السوريون الفارون من جنوب لبنان يعانون من غياب الدعم ويستذكرون مآسي بلادهم
يعاني اللاجئون السوريون الفارون من الحرب بين إسرائيل وحزب الله في جنوب لبنان من تحديات معيشية جديدة لاسيما في ظل غياب الدعم، بينما يؤجج القصف والتهجير ذكرياتهم المؤلمة مع الحرب في سوريا.
26 يناير 2024
صور- يملأ الصخب والحيوية المدرسة الوطنية في صُور، جنوب لبنان، منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حيث عشرات الأطفال يتراكضون خلف كرة القدم في ساحة المدرسة ويتدافعون عبر ممراتها الضيقة، ويتجولون بين الصفوف، بينما تعكف بيان الجاسم على حلّ مجموعة من المعادلات الرياضية داخل غرفة صفية في الطابق الثاني.
ولكن بيان، ليست طالبة في هذه المدرسة كما غيرها من الأطفال، إنما نزحت إليها مع عائلتها المكونة من عشرة أفراد قبل منتصف تشرين الأول/ أكتوبر، بعد عدة أيام من حدوث تبادل لإطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل على حدود لبنان الجنوبية.
صارت الغرفة الصفية الصغيرة مأوى عائلة بيان، منذ أكثر من 90 يوماً، يقضون نهارهم وليلهم ويتناولون طعامهم فيه. قالت الطفلة: “أنا خائفة، لم يعد عندنا بيت”.
بيان وعائلتها من ضمن نحو 83 ألف شخص هُجّروا من المناطق الحدودية اللبنانية، على خلفية الحرب الإسرائيلية في غزة. إذ تسبب القصف على الجانب اللبناني، حتى التاسع من كانون الثاني/ يناير، بمقتل 135 قتيلاً، بينهم 24 مدنياً، وإصابة 612 بجروح، بحسب أرقام صادرة عن وزارة الصحة العامة في لبنان.
رغم صغر سنها، هُجِّرت بيان مرتين. في عام 2018، عندما كانت في السادسة من عمرها، غادرت مع عائلتها منزلهم في قرية الرفة بمحافظة إدلب، شمال غرب سوريا هرباً من الحرب، واستقروا في بلدة بنت جبيل في لبنان، التي تبعد نحو ستة كيلو مترات عن الحدود الإسرائيلية، وهناك عثر والد بيان على عمل في الإنشاءات.
ولكن، بعد ست سنوات فقط، تعرضت القرية للقصف والغارات الجوية الإسرائيلية. ومن جديد، حزمت العائلة أمتعتها على عجل، واتجهت شمالاً إلى صُور بحثاً عن الأمان. “الحرب الآن [في لبنان] أسوأ مما كانت في سوريا”، قال والد بيان، الشيخ نايف الجاسم لـ”سوريا على طول”، مشيراً إلى أنه “أثناء الحرب في سوريا، كنا نعلم المواقع والمناطق الآمنة. هنا لا تعلم المكان الآمن من غير الآمن”.
قبل التصعيد الأخير، كان هناك نحو 90 ألف لاجئ سوري مسجَّل لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين يعيشون في محافظتي الجنوب والنبطية الحدوديتين مع إسرائيل، بحسب الأرقام المقدّمة لـ”سوريا على طول”، لكن لا يوجد لدى المفوضية معلومات مفصّلة عن عدد السوريين، الذين نزحوا من المنطقة، منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
كانت الحياة بالنسبة للسوريين الذين يعيشون في لبنان صعبة حتى قبل عمليات العنف الأخيرة ونزوح اللاجئين والمواطنين في الجنوب على حدٍ سواء. يواجه السوريون في لبنان البالغ عددهم بحوالي 1.5 مليون نسمة، 815 ألف منهم مسجلون لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إجراءات قسرية متزايدة تهدف إلى دفعهم للعودة إلى سوريا، بما في ذلك حملة الترحيل المستمرة التي تقودها الحكومة، وفقاً لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”.
