة شمسية”، وهذه الأدوات من شأنها أن توفر عليها النسبة التي تدفعها لصاحبة آلة الخياطة، التي “تأخذ ثلثي الأرباح”، وتقلص من مصاريفها الثابتة، حيث تدفع حالياً مئة ألف ليرة سورية (6.5 دولار تقريباً) اشتراك كهرباء الأمبيرات.

تحسّن دخل أم علي ينعكس أيضاً على أختها أم يوسف (اسم مستعار)، التي تكبرها بأربع سنوات وتعيش معها في المنزل، وكانت قد أصيبت بانفجار لغم أرضي في الرقة، عام 2019، تسبب بفقدانها إحدى عينيها وتشويه وجهها.

خضعت أم يوسف لجلسات علاج طويلة وعمليات ترميم لإصابات وجهها، لكن حتى الآن لا تزال تجد صعوبة بالوقوف على إحدى قدميها، كما قالت لـ”سوريا على طول”.

نجاح مشروع أختها يعود على أم يوسف بالنفع، كون الأخيرة تساعدها في بعض المهام، من قبيل قصّ الأقمشة وكيّ الملابس وهي “مهام سهلة وأتقنها نوعاً ما”، وفقاً لها.

في آب/ أغسطس الماضي، التحقت أم يوسف بالتدريب مع منظمة “شباب أوكسجين”، من ضمن 200 امرأة، بينما شاركت أختها أم علي في البرنامج، ولكن هذه المرة بصفتها متطوعة في مجال التدريب على الخياطة.

تأهلت أم يوسف إلى المرحلة الثانية من التدريب المقرر استمراره حتى آذار/ مارس 2025، إذ تضمنت المرحلة الأولى تمكين وبناء القدرات، فيما تركز المرحلة الثانية على التدريب العملي وتقديم الدعم العيني والاستشاري لافتتاح المشاريع، وتأمل السيدة أن تحظى بالدعم في هذه المرحلة.

لكن، لا يمكن لمنظمة “شباب أوكسجين” تمويل مشاريع جميع المشاركات في البرنامج، كما قال الكراف، متوقعاً أن يتم دعم 20 سيدة من أصل المشاركات، أي 10 بالمئة منهنّ.

دعم لا يغطي الجميع

حصلت أم محمد، 38 عاماً، واثنتين من أخواتها على تمويل من “شباب أوكسجين”، قيمته خمسة آلاف دولار أميركي، في تموز/ يوليو الماضي، ساعدهنّ هذا المبلغ على افتتاح مشروعهنّ الخاص، وهو عبارة عن “سوبر ماركت”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.

عبّرت أم محمد عن رضاها بالحصول على المنحة التي “تتمناها مئات النساء”، معتبرة أن حظوظها زادت في الحصول عليها لأنها تقدمت على “فرصة التمويل” مع شقيقتيها.

أم محمد تقف مع موظف من منظمة "شباب أوكسجين" داخل "سوبر ماركت" افتتحتها في بلدة المنصورة بريف الرقة، بعد حصولها مع شقيقتيها على الدعم من المنظمة، 26/ 09/ 2024، (شباب أوكسجين)

أم محمد تقف مع موظف من منظمة “شباب أوكسجين” داخل “سوبر ماركت” افتتحتها في بلدة المنصورة بريف الرقة، بعد حصولها مع شقيقتيها على الدعم من المنظمة، 26/ 09/ 2024، (شباب أوكسجين)

قبل أن تفتح الأخوات الثلاث مشروعهنّ الجديد كنّ يعملنَ بصناعة المؤونة المنزلية ويبِعنها لسكان الرقة، لكن بافتتاح السوبر ماركت شعرن أنهنّ انفتحَنَ على المجتمع، كما أسهم مشروعهن الجديد في بناء علاقات اجتماعية إلى جانب التمكين الاقتصادي، بحسب أم محمد، وهي أم لطفل وحيد، ووافقتها أختها أم عبد الرحمن، 32 عاماً، الأم لثلاثة أطفال.

وكغيرهنّ من “نساء الهول”، شعرت أم عبد الرحمن أن التدريب مع المنظمة، ومن ثم افتتاح المشروع الخاص بهنّ أخرجهنّ من عزلتهنّ، وساعدهنّ على “تكوين علاقات اجتماعية، إضافة إلى تأمين مصدر دخل يلبي احتياجاتنا”، كما قالت.

