الحسكة “سلة غذاء سوريا” تعاني تراجعاً كبيراً في إنتاج القمح بسبب الجفاف
على مدى ٤٠ يوماً، وبعد زرع محاصيلهم في الخريف الماضي، […]
12 يوليو 2018
على مدى ٤٠ يوماً، وبعد زرع محاصيلهم في الخريف الماضي، راقب المزارعون في ريف شمال شرق الحسكة السماء بحثاً عن علامة تبشر بالغيث، إلا أن الأمطار الشتوية التي تبدأ عادة في شهر كانون الأول، وهي ضرورية لمحاصيل القمح والشعير في الحسكة التي تغلب عليها المناطق الزراعية، لم تهطل أبداً.
وبعد انقطاع الأمل بالمطر، راقب المزارعون الذين كانوا في حالة يأس وإحباط محاصيل القمح والشعير وهي تذوي ببطء.
وبعد عدة أشهر، عندما بدأ المزارعون يتساءلون عما إذا كانت الأمطار ستزورهم هذا العام، هطلت أمطار غزيرة في شباط، تلتها فيضانات غزيرة في أيار، يقول المسؤولون في القطاع الزراعي في الحسكة أن التغيير جاء فجأة، مما أدى إلى إبادة المحاصيل غير الناضجة وطمس حقول بأكملها من الحبوب.
ويوضح المزارعون في الحسكة ومسؤولو الزراعة أن الأحوال الجوية وفشل المحاصيل هذا العام لم يسبق له مثيل، فعلى مستوى المحافظة كان محصول هذا العام من بين أسوأ المحاصيل خلال نصف قرن تقريباً. كما يواجه آلاف العاملين في مجال الزراعة الآن تدهورا اقتصاديا، في حين ستواجه سوريا نقصا حاد في محصول الحبوب هذا العام.
آلة حصادة تشق طريقها عبر حقل في محافظة الحسكة في حزيران ٢٠١٧. تصوير: Alorodnalyoom.
وشهدت حقول القمح غير المروية، التي تشكل نحو ٥٥٪ من إجمالي القمح المزروع في الحسكة، خسائر تجاوزت ٩٠٪ هذا العام، حسبما أفادت به مديرية زراعة الحسكة التابعة للحكومة السورية لسوريا على طول، كما شهدت حقول الشعير درجة مماثلة من الخراب.
ولا تزال المديرية التي تديرها الدولة واحدة من الهيئات الزراعية الرئيسية في الحسكة، على الرغم من أن المحافظة كانت تدار بدرجة أولى من قبل السلطات المحلية التي يقودها الأكراد منذ عام ٢٠١٢.
وجلب الطقس المتقلب الذي شهدته الأشهر الأخيرة كارثة اقتصادية لمزارعي الحبوب مثل أحمد كانو، الذي يعيش في قرية تل كوجر الزراعية الصغيرة بالقرب من الحدود السورية العراقية، وبعيداً عن المحاصيل والخسائر الزراعية، يقول إن الأمطار المتأخرة وارتفاع درجات الحرارة أنتجتا محصول قمح منخفض الجودة، غير مناسب للخبازين، ولكنه مناسب لتغذية المواشي.
يقول كانو “لم يكن لدي خيار سوى بيع محصولي إلى راعي ماشية”، ومع ذلك فإن الأرباح “لم تعوض نصف ما أنفقته على الأرض من حراثة وزراعة واستئجار معدات”.
ويعمل أكثر من ٦٠٪ من سكان الحسكة في الزراعة وتربية الحيوانات، مما يعني أن سبل عيش الآلاف منهم تأثرت بموسم الحصاد الفاشل الذي انتهى في منتصف حزيران.
ونجحت محافظة الحسكة التي تعتمد على الزراعة في التغلب على مواسم الجفاف من قبل، وعادة ما يتوقع المزارعون هنا مواسم الجفاف وسوء الظروف الملائمة للزراعة، ففي أوائل التسعينات، لاحظ علماء المناخ بداية التحول التدريجي في الحسكة نحو فصول شتاء أكثر جفافاً وصيفاً حاراً، وبين عامي ١٩٩٩ و٢٠١٠ تعرضت سورية بالكامل لأسوأ موجة جفاف منذ ٩٠٠ عام.
ومع ذلك، تؤكد مديرية الزراعة التابعة للحكومة أن الموسم الزراعي الحالي هو “واحد من أسوأ المواسم خلال ٤٤ سنة”.
ووفقاً لأرقام مديرية الزراعة في الحسكة، تمت خسارة أكثر من ٣٠٠ ألف هكتار من القمح غير المروي هذا الموسم، بينما تم إنقاذ ٢٠ ألف هكتار فقط حتى وقت الحصاد، وشهدت محاصيل الشعير، التي لا يتم ريّها عادة، خسائر مماثلة قدرها ٤٠٠ ألف هكتار، بينما نجا منها ٥٠ ألف هكتار فقط.
وتعد أخبار محصول هذا الموسم الكارثي مزعجة للسوريين الذين يعيشون خارج حدود محافظة الحسكة أيضاً، ويشار إلى أن المحافظة الشمالية الشرقية، المعروفة باسم “سلة غذاء سوريا”، تساهم فعلياً بنسبة ٥٠-٧٠٪ من إنتاج القمح الوطني في بلد يشكل فيه الخبز غذاء أساسياً للسكان.
وعلى الرغم من أن محافظة الحسكة هي الجزء الشرقي من مجموعة من المناطق المتمتعة بالحكم الذاتي التي تديرها الإدارة ذاتية بقيادة كردية، فقد استمرت دمشق في السنوات الأخيرة بشراء الدقيق المنتج هناك من خلال المؤسسة العامة لتجارة وتصنيع الحبوب التابعة للحكومة.
وفي العام الماضي، توقعت الحكومة السورية إنفاق أكثر من نصف الإجمالي البالغ ٨٠ مليار ليرة سورية مخصصة لشراء الحبوب المحلية في محافظة الحسكة وحدها.
لكن بعد موسم حصاد هذا العام، قال مسؤول من مديرية الزراعة في الحسكة أنه لم يتضح بعد حجم القمح الذي ستتمكن المؤسسة من شرائه من المزارعين هذا العام، وأوضحوا أنه من المتوقع أن تنخفض صادرات الحبوب، من الحسكة إلى بقية أنحاء سوريا، بشكل كبير مقارنة مع عام ٢٠١٧.
مزارعون يعملون بالقرب من بلدة عامودا الزراعية على طول الحدود التركية في آب ٢٠١٦. تصوير: آرتا إف إم.
وقبل اندلاع الحرب في سوريا وانسحاب السلطات الحكومية إلى حد كبير من شمال سوريا ذي الغالبية الكردية، احتكرت مؤسسة الحبوب إنتاج الحبوب في الحسكة، وبعد بيع المبيدات للمزارعين في موسم الزراعة، كانت المؤسسة تقوم بوقت لاحق بشراء كل المحاصيل الربيعية تقريباً لإنتاج الخبز الذي يستهلك بكثافة في جميع أنحاء البلاد، وبقيت مؤسسة الحبوب المشتري الوحيد لجميع الحبوب في الحسكة حتى أواخر عام ٢٠١٦.
بدأت تلك الديناميكية تتغير، وسعياً للحاجة إلى تحقيق مزيد من الاكتفاء الذاتي، تدخلت الإدارة الذاتية لأول مرة في العام الماضي، حيث اشترت ٢٠٠ ألف طن من القمح من المزارعين المحليين، ووفقاً لجوان شاكر، نائب رئيس اللجنة المشتركة لاقتصاد الإدارة الذاتية في مقاطعة الجزيرة، فإنهم يعتزمون القيام بذلك مرة أخرى هذا العام، حيث تم إنشاء تسعة مستودعات في الآونة الأخيرة للشراء من المزارعين بأسعار ثابتة.
يقول شاكر إن المحاصيل التي نجت هذا العام يمكن أن تلبي فقط حاجة سكان الحسكة، البالغ عددهم حوالي ١,٥ مليون نسمة قبل الحرب، وتضم الآن ما لا يقل عن ٣٠ ألف نازح سوري من مناطق أخرى من البلاد.
ولكن في حين تخطط السلطات المحلية لشراء جزء من محصول القمح والشعير هذا العام، إلا أنها لا تملك سوى موارد قليلة أخرى لمساعدة المزارعين المحليين الذين عانوا من الخسائر الكبيرة.
يقول شاكر “إن حجم الخسائر في هذا الموسم كبير للغاية بالنسبة للإدارة الذاتية وقدرتها على تعويض المزارعين في هذا الوقت”.
وبدورها تتخذ دمشق التدابير اللازمة لمواجهة النقص المتوقع في الحبوب هذا العام، حيث ألغت مؤسسة الحبوب ٣٠٠ ألف طن من طلبات الحبوب المحلية في شباط، مشيرة إلى ارتفاع حاد في الأسعار بعد الجفاف، وفي أواخر حزيران، أعلن وزير التجارة الداخلية في سوريا عبد الله الغربي عن خطط لاستيراد ١,٥ مليون طن من القمح الروسي في ضوء النقص المحلي المتوقع.
وأشار إعلان الغربي إلى حدوث تحول كبير في ثروات البلد الذي كان يشكل مصدراً إقليمياً كبيراً لإنتاج الحبوب قبل عام ٢٠١١، حيث كان يصدر الدقيق إلى الدول المجاورة في حين كان يصل إنتاج القمح إلى أربعة ملايين طن في العام الواحد.
“ارتفاع حاد في درجات الحرارة”
تظهر السجلات المناخية أن الاضطرابات المناخية الغريبة وغير المتوقعة في موسم حصاد الحبوب الماضي قد تتسبب بوضع مقلق على المدى الطويل، في الحسكة وسوريا على نطاق أوسع.
وقام كولن كيلي، الباحث في معهد أبحاث المناخ الدولي التابع لجامعة كولومبيا، بدراسة بيانات الأرصاد الجوية، خلال نصف قرن، في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وتشير دراساته إلى أن متوسط هطول الأمطار في فصل الشتاء في منطقة الهلال الخصيب، التي تمتد عبر العراق وسوريا، قد انخفض بنسبة ١٣٪ منذ ثلاثينيات القرن العشرين، مع ارتفاع متوسط درجات الحرارة بمقدار درجة واحدة من ١٤ إلى ١٥ درجة مئوية (٥٧,٢ فهرنهايت إلى ٥٩ فهرنهايت).
ويؤكد كيلي على أن هذه الأرقام تخفي تغيراً أكبر في درجات الحرارة خلال العقود الأخيرة، مضيفاً أن تكرار وشدة حالات الجفاف ارتفعت بشكل كبير منذ التسعينات، وتركت فصول الشتاء الأكثر جفافاً والصيف الأكثر حرارة أثراً تراكمياً، كما يقول، جاعلا طبقات التربة العليا أقل إنتاجية بمرور الوقت.
يقول كيلي “لقد شهدنا ارتفاعاً حاداً في درجات الحرارة منذ تسعينات القرن الماضي، وهو ما يشبه تغيّراً في النظام، وكانت الحرارة في جميع السنوات منذ عام ١٩٩٠ أكثر ارتفاعاً من المتوسط المعتاد، مما أدى إلى زيادة جفاف التربة”.
وواجهت سوريا، بين عامي ١٩٩٩ و٢٠١٠، جفافاً يتجاوز أي فترة جفاف سجلت هناك منذ ما يقارب الألف عام، مما أدى إلى فشل المحاصيل في مساحات شاسعة من البلاد، وتضررت الحسكة التي تعتمد على الزراعة بشكل كبير مقارنة ببعض المناطق، مما تسبب في كارثة اقتصادية للمزارعين والمساهمة في النزوح الجماعي لآلاف الناس من القرى إلى المراكز الحضرية البعيدة بحثا عن العمل.
ولعبت عوامل أخرى طويلة الأمد دوراً في التدهور الزراعي في الحسكة، ويقول جان سيلبي، أستاذ جامعة ساسيكس والمتخصص في الاضطرابات البيئية، إن الاضطراب الزراعي الحالي في المحافظة قد يُعزى جزئياً إلى استنزاف مخزون المياه الجوفية.
ويضيف أن المزارعين كانوا يفرطون في استخراج المياه الجوفية في الحسكة منذ عقود، كما أن النقص الناجم عن ذلك يجبرهم إما على المخاطرة والاعتماد على محاصيل غير مروية، أو الانتقال إلى مناطق زراعية جديدة بحثا عن مصادر مياه بديلة.
ويوضح قائلاً “إن معدل هطول الأمطار المنخفض له تأثير كبير على الحسكة اليوم، حيث أن موارد المياه الجوفية غير متوفرة كما كانت من قبل. وهذه الطريقة للتكيف مع الأمطار المنخفضة لم تعد ممكنة”.
ساهم عز الدين صالح في إعداد هذا التقرير. هذا التقرير هو جزء من مشروع مشترك مع مراسلي آرتا إف إم على الأرض في سوريا.
ترجمة: سما محمد.