اقرأ أكثر: سوريون يغادرون لبنان عبر “قوارب الموت” وسط انشغال الرأي العام بجنوبه
في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة، التي يعيشها لبنان، يعيش نحو 90 بالمئة من اللاجئين السوريين في فقر مدقع، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى سياسة التمييز المنهجي ضدهم وعدم حيازتهم أوراق إقامة قانونية، ما يحول دون وصولهم إلى أعمال ذات دخل أعلى.
حالياً، يواجه السوريون الذين أُجبِروا على الفرار من الغارات الجوية والقصف في جنوب لبنان تحديات جديدة بسبب التهجير ما يفاقم صعوبة الوضع السيء الذي يعيشونه أصلاً.
ضعف المساعدات المقدمة للنازحين
امتلأت مراكز الإيواء الخمسة في صور -بما في ذلك المدرسة التي تأوي بيان وعائلتها- بأقصى طاقتها الاستيعابية، كما أوضح لـ”سوريا على طول”، مرتضى مهنا، رئيس وحدة إدارة الكوارث في اتحاد بلديات قضاء صور. شهدت صور، التي تبعد 20 كيلو متراً عن الحدود الإسرائيلية، أعلى تدفق للنازحين منذ اندلاع الأعمال العدائية في تشرين الأول/ أكتوبر.
يتوافد حالياً 200 إلى 300 شخص يومياً إلى صور من الحدود الجنوبية للبنان، حتى أن بعض الذين فروا في بادئ الأمر شمالاً إلى بيروت يقصدون صور، إذ لا قدرة لهم على تحمل تكاليف الإيجار الباهظة في العاصمة. ومن جهتها، تكافح السلطات المحلية لتلبية الاحتياجات المتنامية.
نفى مهنى أن يكون هناك تمييز بين السوريين واللبنانيين الذين يصلون إلى مكتبه بحثاً عن المساعدة، لكن عندما تكتظ مراكز الإيواء وتتقلص الموارد، فلا يسعه أن يساعد الجميع، وغالباً تُقطَع المساعدة عن السوريين أولاً، بحسب ملاحظة “سوريا على طول” في عدة زيارات إلى صور.
وتقوم الجهة، التي يرأسها مهنا، بتنسيق المساعدات من حوالي 20 منظمة إنسانية محلية ودولية، لتوزيعها على أكثر من 26 ألف نازح في صُور، يعيش منهم نحو ألف شخص في مراكز إيواء داخل المدينة. عندما زارت “سوريا على طول” قضاء صُور، في 16 كانون الثاني/ يناير، قال مهنا أنهم بحاجة لحوالي أربعة آلاف فرشة، إلى جانب قائمة مستلزمات أخرى.
معظم المساعدات المخصصة لمواجهة الكوارث في جنوب لبنان هي مساعدات عينية، تُوزع على السوريين واللبنانيين على حد سواء. وبالمجمل تُقدِّم المفوضية -باعتبارها المعني الأول بتنسيق الدعم للاجئين السوريين في لبنان- دعماً غير نقدي للملاجئ الجماعية والعائلات النازحة في جنوب لبنان بصرف النظر عن جنسيتها، كما قالت المتحدثة باسم المفوضية في لبنان، ليزا أبو خالد لـ”سوريا على طول”.
في صور، قدمت الوكالة التابعة للأمم المتحدة منذ بدء النزاع مواداً تشمل 1600 قرشة وبطانية، و185 غطاءً بلاستيكياً، و260 مصباحاً يعمل بالطاقة الشمسية، تم توزيعها على مراكز الإيواء في المدينة، بحسب أبو خالد، كما قدمت المفوضية مواداً مماثلة إلى تسعة مراكز إيواء أخرى للنازحين في أجزاء أخرى من جنوب لبنان.
