الحرب في لبنان تجبر سوريين على العودة إلى مناطق المعارضة “غير الآمنة”
بالتزامن مع عودة سوريين من لبنان إلى شمال غرب سوريا، تشهد المنطقة الواقعة تحت سيطرة المعارضة تصعيداً عسكرياً من النظام وروسيا، وعمليات اقتتال بين فصائل الجيش الوطني
18 أكتوبر 2024
باريس- على أبواب مرحلة جديدة، تواصل إيمان المحمد مع أطفالها الستة رحلتها إلى مسقط رأسها في ريف إدلب، وهي تحمل أحد أطفالها، الذي أصيب بقصف إسرائيلي في جنوب لبنان، في رحلة لا تقلّ صعوبة عن الأيام التي قضتها في الحرب الإسرائيلية على البلد الذي قضىت فيه تسع سنوات.
بعد يومين من الانتظار على بوابة معبر عون الدادات، الفاصل بين مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والجيش الوطني السوري (المعارض)، في ريف حلب الشرقي، سمح الأخير للمحمد، 35 عاماً، وأطفالها بدخول مناطق نفوذه مساء الأربعاء.
بدخولها إلى ريف حلب، قطعت العائلة شوطاً كبيراً من رحلتها، التي لم تنته بعد، إذ يتعين عليه عبور خطوط التماس بين مناطق الجيش الوطني وهيئة تحرير الشام، التي تسيطر على إدلب. في لبنان ينتظر زوج المحمد خبر وصول العائلة بفارغ الصبر.
“كان الطريق صعباً، والأصعب من ذلك “أن تسافر بطفل مصاب في رحلة لا يرحمك أحد ولا يتعاطف مع طفلك”، قالت المحمد لـ”سوريا على طول” بعد اجتيازها معبر عون الدادات، واصفة المهربين بـ”القساة”، لأنهم “تركونا في ساحة المعبر ليومين نفترش التراب، نمنا في الليلتين على الطرقات، ونحن جوعى وعطشى”. لم تذكر السيدة مدة رحلتها كاملة منذ لحظة مغادرتها حتى وصولها، لكن مصدراً آخر قال أن مدة رحلته استمرت لأربع أيام.
قبل دخول الدفعة التي كانت فيها المحمد وأطفالها، وصل 2700 شخص إلى شمال غرب سوريا عبر معبر عون الدادات، منذ الثالث حتى 14 تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، بحسب زياد حركوش، مسؤول في الدفاع المدني السوري في ريف حلب.
نشرت وسائل إعلام سورية صوراً وفيديوهات تظهر العالقين على معبر عون الدادات، ومع ذلك نفى رئيس الحكومة السورية المؤقتة (المعارضة)، عبد الرحمن مصطفى، ما تم تداوله عن وجود عالقين، قائلاً لـ”سوريا على طول”: “لا توجد عائلات عالقة على المعبر من طرف المناطق المحررة”، واصفاً ما حدث بالتأخير “بسبب التدفق الكبير وضرورة اتخاذ بعض الإجراءات الإدارية والأمنية للتشييك على العائدين وضمان سلامتهم”.
يشكل العائدون إلى شمال غرب سوريا النسبة الأقل من إجمالي الذين عبروا الحدود اللبنانية إلى سوريا، إذ يقدر العدد الإجمالي بنحو 276 ألف شخص، 70 بالمئة منهم سوريين، دخلوا الأراضي السورية في الفترة بين 24 أيلول/ سبتمبر و12 تشرين الأول/ أكتوبر.

