8 دقائق قراءة

“الرأس تركي والجسم سوري”.. السوريون أمام مستقبل غامض بعد توسع النفوذ التركي في الشمال

افتتاح قصر العدل في منطقة الراعي في ايلول. الصورة من […]


افتتاح قصر العدل في منطقة الراعي في ايلول. الصورة من قوات الشرطة والأمن العام الوطني في منطفة الراعي.

عندما وصل والي مقاطعة كلس التركية إلى حفل افتتاح قصر العدل الجديد في بلدة الراعي، شمال مدينة حلب، الشهر الماضي، استقبله الأهالي وضباط الشرطة السورية المحليين بإلقاء التحية وأصوات الموسيقى التركية.

وقطع الوالي، الذي كان محاطاً بعدد من المسؤولين الأتراك، الشريط الأحمر، مفتتحاً بذلك أحدث ما أضيف إلى البنية التحتية لشمال سوريا، وهي مؤسسات الحكومة المشتركة (ثنائية اللغة)، وزينت الخلفية بأعلام الثورة السورية والأعلام التركية ونصبت الخيام التي جُهزت لهذه المناسبة، ووضع على مدخل قاعة المحكمة لافتة حمراء كبيرة كتب عليها باللون الأصفر “قصر العدل” باللغتين التركية والعربية.

وأصبحت الأعلام المشتركة واللافتات – ثنائية اللغة – مألوفة بصورة متزايدة في مناطق شمال سوريا، التي تقع اسمياً تحت سيطرة فصائل المعارضة المدعومة من تركيا، وفعلياً تحت رعاية تركيا نفسها، حيث تم رسمها على جدران المدارس والمستشفيات والمباني الحكومية المحلية التي تمولها تركيا في جميع أنحاء مدن محافظة حلب الشمالية مثل عفرين واعزاز والباب، وأحياناً ترافقها بعض النقوش المكتوبة باللغتين التركية والعربية “الأخوة لا حدود لها “.

ولايزال السوريون يحاولون التأقلم مع وجود هذه اللافتات المنتشرة وأسلوب الحياة الجديد في الشمال.

ويعود وجود أنقرة في شمال حلب إلى عام 2016، عندما بدأ الجيش التركي عملية “درع الفرات” لطرد مقاتلي تنظيم الدولة من المناطق المحاذية لتركيا، بدعم من فصائل المعارضة التي تعمل اسمياً تحت مظلة الجيش السوري الحر، وفي وقت لاحق سيطرت القوات المدعومة من قبل تركيا على عفرين التي كانت تحت سيطرة القوات ذات الغالبية الكردية.

وفي البداية تم الإشارة إلى الوجود التركي على أنه سلسلة من الهجمات ضد التهديدات الخارجية لتركيا، إلا أن نفوذ تركيا في هذه الزاوية من شمال سوريا أصبح الآن أبعد من أن يقتصر على الأمور العسكرية.

ورغم أن صور الأعلام واللافتات التركية ليست جديدة، إلا أن السكان ومسؤولي المعارضة المحليين يشيرون إلى أن دور تركيا في شمال سوريا قد توسع تدريجياً من قطاع الأمن، ليشمل معظم جوانب الحياة السياسية والمدنية، كالمحاكم والمدارس والسلطات الدينية، وصولاً إلى التفاصيل المتعلقة بتوفير الخدمات والسجل المدني، حتى المجالس المحلية – وهي هيئات إدارية مدنية تعود مباشرة للحكومة السورية المؤقتة – تعمل الآن تحت سلطة “الوالي” أو حكام الأقاليم التركية المجاورة.

وفي السياق، أكد بعض المدنيين لسوريا على طول أنهم شاكرين للاستقرار الذي توفره السلطات المدعومة من قبل تركيا، إلا أنهم لا يزالون في حالة تناقض بشأن تأثير الوجود التركي المتزايد على حياتهم – وكذلك مستقبل شمال سوريا.

“الرأس تركي والجسم سوري”

عندما بدأت تركيا عملية “درع الفرات” في عام 2016، تمكنت مجموعات المعارضة السورية المدعومة من تركيا بالإضافة إلى دعم التحالف الجوي الذي تقوده الولايات المتحدة من السيطرة على مدينة جرابلس الحدودية من تنظيم الدولة في غضون ساعات.

وبعد فترة وجيزة، أعلنت تركيا عن خطط لإعادة إعمار جرابلس، ووضع المدينة تحت الإشراف المباشر للحاكم التركي في غازي عنتاب، الذي أشرف على ترميم خدمات البلدية والمدارس وتنفيذ القانون المحلي، وشكّل الحاكم أيضاً مجلساً محلياً جديداً – متجاهلاً وجود حكومة المعارضة في المنفى، والتي تطالب بالسلطة القضائية على الهيئات الحكومية المحلية في شمال سوريا، والتي تتخذ من غازي عنتاب مقراً لها.

والآن، وبعد مرور عامين، تم تعميم ما يسمى “نموذج جرابلس” على مناطق أخرى في شمال حلب، التي تقع تحت الرعاية التركية، وآخرها عفرين، بعدما تمكن الجيش التركي وفصائل المعارضة التابعة له من طرد وحدات حماية الشعب (YPG) التي يقودها الأكراد، ضمن عملية غصن الزيتون في كانون الثاني، ويصف سكان عفرين واعزاز والباب تركيا على أنها سلطة وقوة منتشرة في شمال حلب.

وقال أحمد الشامي، ناشط اعلامي من الباب “كل شيء يعود إلى الأتراك، وهم يشرفون على جميع جوانب الحياة” وطلب الشامي بالإضافة إلى جميع المصادر الأخرى المذكورة في هذا التقرير حجب أسمائهم الحقيقية خوفاً من التداعيات الأمنية من السلطات التركية أو فصائل المعارضة المدعومة من تركيا.

ورقة امتحان مدرسة ابتدائية مكتوبة باللغة التركية والعربية. تصوير عبد الرحمن حسين.

وذكر عبد الرحمن حسين، أب لطفلين، ويبلغ من العمر 31 عاماً ولا يملك حالياً وظيفة بعد أن نزح من الغوطة الشرقية إلى اعزاز في وقت سابق من هذا العام، إن التأثير التركي امتد ليشمل “الأجهزة الأمنية والشرطة والمجالس المحلية والمحاكم”.

وأضاف “الرأس تركي والجسم سوري”.

وتعمل المجالس المحلية والخدمات العامة في شمال حلب بشكل رسمي تحت مظلة الحكومة السورية المؤقتة، وهي نظام حكومة المعارضة، التي تتخذ من غازي عنتاب مقراً لها، وتحلّ محل الحكومة السورية في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في جميع أنحاء سوريا، لكن في شمال حلب، يزعم السكان أن سلطات المعارضة السورية لا تحكم الآن إلا اسمياً في المنطقة.

وصرح الشامي لسوريا على طول “”حتى الشرطة الحرة [شرطة الحكومة السورية المؤقتة] لا تمون على الشعب هنا، والسكان عادة يذهبون مباشرة إلى السلطات التركية لحلّ أصغر المشاكل التي قد يواجهونها”.

وأضاف أنه بمجرد تدخل الأتراك “يتم حل المشكلة تلقائياً”.

وأشار أحد المتحدثين باسم فصيل عسكري تابع للجيش الحر المدعوم من تركيا إلى أن “البساط قد تم سحبه من تحت القادات السورية، حتى أن أصغر مترجم تركي يستطيع توقيف أكبر قائد على رجل واحدة وكلمته أكبر من القائد السوري”، وأضاف أن الحديث عن النفوذ التركي” ليس حساساً فقط بل يمكن أن يؤدي إلى اختفائي”.

وعلى الرغم من وجود تركيا المكثف في جميع مستويات الحياة المدنية في شمال حلب، إلا أن الأمور لا تسير بسلاسة دائماً.

وبسبب الصعوبات التي تواجهها تركيا في استيعاب 3.5 مليون لاجئاً سورياً في أراضيها، ومواجهة الأزمة الاقتصادية المتفاقمة باستمرار، فإن وعود تركيا بإعادة الإعمار وتقديم الخدمات والتنمية إلى شمال حلب تبدو كبيرة، وفي غضون ذلك، لايزال آلاف النازحين السوريين في شمال سوريا يعانون من أجل الوصول  إلى أبسط الخدمات الأساسية في المخيمات التي تديرها منظمات الإغاثة التركية، وبعضها تابع للدولة.

