الحياة تعود تدريجياً في جبلة: هل يتجاوز سكانها “الاحتقان الطائفي”؟
مدينة جبلة، واحدة من المدن الساحلية ذات التنوع الطائفي، التي شهدت مواجهات واسعة مع "فلول النظام" رافقها عمليات قتل على أساس طائفي وحرق ونهب للممتلكات
11 مارس 2025
باريس- رغم الأحداث الدامية، التي عاشتها مدينة جبلة بمحافظة اللاذقية، خلال المواجهات العسكرية بين القوات الحكومية وفلول النظام، احتفل العديد من أبناء المدينة بتوصل حكومة دمشق إلى اتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، يقضي بدمج مؤسسات الأخيرة ضمن إدارة الدولة، ورفض تقسيم البلاد، والاعتراف بحق الكرد في سوريا.
اندلعت شرارة الأحداث في الساحل، عندما هاجم فلول النظام “بشكل منسق” عناصر الأمن العام التابعين لوزارة الداخلية، المنتشرين في مدن وبلدات الساحل، في السادس من آذار/ مارس الحالي، ما استدعى استقدام دمشق تعزيزات من عناصر من وزارتي الدفاع والداخلية (الأمن العام)، لاستعادة السيطرة على الساحل، رافقها حالة من الغليان الشعبي، التي تمثلت بوصول مجموعات عسكرية “غير منتمية” للوزارتين.
تخلل المواجهات تنفيذ عمليات قتل بين الطرفين، بعضها على أساس طائفي، إذ وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، حتى آذار/ مارس، مقتل ما لا يقل عن 803 أشخاص في اللاذقية وحماة وطرطوس وحمص، خلال الفترة بين السادس والعاشر من الشهر ذاته. وهي: 172 من القوات الحكومية، و211 مدنياً قتلوا على يد القوات الموالية للأسد، إلى جانب ما لا يقل عن 420 مدنياً و”مسلحاً منزوع السلاح” قتلوا على يد القوات المسلحة المتحالفة مع دمشق.
ومدينة جبلة، واحدة من المدن الساحلية ذات التنوع الطائفي، التي شهدت مواجهات واسعة مع “فلول النظام” وكذلك عمليات قتل على أساس طائفي وحرق ونهب للممتلكات، لكنها استعادت الهدوء، يوم أمس. كيف عاش الأهالي في الأيام الدامية، وما هو مستقبل المدنية والسلم الأهلي فيها، لاسيما بعد تشكيل لجنة وطنية مستقلة لتقصي الحقائق وأخرى للسلم الأهلي.
ما قبل العاصفة
“قبل الهجوم بيومين، شهدت جبلة توتراً طائفياً، ووقع بعض الحركات الصبيانية الطائفية بين الشبان”، لكن “تم التعامل معها من قبل الأهالي والوجهاء بنفس الوقت”، كما قال حسام (اسم مستعار)، أحد أبناء المدينة من الطائفة العلوية، لـ”سوريا على طول”.
أما حسين العبد الله (اسم مستعار)، وهو من المكون السني، لم يلاحظ أي شيء “مريب” قبل السادس من آذار/ مارس، لكن “مع بدء عمليات فلول النظام ضد الأمن العام تغيرت الصورة”، بالنسبة له، كما قال لـ”سوريا على طول”، شريطة عدم الكشف عن هويته خوفاً من عودة “الفلول” إلى مدينته.
تبين لاحقاً، أن “البعض كان لديهم علم مسبق بالتحضيرات لاستهداف الأمن العام، وبعضهم أخفى الفلول والأسلحة في منازلهم، بينما شارك آخرون في إخفاء الأسلحة بجانب مدرسة علي القاضي بجبلة”، بحسب العبد الله، وأكد محمد عمران (اسم مستعار)، هذه الرواية أيضاً، وكلاهما من المكون السني، وكانوا شاهدين على ما حدث في مدينتهما.
كشفت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقريرها، الصادر اليوم، عن تورط “مجموعات من المدنيين المسلحين” بالهجوم في جبلة، وقد “خرج هؤلاء المسلحون المدنيون بأسلحة فردية فور بدء العمليات الهجومية” ضد الدولة.
ماذا جرى في جبلة؟
عند عصر يوم السادس من آذار/ مارس، بدأت مجموعة موالية للنظام بالهجوم بشكل “منسق” على القوات الحكومية في قرى بيت عانا بريف جبلة ومدينة القرداحة بمحافظة اللاذقية، وسرعان ما انتشرت العملية كالنار في الهشيم، وعمت غالبية مدن وبلدات الساحل السوري.
وبحلول الساعة الرابعة مساء بتوقيت دمشق، من ذات اليوم، وصلت المواجهات العسكرية إلى داخل المدينة. وفي غضون ساعات، تمكنت القوات المهاجمة من السيطرة على الأحياء الشمالية والشرقية من مدينة جبلة، التي يقطنها خليط من السوريين، بحسب ما أكده مصدران مدنيان من سكان جبلة لـ”سوريا على طول”.
“خلال اللحظات الأولى لاقتحام أحياء جنوب المدينة، نفذت فلول النظام عمليات قتل طائفية ضد المكون السني”، بحسب محمد عمران (اسم مستعار)، وهو ما دفع العديد من “الشباب السنة إلى إعلان النفير العام في المدينة وملاحقة فلول النظام، لمنعهم من السيطرة على المدينة، وفكوا الحصار على المستشفيات التي حاصرتها المجموعات التابعة للنظام البائد”.