لكن في المقابل، هناك العديد من النساء العائدات اللواتي لم يحظين بتدريبات أو تمويل لمشاريعهن الصغيرة، كما هو حال أم لبنى (اسم مستعار)، التي غادرت مخيم الهول منذ عام 2021، وتعتمد بشكل أساسي في تأمين مصاريفها وعلاج أمها “المريضة بالقدم السكرية” على “أهل الخير”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.

تتقن أم لبنى “فن التطريز وصنع الدمى”، وتتطلع إلى الحصول على منحة مالية لافتتاح مشروع خاص يكفيها سؤال الناس، مشيرة إلى أن معلوماتها مسجلة في مركز الرعاية الاجتماعية التابع للجنة الشؤون الاجتماعية في الرقة، التابع بدوره للإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، ومع ذلك لم تتواصل معها أي من المنظمات لتقديم الدعم لها.

“نقص التمويل يؤدي إلى عدم قدرتنا على دعم جميع الأفكار والمشاريع، التي تقدمها النساء المعيلات لأسرهنّ”، قال كراف، معترفاً بأن الجهود المبذولة في سبيل دعم العائدات من الهول ما تزال خجولة مقارنة بأعداد النساء التي تنطبق عليهنّ معايير هذه البرامج.

لذا، من أجل تحقيق دعمٍ عادل لنساء الهول، وضعت منظمة “شباب أوكسجين”، عدة معايير لاختيار المشاريع، أهمها “الخبرة المهنية في مجال معين لضمان نجاح المشروع الممول واستدامته”، إضافة إلى معايير أخرى، من قبيل “معرفة القراءة والكتابة، أن يلبي المشروع احتياجات السوق المحلية، وأن يكون قادراً على تمويل نفسه من خلال المبيعات وتحقيق الأرباح”، بحسب كراف.

وأيضاً، وضعت المنظمة معايير أخرى أثناء التقييم، أطلقت عليها “معايير الضعف”، بحيث تعطى الأولوية في الاختيار لـ”النساء اللواتي يقدنَ أسرهن، العائلات التي تضم أفراد عائلة أكثر، العائلات التي تقودها نساء ذوات احتياجات خاصة أو التي يكون أحد أفرادها من ذوي الاحتياجات الخاصة”، بحسب كراف.

من جانبه، قال ناشط في مجال العمل الإنساني بمدينة الرقة، “جهود التمكين الاقتصادي للعائدات من الهول ما تزال متواضعة جداً”، لافتاً إلى أن “التمكين الاقتصادي يجب أن يتناول جانبين، الأول: بناء القدرات والتأهيل والتدريب المهني وتطوير المعارف، والثاني: استعادة سبل العيش وتعزيز الصمود الاقتصادي من خلال مشاريع صغيرة ومتوسطة”، كما قال لـ”سوريا على طول”.

لكن، في الواقع “نجد أن مجتمع العائدات إلى الرقة يحظين في الغالب بالجانب الأول المتمثل ببناء القدرات والتدريب” من دون حصولهنّ على “التمويل”، ويعود ذلك إلى أن “تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة ليس على جدول المانحين”.

ولا يمكن إغفال “خفض التمويل عن سوريا عموماً وشمال سوريا بشكل خاص، لا سيما بعد وقوع العديد من الأزمات والكوارث بدءاً من حرب أوكرانيا وصولاً إلى حرب غزة ولبنان”، وبالتالي “لم تعد سوريا على سلّم أولويات المانحين”، بحسب الناشط، الذي طلب عدم الكشف عن هويته، لأسباب تتعلق بطبيعة عمله الحالية.

أيضاً، لا بد من الإشارة إلى تحديات أخرى تواجه المنظمات والنساء على حدّ سواء، ومن هذه التحديات “رفض المجتمع وعدم تقبله لدعم المشاريع الصغيرة النسائية”، بحسب كراف، وهو ما ينعكس على العديد من النساء “اللواتي لا يستطعن الخروج من منازلهنّ لأجل العمل بذريعة الاختلاط مع الرجال”.

رداً على ذلك، وجهتّ أم علي رسالتها إلى المجتمع والمنظمات العاملة، تمنّت فيها “دعم النساء العائدات من الهول وتمكينهنّ حتى يستطعنّ الوقوف ومواجهة الظروف الاقتصادية الصعبة”، خاصة أن “الكثير منهنّ يكافحن في الحياة بعد فقدان السند، أي أنهنّ يلعبن دور الرجل والمرأة في آن واحد”.

تم إعداد هذا التقرير بالتعاون بين “سوريا على طول” و منظمة “شباب أوكسجين”،ضمن برنامج “صوتنا”.

شارك هذا المقال