ومنذ بضعة أيام خرج المعلمون في الباب إلى الشوارع محتجين على رواتبهم المتدنية، التي يقولون إنها لا تغطي نفقات أسبوع واحد، وفي وقت سابق من هذا الشهر، ورد أن المعلمين قدموا شكوى رسمية باللغة التركية إلى السلطات التركية من خلال المجلس المحلي في الباب، زاعمين أن رواتبهم كانت حوالي نصف رواتب نظرائهم السوريين على الجانب الآخر من الحدود التركية.

ولا تلق حالات الاستياء من السكان استقبالاً حسناً دائماً، حيث قال السكان أن السلطات اتخذت إجراءات صارمة ضد تعبير المعارضة عن وجود بنية تحتية عسكرية ومدنية تركية في المنطقة.

وفي آب، قُبض على طبيب في مدينة الباب وحُكم عليه بالسجن لمدة خمسة أشهر، بالإضافة إلى غرامة قدرها خمسة آلاف ليرة تركية (حوالي 860 دولاراً) بسبب انتقاده علناً الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

وذكر متحدث باسم المعارضة في شمال حلب لسوريا على طول، أن النقاش حول وجود تركيا في حلب وماحولها هو أمر محفوف بالمخاطر، وطلب عدم الكشف عن هويته خوفاً من المحاسبة، مضيفاً “هذا ليس فقط موضوعاً حساساً، بل يمكن أن يخفيني وراء الشمس”.

ورغم أن القوات التركية نفسها نادراً ما تقوم باعتقال أحد، إلا أن قادة المعارضة السورية هم غالباً ما يفعلون ذلك من أجل الحصول على ترقية عند القادة الأتراك أو كسب ودّهم.

وقال مسؤول المعارضة ” تركيا لا تحاسبك لكن القادة الذين يريدون تبييض وجوههم مع تركيا يقومون باعتقالك”.

ساحة في عفرين سميت باسم رئيس تركيا رجب طيب أردوغان. الصورة من بوابة حلب.

والعبء الأكبر لفرض السلطات التركية سيطرتها كان في عفرين، وهي مدينة تتبع لمحافظة حلب، وذات غالبية كردية، وكانت المنطقة الرئيسية لعملية غصن الزيتون في وقت سابق من هذا العام.

ومنذ انتهاء تلك العملية، التي تم فيها طرد وحدات حماية الشعب الكردية من مدينة عفرين وإجبارهم على الانسحاب إلى الريف النائي، كافح المجلس المحلي المدعوم من تركيا لفرض سلطته على فصائل المعارضة التي تهيمن على المدينة وضواحيها، كما اتُهمت فصائل المعارضة المحلية، بما فيها فرقة السلطان مراد والفرقة 55 والجبهة الشامية وفيلق الشام وأحرار الشرقية، بالقيام باعتقالات تعسفية واتهم بعضها بنهب ومصادرة الممتلكات دون موافقة المجلس والمدنيين المحليين.

واتهمت جماعة حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية، القوات التركية  “بغضّ النظر” عما أطلقت عليه اسم “الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان” من قبل فصائل المعارضة تحت القيادة التركية.

ومنذ أن أجبرت وحدات حماية الشعب الكردية على الخروج من المنطقة بعد سيطرة المعارضة المدعومة من تركيا، فإن حملة التمرد التي تشنها من الريف ما زالت تهدد الاستقرار داخل عفرين نفسها.

ومازال سكان شمال سوريا يرون أن الوجود التركي أفضل البدائل المحتملة، مقارنة بالاقتتال الداخلي للمعارضة الذي هز المناطق الأخرى الواقعة تحت سيطرتها في جميع أنحاء سوريا – ولاسيما محافظة إدلب المجاورة.

وذكر الشامي، الناشط الإعلامي من الباب، أن “الوجود التركي ضروري لأنه يخلق نوع من الاستقرار، ومن دونه ستشهد المنطقة اقتتال بين فصائل المعارضة وسيكون هناك حالة من الفوضى”.

ومن ناحية أخرى، لا يزال الشامي يشعر بالقلق من تواجد تركيا الذي من الممكن أن ” يمسح الدور الحقيقي للسوريين القياديين” الذين في رأيه “هم أصحاب فكر ورؤية استراتيجية للبلد”.