ومع ذلك، اشتكى مهنا من أن الدعم الذي تقدمه المنظمات الإنسانية لم يواكب الاحتياجات لدعم الأعداد المتزايدة من الوافدين، لافتاً إلى أنَّ المفوضية لم تدعم عملياته “بشكل كبير”
“النزوح يزيد الأمور تعقيداً”
في الطابق الأول من المدرسة التي تأوي بيان وعائلتها، ترقد فاطمة جاسم الرمضان، 86 عاماً، بسكون وصمت على فراش صغير منذ ثلاثة أشهر. كانت فاطمة وعائلتها، التي تنحدر من محافظة إدلب، يعيشون في قرية عيترون على الحدود اللبنانية إلى أن بدأت عمليات إطلاق النار.
غادروا قريتهم في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر، بعد أن شنت إسرائيل غارة جوية بالقرب من منزلهم، كما قال نجلها خلف أحمد الرمضان، 34 عاماً، لـ”سوريا على طول”، وأثناء هذه الفوضى وقعت فاطمة وكسر فخذها.
بعد نزوحهم، تحول نصف منزلهم إلى أنقاض بفعل القصف الإسرائيلي، بحسب الرمضان. في كانون الثاني/ ديسمبر، أسفرت الغارات الجوية على عيترون عن تدمير حيٍ سكني بأكمله. لم يعد لعائلة الرمضان الآن منزلاً تعود إليه حاله حال أشخاص آخرين فروا من القرية.
“كنا مرعوبين كما كنا أثناء الحرب في سوريا”، بحسب الرمضان، قائلاً: “تدمر منزلنا في سوريا، والآن تدمر منزلنا في لبنان أيضاً”.
تحتاج فاطمة إلى عملية جراحية لتثبيت عظم الفخذ المكسور، غير أنَّ عائلتها لا تستطيع تأمين تكاليف العملية البالغة ألفي دولار أميركي. كانوا يزرعون التبغ في قرية عيترون، ولكنهم الآن بلا عمل. من دون علاج لا يمكن تخفيف آلام فاطمة إلا بالمسكنات والنوم، وهي على هذه الحالة من ثلاثة أشهر.
يشكل الوصول إلى الرعاية الصحية في لبنان تحدياً بالنسبة للاجئين السوريين، ولتحصيلها يعتمد معظمهم على المساعدات الإنسانية. تداعى نظام الرعاية الصحية في لبنان نتيجة الأزمة الاقتصادية وهو ما فاقم الأمور سوءاً، كما قال جيرمي ريستورد، رئيس بعثة أطباء بلا حدود في لبنان لـ”سوريا على طول”.
“يزيد النزوح الأمور تعقيداً في مسألة العثور على الرعاية الصحية إن كان بإمكانهم إيجادها أصلاً”، بحسب ريستورد. يذكر أنَّ منظمة أطباء بلا حدود تدير عيادة متنقلة للطوارئ في محافظتي صيدا والنبطية في لبنان، ولكن ليس لها عيادة حالياً في صور.
تغطي المفوضية من 50 إلى 75 بالمئة من تكاليف المستشفى بالنسبة للاجئين السوريين، بحسب المتحدثة باسم المفوضية أبو خالد. إلا أنّّ عائلة فاطمة، التي وصلت إلى لبنان بعد عام 2015، أي بعد طلب الحكومة اللبنانية من مفوضية الأمم المتحدة تعليق تسجيل اللاجئين السوريين، وبالتالي فهي غير مسجلة ولم تكن أيضاً على علم بأنَّ المفوضية قد تساعد بدفع تكلفة العملية الجراحية. وكذلك لم يكونوا على علم بالخدمات الطبية التي تقدمها المنظمات الإنسانية الأخرى، مثل منظمة أطباء بلا حدود.
في الصف المجاور لعائلة فاطمة، يمكث إبراهيم حسان إسماعيل، 40 عاماً، وزوجته وطفليه. يعاني الابن الأكبر لإسماعيل، أربع سنوات، من نزيف متكرر في الأنف ويحتاج إلى إجراء عملية كيّ للجيوب الأنفية لوقف النزيف، كما قال لـ”سوريا على طول”. ولكن، لا قدرة له على تحمل تكاليف الجراحة التي تبلغ قيمتها ثلاثة آلاف دولار، حاله حال عائلة فاطمة.
