السوريون العالقون في لبنان: “خذلنا العالم مرتين”
مع شح الموارد المتاحة لمساعدة 1.2 مليون نازح في لبنان، يحظى السوريون بمرتبة متدنية من الأولوية، وفي ظل القصف الإسرائيلي يشعر العديد منهم أن التاريخ يعيد نفسه
12 أكتوبر 2024
صيدا، بيروت- يزدحم مرآب سيارات عام، وسط مدينة صيدا الساحلية في لبنان، باللاجئين السوريين، حيث تملأ البطانيات وأكياس الملابس المكان، بينما حلّ نحو ألف لاجئ سوري محلّ السيارات، ينام الكثير منهم على الأسفلت الصلب، البارد ليلاً والملتهب نهاراُ.
وكحال الآلاف في لبنان، فرّ معظم هؤلاء من منازلهم في محافظتي النبطية والجنوب اللبنانيتين، في 23 أيلول/ سبتمبر، بعد حملة قصف مكثفة شنتها إسرائيل على أنحاء لبنان، قائلة أنها تستهدف حزب الله.
“خذلنا العالم نحن السوريين مرتين”، قال إسماعيل الناصر لـ”سوريا على طول”، الأولى خلال 13 عاماً من الصراع في سوريا، والثانية خلال التصعيد الإسرائيلي الأخير على لبنان.
وأضاف الناصر، 35 عاماً، في الخامس من تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، عندما كان يفترش مع عائلته الأرض في مرآب صيدا لأكثر من أسبوعين: ” الكثير منا متعلمون، ومكاننا ليس في الشوارع”.
في عام 2015، فرّ الناصر، الذي كان معلماً لمادة التاريخ في سوريا، من العاصمة دمشق إلى لبنان، ليجد عملاً في النبطية، إحدى أكبر مدن جنوب لبنان، فرصة عمل في بيع الخضار، وأسس لحياة جديدة هناك مع زوجته وأطفاله الثلاثة، لكن في أواخر أيلول/ سبتمبر اقتلعوا بعنف مرة ثانية، ولكن بفعل الغارات الجوية الإسرائيلية.
”كان لدي منزل، وكنت أعمل من أجل تأمين حياة لائقة، ولكن ضاع كل شيء وانتهى بنا المطاف في الشوارع”، قال الناصر بأسى، معبراً عن عجزه “أمام الوضع الحالي”.

إسماعيل الناصر، الذي ينحدر من العاصمة دمشق، يجلس في مرآب السيارات بمدينة صيدا الساحلية، حيث يبيت مع عائلته في هذا المكان منذ فراره من مدينة النبطية جنوب لبنان، 05/ 10/ 2024، (هانا ديفيس/ سوريا على طول)
أزمة كارثية
حذرت الأمم المتحدة من أن لبنان يواجه “أزمة إنسانية كارثية”. وقالت السلطات اللبنانية أن أكثر من 1.2 مليون شخص نزحوا في الأسابيع الأخيرة، فيما قد يكون “أكبر حركة نزوح” تشهدها البلاد على الإطلاق.
وقالت ليزا أبو خالد، المتحدثة باسم مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في لبنان، أن 807 من أصل 990 مركز إيواء للنازحين، تديرها الحكومة اللبنانية، وصلت إلى طاقتها الاستيعابية القصوى. ينام الآلاف من الأشخاص الذين ليس لديهم مكان يذهبون إليه – كثير منهم سوريون – في العراء، ويبقون على قيد الحياة بفضل مساعدة عدد قليل من من المنظمات الصغيرة.
وصفت أبو خالد الأسابيع الأخيرة بأنها “الأكثر دموية وتدميراً في لبنان منذ عقود”، مضيفة: “نشهد اليوم كارثة إنسانية حذرنا منها، كما دعونا مراراً وتكراراً إلى وقف التصعيد بشكل عاجل لتجنيب لبنان وشعبه المزيد من المآسي”.
وفي المقابل، تآكلت خزينة الدولة اللبنانية بفعل سنوات من الأزمة الاقتصادية وسوء الإدارة، ما جعل الحكومة غير قادرة على الاستجابة بشكل كافٍ لاحتياجات مواطنيها النازحين. بينما اللاجئون السوريون، الذين يواجهون أصلاً العنف والتمييز وحملة القمع الحكومية التي تهدف إلى إخراجهم من لبنان، من بين آخر من يتلقون المساعدات.
“صفر موارد”
قال حازم بديع، رئيس بلدية صيدا، لـ”سوريا على طول” من مكتبه: “الشعب اللبناني أولويتنا”، معرباً في الوقت ذاته عن قلقه بشأن العالقين في الشوارع، مشيراً إلى أن البلدية سوف تحاول مساعدتهم “بغض النظر عن جنسيتهم”، ومع ذلك فإن المنظمات الدولية هي المسؤولة في نهاية المطاف.
وأضاف بديع: “السوريون من مسؤولية مفوضية شؤون اللاجئين، لكن لا أرى أي شيء عملي يحدث [من أجلهم] في الوقت الحالي”.
في الخامس من تشرين الأول/ أكتوبر، كان في صيدا ما يزيد عن ثمانية آلاف نازح، يقطنون في 22 مدرسة حكومية تم تحويلها إلى مراكز إيواء، بحسب رئيس البلدية، وهذه المدارس امتلأت منذ الأول من تشرين الأول/ أكتوبر الحالي.
وأوضح بديع أن “البلدية غير مهيأة اقتصادياً لمثل هذه الظروف”، إذ “لا يوجد لدينا موارد، ولولا المبادرات المحلية لما استطعنا الاستجابة”. كان التحدي الأكبر هو توفير الوقود اللازم لتشغيل المولدات الكهربائية من أجل توفير الكهرباء، وكذلك وصول المياه إلى مراكز الإيواء.
حاول الناصر الذهاب إلى مراكز الإيواء الرسمية في صيدا، لكن تم رفضه لأنه سوري، وقيل له “يجب أن يذهب السوريون إلى الأمم المتحدة لأنها الجهة المسؤولة [عنا]”.
يشعر الناصر أن المفوضية لا تقدم الكثير من أجل مساعدتهم، واقتصر دعمها على توزيع الفرشات والبطانيات لنصف الموجودين في مرآب صيدا، حيث يقيم. وجه نازحون سوريون آخرون في صيدا والعاصمة اللبنانية الانتقادات ذاتها للأمم المتحدة لأنها لا تقوم بدورها كما ينبغي.

ملابس منشورة على جدار مرآب السيارات في صيدا، الذي تحول إلى مركز تجمع للنازحين داخلياً، 05/ 10/ 2024، (هانا ديفيس/ سوريا على طول)
تعليقاً على ذلك، قالت ليزا أبو خالد من مفوضية شؤون اللاجئين، أن “الاحتياجات الإنسانية تتزايد بسرعة، ونحن بحاجة إلى تمويل عاجل للاستجابة بشكل كاف”، مضيفة: “بينما كنا نستعد لهذا السيناريو الأسوأ، ورفعنا استجابتنا الإنسانية بشكل كبير منذ 23 أيلول/ سبتمبر، فإن مواردنا الحالية غير كافية على الإطلاق لتغطية جميع المحتاجين”.
وصل دعم المفوضية إلى غالبية العائلات اللبنانية النازحة، بما في ذلك “مواد الإغاثة الأساسية” مثل الفرش والبطانيات وأدوات المطبخ والمصابيح الشمسية، بالإضافة إلى إصلاح وتحديث الملاجئ في جميع أنحاء البلاد.
وتعمل المفوضية أيضاً على دعم نظام الرعاية الصحية المتدهور في البلاد من خلال شراء سيارات الإسعاف، وتقديم الإمدادات الطبية العاجلة، وتوسيع شبكة المستشفيات التابعة لها في المحافظات الجنوبية والشرقية، وفقاً لأبو خالد.
من جهته، قال أليكس سايمون، المؤسس المشارك لمركز سينابس، وهو مركز أبحاث في بيروت، أن “الاستجابة على الأرض كانت فوضوية، إذ لا يعرف اللاجئون السوريون إلى أي مكان يمكنهم التوجه من أجل الحصول على المساعدة”.
وأضاف سايمون لـ”سوريا على طول”: “وما يزيد من حالة الإرباك هو أن بعض البلديات تستقبل النازحين السوريين، بينما ترفض بلديات أخرى استقبالهم”، مشيراً إلى أن مناطق طرابلس وشمال لبنان والبقاع الغربي كانت أكثر تقبلاً للنازحين السوريين، بشكل عام، من المناطق الأخرى.
اقرأ المزيد: في ظل القصف الإسرائيلي: السوريون في لبنان بلا مأوى وخياراتهم محدودة
تصاعد التوترات
مع تفاقم الأزمة الإنسانية في لبنان دون وجود دعم كاف، تتصاعد التوترات بين بعض المجتمعات المضيفة والنازحين اللبنانيين والسوريين على حد سواء. وبدأ المسؤولون الحكوميون بتقييد الأماكن العامة المتاحة للنازحين، الذين ليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه.
“يومياً، تأتي الشرطة لتخبرنا بأنه يجب علينا المغادرة، وأنه يُمنع نصب خيامنا هنا”، قالت أمل، 23 عاماً، لـ”سوريا على طول” من مأواها المؤقت في كورنيش بيروت الساحلي. فرّت أمل، التي طلبت التعريف عنها باسمها الأول فقط، من الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث دمّر القصف الإسرائيلي منزلها هناك.
فرت أمل من محافظة الرقة، شمال شرق سوريا، في عام 2012، حيث دُمّر منزلها أيضاً، وليس لديها ما تعود إليه هناك، قائلة: “لا منزل لنا في سوريا، كنا سنعيش في الشوارع أيضاً”.

مأوى أمل المؤقت على كورنيش بيروت، 07/ 10/ 2024، (هانا ديفيس/ سوريا على طول)
في مساء التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر، أوقف رجل سيارته بجانب الكورنيش وصرخ في وجه النازحين: “عليكم أيها السوريون العودة إلى بلادكم“، لتنشب مشادة كلامية ويرد عليه من كان حاضراً بأنه يوجد نازحون سوريون ولبنانيون، بحسب أمل، التي شهدت الحادثة.
وأضرم أحد النازحين اللبنانيين النار في فراشه وملابسه، معبراً عن غضبه واحتجاجه مما هو عليه، وصرخ قائلاً: “إلى أين يفترض بنا أن نذهب؟!”.
في مساء اليوم ذاته، اندلعت اشتباكات في منطقة الكورنيش ، بين النازحين وقوات الأمن اللبنانية، التي أقدمت على تفكيك أكشاك صغيرة لبيع القهوة وبعض الوجبات الخفيفة.
وفي الوقت ذاته، انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي أنباء عن أن قوات الأمن اعتدت على النازحين في شوارع وسط بيروت، يوم الأربعاء، باستخدام الهراوات الكهربائية والعصي. النازحون الذين تحدثوا لـ”سوريا على طول” لم يشهدوا شخصياً مثل هذه الحادثة.
“لا يوجد مكان آمن نذهب إليه”
على الواجهة البحرية بالقرب من أمل، نصبت رغد، 43 عاماً، خيمة مؤقتة لها ولعائلتها، قائلة: “يريدوننا أن نغادر” هذا المكان، لكن “لا يوجد مكان آمن نذهب إليه”.
فرّت رغدة، التي طلبت من “سوريا على طول” التعريف عنها باسمها الأول، من الضاحية الجنوبية، حيث كانت تقيم منذ فرارها من ريف حلب، وحالياً “لا يمكننا العودة إلى المنزل [في الضاحية] بسبب القصف، ولا يمكننا تحمل تكاليف الإيجار أو العودة إلى سوريا”، وفقاً لها، معبرة عن حيرتها بالقول: “لا نعرف ماذا نفعل”.
منذ 23 أيلول/ سبتمبر، عبر 311,034 مواطن سوري إلى بلادهم، إلى جانب عشرات آلاف اللبنانيين، وفقاً للأمن العام اللبناني. لكن العديد من السوريين، مثل رغد وعائلتها، لا يستطيعون العودة.
اقرأ المزيد: التجنيد في صفوف النظام وقسد يمنع عودة سوريين من الموت في لبنان
حتى لو كان لديها منزل تعود إليه في سوريا، فإن رغد لن تكون قادرة على تحمل تكاليف الرحلة، التي قدّرت تكلفتها بنحو ألف دولار أميركي، بينما قدّر الناصر، الذي اتخذ من مرآب السيارات في صيدا مأوى مؤقتاً له، تكاليف العودة بنحو 500 دولار.
وتجنباً للاعتقال بسبب التجنيد الإلزامي أو مشاكل أخرى قد تواجههم على طول الطريق، توقعوا أن يضطروا إلى دفع رشاوى لعناصر الجيش المتمركزين عند نقاط التفتيش والحواجز.
وقال سايمون من مركز سينابس أن “السوريين الذين يفرون إلى بلادهم يواجهون مجموعة من المخاطر”، إذ يواجه الرجال في سن الخدمة العسكرية التجنيد الإجباري، الذي يجبر البعض على دفع رشاوى باهظة لتجنبه، أما المطلوبين للأجهزة الأمنية، بسبب نشاطهم أو فرارهم من الجيش، قد يواجهون ما هو أسوأ بكثير.
وفي هذا السياق، أفاد موقع “السويداء 24″، وسيلة إعلام محلية تعنى بتغطية أخبار جنوب سوريا، في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر، أن أربعة مواطنين من محافظة السويداء اعتُقلوا في حادثتين منفصلتين أثناء محاولتهم العودة من لبنان إلى سوريا هذا الشهر.
وذكر الموقع أن ثلاثة من الرجال، وهم فارون من الخدمة العسكرية، تم اعتقالهم عند نقطة تفتيش تابعة للمخابرات العسكرية بالقرب من دمشق، بينما تم اعتقال الرابع على الأرجح لمشاركته في المظاهرات السلمية الأخيرة.
التاريخ يعيد نفسه
مع استمرار القصف الإسرائيلي، يتوافد المزيد من النازحين السوريين، يوماً بعد يوم، إلى المرآب في صيدا. عندما زارت “سوريا على طول” المرآب كان هناك حوالي 890 شخصاً يعيشون فيه، وفقاً لرجل سجل جميع الأسماء. وبعد خمسة أيام، أي في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر، وصل ما لا يقل عن مئة شخص آخرين.
بينما كانت ميساء، 35 عاماً، تحمل ابنتها البالغة من العمر ثلاث سنوات وهي جالسة في مرآب صيدا، قالت وعيناها تحدّق بصغيرتها: “حدث نفس الشيء في سوريا، عندما قررنا الهروب لإنقاذ أنفسنا، والآن يتكرر المشهد مرة أخرى”.
كانت ميساء صغيرة عندما فرّت من محافظة حماة السورية، قبل سنوات، لكنها الآن تهرب خوفاً على أطفالها الذين “لا يستحقون الموت”.