وفيما يُفترض أن تجلب التعزيزات الحكومية الأمن لسكان جبلة، “تعرضت المدينة لخسائر مادية بالمليارات، نتيجة الاعتداء على المحلات التجارية والبيوت”، بعد دخول أرتال عسكرية من الأمن العام ووزارة الدفاع، بمشاركة فصائل عسكرية ومجموعات شعبية، كما “زادت الخسائر البشرية من المدنيين”، بحسب العبد الله، الذي اشتكى من “سوء أخلاق بعض المجموعات، التي مارست التكسير والنهب ولم تفرق بين سني وعلوي”.
تعرض متجر عائلة العبد الله “للسرقة والتخريب على يد بعض المجموعات”، التي من المفترض أنها جاءت “نصرة” لهم، ولم تتمكن العائلة من “تقديم شكوى للأمن العام حتى الآن، نتيجة عدم استقرار الوضع بشكل تام”، بحسب العبد الله، لافتاً إلى أن الأمن العام “وعد أصحاب المحلات التجارية المتضررة بتعويضهم عن خسائرهم”.
واتفق عمران مع العبد الله في أن “بعض الفصائل التي دخلت إلى جبلة، ارتكبت انتهاكات واسعة من عمليات قتل وسرقة بحق كل المكونات من السنة والعلويين على حد سواء”، لدرجة أن “بعض أهل السنة كانوا يُخبئون جيرانهم العلويين الخائفين في منازلهم منعاً لوقوع اعتداءات عليهم من الفصائل”.
تسببت أحداث الساحل بحالة جدل وغليان شعبي في أوساط السوريين، بين رافض لها أو مكذب لما يتم تداوله من انتهاكات، خاصة مع حملة تضليل إعلامي كبيرة شهدتها وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن المنظمات الحقوقية، من قبيل الشبكة السورية وغيرها، أثبتت صحة العديد من الانتهاكات، التي وقعت في ظروف “معقدة”.
وبدورها، اعترفت الحكومة السورية بهذه الانتهاكات متوعدة بمحاسبة من ثبت تورطهم. وفي هذا الإطار، أعلنت إدارة الأمن العام إلقاء القبض على عدد من المتورطين بارتكاب انتهاكات بحق المدنيين “بشكل غير قانوني ودموي” في الساحل السوري، مؤكدة تحويلهم إلى “القضاء العسكري لينالوا جزاءهم”.
وفي مؤتمر صحفي عقد بالعاصمة دمشق، اليوم، قال د.ياسر فرحان، المتحدث باسم اللجنة الوطنية المستقلة للتحقيق وتقصي الحقائق أن “اللجنة باشرت عملها باجتماع عقده معها السيد رئيس الجمهورية العربية السورية، أكد خلاله على أهمية دورها في كشف الحقيقة، وعلى التزام الدولة بمحاسبة المتورطين وإنصاف الضحايا”.
وأوضح فرحان، في المؤتمر الذي حضره مراسل “سوريا على طول” بدمشق، أن اللجنة “تتكون من خمسة قضاة وعميد أمن جنائي ومحامٍ مدافع عن حقوق الإنسان، جميعهم خبراء مختصين في قضايا التوثيق والعدالة”، مؤكداً على استقلالية اللجنة و”التزامها بمعايير الحياد والموضوعية وفقاً للقواعد الوطنية والدولية”.
هل عادت الحياة إلى طبيعتها؟
تشهد جبلة خلال اليومين الماضيين “تحسناً في الأوضاع، يرافقها اشتباكات خفيفة، خاصة في ساعات الليل”، لكن “تبدو على وجوه الناس ملامح التوتر والخوف”، بحسب العبد الله، نظراً لوجود “احتقان طائفي”، وقد تنادى إلى مسامعه عبارات تتوعد أهل السنة، المحسوبين على الدولة الجديدة، من قبيل “جاييكم الدور يا سنة”.
وفي المقابل، ما زالت تتعالى أصوات أخرى، تناشد الحكومة السورية والمنظمات الحقوقية في التدخل لحماية العلويين من الانتهاكات التي يتعرضون لها بذريعة القضاء على الفلول.
في اليومين الماضيين، “تحسن الوضع في ساعات النهار، وفتحت الأسواق، لكن مظاهر الخراب والتكسير والحرق كبيرة جداً”، وفي المساء، يخيم على المدينة “سكون تام، ويسيطر الخوف علينا جميعاً”، بحسب حسام، الذي حذر من أن “التوترات التي حصلت، وفورة الدماء، لها تداعيات كبيرة طويلة المدى”.
وعلّق حسام آماله ببناء التماسك المجتمعي مجدداً على “الأشخاص الطيبين من كل الطوائف والأطراف”، متمنياً أن “يكون لهم دور في السلم الأهلي في المرحلة المقبلة”.
بدوره، قال عمران: “هناك جدار من الثقة كان متصدعاً في زمن عائلة الأسد، لكنه الآن هدم بشكل نهائي”، وهذا يحمّل الحكومية مسؤولية كبيرة من أجل “مراعاة ملف السلم الأهلي والمحاسبة والعدالة، بشكل بالغ الاهتمام، لإصلاح الفجوة بين المكونات، لا سيما العلويين والسنة في الساحل”.
لا يمكن الحديث عن “إنهاء الاحتقان الطائفي من دون اعتقال فلول النظام وتقديمهم للعدالة”، قال العبد الله، مشدداً على أن أصل المشكلة بعناصر النظام، إذ رغم كل ما حصل “العائلات السنية احتضنت العلويين، والعلويون استقبلوا جرحانا”.
وختم العبد الله، وهو من المكون السني، أن جيرانه “في نفس البناء علويين، والعلاقة بيننا مثل الأهل”، ورغم هذا الاختبار الصعب “عندما أنزل للتسوق وشراء الخبز اشتري لهم كما أشتري لعائلتي”، وعندما وقعت الأحداث الدامية “كنا نطمئن على بعضنا البعض”، لأن “ديننا أوصانا بالجار”.