“دفعة أولى لإنشاء النسخة المستقبلية الصديقة لتركيا”

إن مصير محافظة إدلب المجاورة، الواقعة تحت سيطرة المعارضة، ما زال معلقاً بعد التوصل إلى اتفاق بوساطة روسية وتركية في الشهر الماضي، الذي كان من المفترض أنه يهدف إلى تجنيب المنطقة من هجوم شامل تابع للحكومة هناك.

ومع ذلك، أشار المحللون – المنقسمون على التفاصيل الدقيقة لوجود تركيا في الشمال – أن الرئيس التركي قد يتطلع إلى قبضة طويلة الأمد على مناطق محافظة حلب.

في حين يقوم البعض بالمقارنة مع مقاطعة هاتاي التركية – وهي منطقة كانت تابعة لسوريا سابقاً وهي شبه مستقلة كانت تعرف في السابق باسم اسكندرون وضمتها تركيا في عام 1939 – ويبدو أن المحللين يتفقون على أن وجود تركيا في شمال حلب سيكون مؤقتًا على الأرجح.

كما أن إليزابيث تيومان، الباحثة في معهد الدراسات الحربية الذي يتخذ من الولايات المتحدة مقراً له والمتخصص في السياسة التركية، مترددة أيضاً في استخلاص استنتاجات سريعة وجدية حول أهداف تركيا الطويلة الأجل في المنطقة.

وقالت “لا أعتقد أن الأتراك يريدون إعادة رسم الحدود لتشمل شمال حلب” لكنها تعترف بأن شمال سوريا “بالتأكيد يعتبر توسعاً في مجال نفوذهم”.

وأضافت “من الناحية الإستراتيجية، تركيا تقوم بصناعة ما تأمل أن يكون دفعة أولى لإنشاء النسخة المستقبلية الصديقة لتركيا من سوريا”.

ومن جهته، اقترح يزيد صايغ، وهو زميل أقدم في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، أن أي تواجد تركي في شمال حلب سيكون مؤقتًا – ولكن لديه أغراض محددة يتعين عليه تقديمها في هذه الأثناء.

وأضاف ” إن اهتمام تركيا في سوريا بالغالب هو منع الحكم الذاتي السياسي الهادف والرسمي للأكراد هناك”. “.

وإن وجود وحدات حماية الشعب الكردية على طول الحدود السورية التركية كان يُنظر إليه من الجانب التركي منذ فترة طويلة على أنه تهديد، نظرًا لارتباطها الأيديولوجي بحزب العمال الكردستاني (PKK)، وهي جماعة كردية سياسية يسارية تحارب منذ عقود من أجل انفصال الأكراد عن المناطق الأخرى من تركيا.

وذكر الصايغ، أن تركيا تعتزم التمسك في شمال حلب كورقة مساومة لضمان “الوصول إلى نهاية الصراع بطريقة تمنع الحكم الذاتي الكردي” في شمال سوريا – أو بعبارة أخرى على الحدود الجنوبية لتركيا، وبمجرد تحقيق هذا الهدف فأن تركيا تنوي “إعادة هندسة ودمج المعارضة المسلحة ومناطق المعارضة والمجالس المحلية في الدولة السورية تحت حكم الأسد”.

في هذه الأثناء، لم يعتبر الصايغ اتهامات “التتريك” على أنها “مثيرة للقلق”.

وعلى الرغم من ذلك، فإن الناس الذين يعيشون الآن في هذه الزاوية من سوريا يتطلعون بتوتر إلى ما يمكن أن يعنيه الوجود التركي الموسع حول محافظة حلب بالنسبة لهم، وهم متلهفون للحاضر ولكنهم متناقضون تجاه المستقبل.

وقال الحسين، النازح من الغوطة الشرقية والعاطل عن العمل “إن الأمر معقد” مشيراً إلى الفوائد القصيرة والطويلة الأمد.

وأضاف “في الوقت الحاضر أنا أعيش في تناقضات”.

 

تم اعداد هذا التقرير بمشاركة عبد الله الحسن ومريم الحوراني.

 

ترجمة: بتول حجار

شارك هذا المقال