نساء وأطفال أثناء دخول مناطق سيطرة الجيش الوطني عبر معبر عون الدادات بريف حلب، 16/ 10/ 2024، (أبو بكر السقا/ سوريا على طول)
“الموت يلاحقنا”
في 14 تشرين الأول/ أكتوبر، وصل أبو قاسم الحمصي مع عائلته إلى منزل شقيقه في ريف إدلب، بعد رحلة وصفها بـ”القاسية”، بدأت من بيروت، عبوراً بمناطق النظام و”قسد”، وصولاً جرابلس بريف حلب، الواقعة تحت سيطرة المعارضة، دفع لأجلها 350 دولاراً للمهربين، كما قال لـ”سوريا على طول”.
وصل الحمصي إلى منزل شقيقه -المهجر من ريف حمص الشمالي- في إدلب، بالتزامن مع تصعيد النظام وروسيا على شمال غرب سوريا، الذي بدأ مطلع الأسبوع الحالي، كان أعنفها يوم الأربعاء، عندما استهدفت الطائرات الحربية الروسية ومدفعية النظام السورية ريفي إدلب وحلب الغربي، ما أدى إلى مقتل 11 شخصاً وإصابة 39 آخرين.
“الموت يلاحقنا”، بهذه الكلمات لخص الحمصي حال عائلته بعد وصولها إلى إدلب هرباً من القصف الإسرائيلي في لبنان، في إطار حربه على حزب الله اللبناني.
لم يكن الحال أفضل في ريف حلب الشمالي، الذي شهد عمليات اقتتال بين فصيلي الجبهة الشامية والقوة المشتركة التابعتين للجيش الوطني، منذ مساء الأربعاء، تسببت في مقتل سيدة وإصابة عدد من المدنيين بجروح، وتم تعليق الدوام في مدارس مدينة إعزاز.
تعليقاً على ذلك، قال سامر الحمد، 36 عاماً، وهو أحد العائدين هذا الأسبوع من لبنان إلى مسقط رأسه بمدينة اعزاز: “لا يوجد مكان آمن نهرب إليه”، ورغم علمه بأن “المنطقة ليست آمنة للعيش”، إلا أن “الأبواب أغلقت أمامنا، بقيت مع عائلتي في خيمة وسط بيروت لمدة أسبوع”، لذا قرر العودة في رحلة استمرت أربعة أيام، منهياً بذلك رحلة لجوئه في لبنان، التي بدأت عام 2013.

يافطة ترحيب بالقادمين مثبتة عند بوابة معبر عون الدادات الإنساني التابع للحكومة السورية المؤقتة، وتديره فصائل الجيش الوطني، 16/ 10/ 2024، (أبو بكر السقا/ سوريا على طول)
غياب المساعدات!
بعد 14 يوماً من العناء، انتهى المطاف بعائلة أم سليم، 55 عاماً، وعائلتي ابنتيها المتزوجتين، في غرفة صغيرة سليمة من منزلها المدمر في مدينة إدلب، لينهوا بذلك رحلة لجوء استمرت 11 عاماً في لبنان.
فرّت العائلات الثلاث من الضاحية الجنوبية في بيروت، التي تشهد قصفاً إسرائيلياً مستمراً في إطار حملته الأخيرة، في رحلة نزوح “لم تكن ميسرة”، كما قالت أم سليم لـ”سوريا على طول”، التي تعرض زوجها للاعتقال بعد دخول الأراضي السورية عبر معبر المصنع الحدودي، ومنذ ذلك الحين لا تعرف العائلة مصيره.
“لا نملك سوى الثياب التي نرتديها. جميع الحقائب التي كانت معنا بقيت في ساحة المعبر لأنه لم يسمح لنا بإدخالها”، قالت أم سليم، ورغم مرور أسبوعين على وجودها في هذه الغرفة لم تطرق أي جهة إغاثية بابها، قائلة: “نريد فقط ثياباً نرتديها حتى نتمكن من غسل ملابسنا”.
وكذلك، حلّ سامر الحمد مع عائلته عند شقيقه في مدينة اعزاز، ومنذ وصوله ينتظر تحرك المنظمات الإنسانية لأجل العائدين من لبنان، متأملاً “تأمين مسكن خاص”، ولكن حتى الآن “لم نحصل على أية مساعدات، حتى الغذائية”.
يتردد الحمد على المجلس المحلي في اعزاز من أجل الحصول على البطاقات الشخصية (الهويّات) له ولعائلته، ولكن لم يحصل عليها حتى الآن “لأنها تحتاج بعض الوقت على حد قولهم”، ومن دونها “ترفض المدارس استقبال أطفالي الأربعة”.
في معبر عون الدادات، منح موظفو السجل المدني في المعبر، التابع للمعارضة، عائلة الحمد “إخراجات قيد” فورية، لكنها بمثابة ثبوتيات مؤقتة تمكنهم التنقل في مناطق المعارضة والتقدم بطلب لاستخراج البطاقات الشخصية، لكن لا تخوله تسجيل أولاده في المدارس، على حد قوله.

شخص عائد من لبنان يسير في منطقة معبر عون الدادات بريف حلب، 16/ 10/ 2024، (أبو بكر السقا/ سوريا على طول)
تعليقاً على ذلك، قال رئيس الحكومة السورية المؤقتة، عبد الرحمن مصطفى، أن حكومته عملت على “تسهيل دخول العائلات السورية العائدة عبر توجيه الشرطة العسكرية لتقديم كافة التسهيلات، فضلاً عن تأمين انتقالهم إلى أماكن استقرارهم”، لافتاً إلى وصول “عائلات من الطائفة المسيحية إلى عفرين”، وهم من ضمن العائدين من لبنان.
وأضاف مصطفى في حديثه لـ”سوريا على طول”، يوم الاثنين، أن حكومته تواصلت “مع الوكالات الأممية، وتم عقد عدة لقاءات، منها اجتماعات مباشرة في ممثلية الحكومة المؤقتة في مدينة غازي عنتاب”، من أجل “تحسين سبل إيصال المساعدات إلى المحتاجين في الداخل السوري، والعمل على زيادتها لتشمل جميع المناطق المحررة”.
وتزامنت عودة السوريين من لبنان مع حركة نزوح داخلي “بسبب عمليات الاستهداف المستمرة في أرياف حلب الغربية وإدلب، وفي ظل التراجع المستمر في تقديم المساعدات الإنسانية، وهو ما يزيد الضغط على المنطقة”، بحسب مصطفى.
قال مصطفى أنّ حكومته “تولي الجانب الإنساني الأولوية وتسعى لتقديم كل ما يلزم للعائلات العائدة”، لكن روايته تتناقض مع ثلاثة مصادر قابلتهم “سوريا على طول”، لحظة دخولهم المعبر، مساء الأربعاء، أي بعد يومين من مقابلة مصطفى، وأكدوا أنهم بقوا عالقين عند بوابة المعبر لمدة يومين.

عائدون من لبنان يصعدون على متن حافلة ركاب عند معبر عون الدادات لمواصلة رحلتهم إلى مناطق متفرقة من مناطق الجيش الوطني بريف حلب، 16/ 10/ 2024، (أبو بكر السقا/ سوريا على طول)
انتهاكات على طريق العودة
لطالما رفض السوريون في لبنان العودة إلى بلادهم، رغم موجات العنف والتضييق عليهم هناك، لكن مع اشتداد الحرب في لبنان، يتدفق السوريون إلى بلادهم في رحلة عودة قسرية، تعرضوا خلالها لانتهاكات مختلفة على يد أطراف الصراع المختلفة.
عندما أوقف حاجز للنظام السوري أبو سليم، أثناء عودته مع عائلته من لبنان، قال الضابط لزوجته أنه “سوف يعود بعد يومين لأن عليه شكوى صغيرة”، لكن لم يعد حتى الآن، بحسب زوجته.
وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في تقريرها الصادر في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، اعتقال النظام لما لا يقل عن تسعة أشخاص عائدين من لبنان، جرى اقتيادهم إلى مراكز الاحتجاز الأمنية والعسكرية في محافظتي حمص ودمشق.
لكن، توقعت نور الخطيب، مديرة قسم الاعتقال والإخفاء القسري في الشبكة السورية، نور الخطيب، أن يصل عدد المعتقلين العائدين إلى حوالي مئة شخص، كما ذكرت في مقابلة سابقة مع “سوريا على طول” في الثامن من الشهر الحالي.

أب وأطفاله عائدون من لبنان يدخلون معبر عون الدادات بريف حلب، 16/ 10/ 2024، (أبو بكر السقا/ سوريا على طول)
وذكرت وسائل إعلام محلية، أن المدنيين العالقين على معبر عون الدادات تعرضوا لعمليات ابتزاز مالي وتحرش لفظي وجسدي من قبل الجهة المسيطرة على المعبر، في إشارة إلى فصائل المعارضة التابعة للجيش الوطني.
من جهته، نفى رئيس الحكومة المؤقتة، مصطفى، صحة الادعاءات، مستدركاً: “أي ممارسات خارجة عن القانون يتم التحقيق فيها بجدية”، واتهم النظام و”قسد” بارتكاب مثل هذه الانتهاكات.
ومع حركة العودة من لبنان إلى سوريا، ازدهر نشاط المهربين لنقل السوريين من لبنان إلى سوريا، بما في ذلك المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، في شمال شرق سوريا الواقعة تحت سيطرة “قسد”، ومناطق المعارضة في شمالها الغربي.
ورصدت “سوريا على طول” عدداً من المنشورات لمهربين وشركات نقل محلية، تروج لعمليات “نقل آمنة ومريحة”، حتى لأولئك المطلوبين للخدمة العسكرية. واتصل مراسل “سوريا على طول” بإحدى شركات النقل، بصفة شخص يريد نقل أفراد من عائلته، من بينهم شخص مطلوب للخدمة العسكرية، من بيروت إلى جرابلس في ريف حلب الشمالي.
قالت الشركة للمراسل أن “الطريق ميسر”، مشيرة إلى وجود “رحلات شبه يومية من بيروت إلى شمال حلب، والأشخاص يركبون في الحافلة نفسها من مركز الانطلاق حتى الوصول”، وتبلغ تكلفة نقل الشخص الواحد 50 دولاراً، يضاف عليها 50 دولاراً للشخص المطلوب للخدمة العسكرية من أجل منحه ورقة تكليف لعبور الحواجز”، وهي بمثابة تبليغ للشخص المطلوب للخدمة تتضمن مهلة للالتحاق.