إسماعيل الذي فرَّ من إدلب إلى لبنان، في عام 2011، مسجّل لدى مفوضية شؤون اللاجئين، ولكن يحصلمنها على “أي مساعدة على الإطلاق”، على حد قوله. حاول مراراً التواصل معها للحصول على دعم مالي من أجل عملية ابنه ولكنه لم يتلق رداً.
تحدثت “سوريا على طول” مع أربع عائلات سورية من الذين فروا من الجنوب وانتهى بهم المطاف في المدرسة الوطنية بقضاء صور، ولم تتلق أيٌ عائلة منهن مساعدات من المفوضية. وقالت امرأة سورية أن المعونة الشهرية التي كانت تقدمها المفوضية لأسرتها المكونة من خمسة أفراد، وقيمتها 125 دولاراً شهرياً، انقطعت في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر، رغم أنها اضطرت هي وزوجها إلى ترك عملهما بالزراعة بعد أن تعرضت أرضها للقصف الإسرائيلي.
تعليقاً على ذلك، قالت المتحدثة باسم المفوضية في لبنان أن الوكالة “تواصل دعم” اللاجئين الذين أتوا من الجنوب بالمواد الإغاثية الأساسية والتدريب المهني، إلى جانب الدعم القانوني والتعليمي والمأوى. كما بدأت أيضاً بتوزيع منح نقدية إضافية لتلبية احتياجات أكثر من 48,700 لاجئ سوري من خمس مناطق ذات أولوية في محافظتي الجنوب والنبطية.
لم يسمع إبراهيم بهذه المنحة. كان يعمل في البناء قبل اندلاع القتال الأخير في لبنان، ولكن حاله حال العديد من النازحين، فهو متوقف عن العمل منذ أشهر، ونظراً لتدهور وضعه المادي اضطر إلى الاستمرار بتأجيل عملية ابنه.
“نحمد الله على الناس الموجودين هنا [في المأوى] الذين يُؤمنِّون لنا الماء والطعام، يقومون بأفضل ما بوسعهم. ولكن على الأمم المتحدة أن تأخذ على عاتقها مسؤولية أكبر”، قال إبراهيم.
“أريد السلام”
في الغرفة الصفية، تواصل بيان حلّ المعادلات الرياضية بينما عينا والدها ترقبها بحنان، ويحاول بمساعدة “جوجل” مساعدة ابنته في حلها. يسعى جاهداً ألا يهمل أطفاله واجباتهم ليتمكنوا من العودة إلى المدرسة عندما تنتهي الحرب، وفقاً له.
تحاول بيان الدراسة، ولكن أصوات الطائرات الحربية التي تحوم في سماء المنطقة والانفجارات التي لا تبعد عنها سوى بضعة كيلومترات تعكر صفوها. عندما تحلق طائرات إسرائيلية على ارتفاعات منخفضة بالقرب من المكان الذين يأويهم، يصاب الأطفال بالذعر، يمسكون أمتعتهم ويحاولون الهروب من مبنى المدرسة، كما قال موسى الزين، الذي يشرف على مركز الإيواء لـ”سوريا على طول”.
“هم خائفون من الأصوات التي سمعوها في الجنوب، والتي تلاحقهم إلى هنا”، بحسب الزين، معبراً عن خشيته من أن تستهدف إسرائيل المدرسة كما رأى في التقارير الصادرة من غزة، قائلاً: “إن استهدفوا هذه المدرسة لا سمح الله، فماذا بوسعنا أن نفعل؟”.
“أريد السلام فقط” قالت بيان. الرياضيات ليست مادتها المفضلة، وإنما الإنجليزية. تركت المعادلات جانباً وسحب من حقيبتها دفتر الإنجليزية، الذي دونت عليه قوائم الضمائر بخط يدها الأنيق.
تطمح أن تستخدم الإنجليزية في سفرها، قائلة: “أريد أن أذهب إلى سويسرا… إلى حيث السلام”.
تم نشر هذا التقرير أصلاً في اللغة الإنجليزية وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور.