اللعب بالنار: “البابور” بديل “قاتل” عن الغاز في الحسكة شمال سوريا
رصدت "سوريا على طول" 15 حالة إصابة ووفاة ناتجة عن انفجار "بابور الكاز" في مدينة الحسكة، خلال ستة أشهر. حيث يستخدم العديد من السكان هذا النوع بسبب غلاء أسعار اسطوانات الغاز في مناطق الإدارة الذاتية.
1 أغسطس 2024
أربيل، الحسكة- في منتصف حزيران/ يونيو، فقدت مروة الناصر، 31 عاماً، رضيعها الذي لم يكمل ربيعه الثاني، بعد ساعات من إصابته بحروق بليغة إثر انفجار بابور الكاز -موقد تقليدي يعتمد تشغيله على مادة الكيروسين النفطية- في منزلهم بحي غويران، التابع لسيطرة الإدارة الذاتية، في مدينة الحسكة، شمال شرق سوريا.
وضعت الناصر طفلها، حسين، على إسفنجة في بهو منزلهم، وبدأت بتجهيز “البابور” لإعداد وجبة الفطور، فانفجر بين يديها، وأصيبت هي وابنها بحروق، وانتشرت النيران في أرجاء المنزل خلال دقائق، كما قالت لـ”سوريا على طول”.
نُقلت الأم وطفلها إلى مشفى الشعب بالحسكة، التابع للإدارة الذاتية، وبعد ساعات فارق صغيرها الحياة نتيجة إصابته بـ”حروق من الدرجة الرابعة”، بينما أصيبت هي بـ”حروق من الدرجة الثالثة” في وجهها ويديها وقدميها، وفقاً لها.
“من حسن حظي كان جميع أطفالي، باستثناء حسين، خارج المنزل. لو كانوا معنا لاحترقنا جميعنا”، قالت الناصر باكية، وهي أم لسبعة أطفال. قبل انفجار “البابور” أرسلت أحد أطفالها لجلب مياه الشرب، وآخر لشراء أغراض للمنزل، بينما الآخرون كانوا عند خالتهم “لمساعدتها في بعض الأمور”.
تشهد مناطق الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا العديد من حوادث انفجار المواقد البدائية (البابور)، منذ مطلع العام الحالي، بعد أن عاد السكان إلى استخدام هذا النوع رغم خطورته، كان آخرها احتراق منزل في حي الصالحية بمدينة الحسكة، اليوم الخميس، ولم يتبين حجم الأضرار حتى الآن.
وكانت الإدارة الذاتية قد رفعت سعر الأسطوانة إلى عشرة دولارات بعد أن كان سعرها العام الماضي عشرة آلاف ليرة (147 ألف ليرة بحسب سعر الصرف في السوق السوداء البالغ 14700 ليرة للدولار)، وجاء رفع السعر بعد خروج معمل الغاز في محطة السويدية بريف مدينة المالكية (ديريك) عن خط الإنتاج، إثر قصف تركي أخرجها عن الخدمة.
قبل أيام، خفضت مديرية المحروقات في مقاطعة الجزيرة سعر أسطوانة الغاز إلى سبعة دولارات (ستة سعر تعبئتها، ودولار للمعتمد وأجور النقل)، أي ما يعادل مئة ألف ليرة. ومع ذلك، فإن السعر الحالي لا يتناسب مع إمكانيات سكان المنطقة، عدا عن أنه أكثر بعشرة أضعاف عمّا كان عليه قبل رفع الأسعار، كما اشتكت عدة مصادر من سكان الحسكة لـ”سوريا على طول”.
في بلد يعاني من ويلات الحرب، ويعيش نحو 90 بالمئة من سكانه تحت خط الفقر، لجأ ذوو الدخل المحدود، في شمال شرق سوريا، إلى “بابور الكاز”، كما يعرف محلياً، رغم مخاطر الاعتماد عليه، خاصة مع استخدام مشتقات نفطية مكررة بدائياً (مصافي الحرّاقات).
بعد وفاة حسين وإصابة أمه بأسبوعين، كاد “البابور” في منزل بدران علي، 25 عاماً، بمدينة الحسكة، أن ينفجر أثناء إعداد زوجته وجبة الغداء، لولا تمكن الرجل من إطفاء النيران بقطعة قماش مبللة، كما قال لـ”سوريا على طول”.
يتقاضى علي، الموظف في إحدى مؤسسات الإدارة الذاتية، 2.75 مليون ليرة سورية (187 دولاراً) شهرياً، وهو مبلغ لا يكفي لسدّ احتياجات عائلته الشهرية، لذلك استبدل الغاز للطهي بـ”البابور”، وعلل استخدامه قائلاً بلهجة محلية: “شو جابرك على المرّ غير الأمرّ منه”.
حاولت “سوريا على طول” الحصول على تعليق من إدارة معمل الغاز في محطة السويدية، حول أعمال الصيانة في المعمل وإعادة خط الإنتاج، وما إذا كان ذلك سيعيد الأسطوانة لسعرها القديم، لكنها رفضت التصريح.
مشتقات نفطية غير نقية
بمجرد دخولك إلى أحد منازل أحياء غويران، النشوة، الليلية، حوش الباعر، دولاب العويص، العزيزية، الغزل، وخشمان في الحسكة، سوف تسمع هدير البوابير، بينما النساء يعملنّ على إعداد الطعام وبجانبهنّ أقمشة سميكة مبللة بالمياه تحسباً لأي خلل في البابور قد يؤدي إلى اندلاع النيران فيه ومن ثم انفجاره.
في آذار/ مارس الماضي، انفجر “بابور الكاز” في وجه أحلام جاسم الوردي، 30 عاماً، عندما كانت تعد الطعام لعائلتها، فأصيبت بحروق بليغة، نقلت على إثرها إلى أحد مشافي الحسكة، ورغم تلقيها العلاج لعشرين يوماً متواصلاً، ما تزال تعاني من تشوهات جلدية في عدة مناطق بجسمها.
من منزلها في مدينة الحسكة، روت الوردي لـ”سوريا على طول”، تفاصيل الحادثة، موضحة أنها استخدمت البنزين السوبر عوضاً عن مادة الكيروسين (الكاز)، وعند تشغيله انفجر البابور ودبّت النيران في جسدها، ليسارع شقيقها إلى “إخماد النيران بالمياه”، بينما فقدت أخته الوعي من شدة الحروق.
رغم تخوفها من “انفجار ثاني قد يودي بحياتي”، تستمر الوردي في استخدام “بابور الكاز”، قائلة وهي تشوي الباذنجان عليه: “ليس لدينا قدرة على تعبئة أسطوانة الغاز. نخاطر بحياتنا باستخدام البابور، ولكن ما باليد حيلة”.

“بابور الكاز” في منزل أحلام جاسم الوردي، أثناء شوي الباذنجان، وتظهر في الصورة عبوة كاز اشترتها من الباعة المتجولين، 23/ 07/ 2024، (سلام علي/ سوريا على طول)
في منزل واحد، تعيش الوردي مع ثلاثة أشقاء وزوجاتهم وأولادهم، إضافة إلى والديها وشقيقتها الأرملة، ويعاني والدها من شلل بعد أن أصيب بجلطة دماغية قبل أربعة أعوام.
استخدام “البابور” بحدّ ذاته لا يشكل خطراً، لكن استبدال الكاز (الكيروسين) بمشتقات نفطية أخرى مثل البنزين أو المازوت، أو خلط الكاز بهذه المشتقات هو مكمن الخطر، كما قالت عدة مصادر لـ”سوريا على طول”، مشيرين إلى أنهم يشترون هذه المشتقات من أصحاب السيارات، الذين يبيعون مخصصاتهم بعد الحصول عليها من محطات الوقود المعتمدة، ما يعني أيضاً غياب الرقابة على هذه المشتقات.
على أرصفة شوارع الحسكة، يعرض أطفال وباعة عبوات البنزين، بسعر يتراوح بين سبعة وثمانية آلاف ليرة سورية للتر الواحد (نصف دولار تقريباً)، بينما يبيعون لتر الكاز (الكيروسين) بخمسة آلاف ليرة (34 سنتاً) في حال توفره.
واعترف أحد الباعة أن الكاز الذي يعرضه للبيع يحتوي على نسبة من البنزين “وهذا واضح من لونها”، كما قال لـ”سوريا على طول” شريطة عدم ذكر اسمه.

عبوات من الكاز معروضة للبيع في أحد شوارع مدينة الحسكة، يتبين من لونها احتوائها على مشتقات نفطية أخرى، 2024/07/23 (سلام علي/ سوريا على طول)
تعليقاً على ذلك، قال محمد مسور، مهندس كيميائي من مدينة القامشلي، أن المشتقات النفطية في شمال شرق سوريا “غير نقية أصلاً، لأن إنتاجها يتم تحت ضغط منخفض، لذا يحدث تداخلات في الإنتاج بشكل عام”، أي أن “البنزين يحتوي على نسبة من الكاز وبالعكس، وأيضاً يكون خط الإنتاج مشترك بين جميع المشتقات وهذا أيضاً يؤدي بدوره لحدوث تداخلات ومزج بين المشتقات”، كما أوضح لـ”سوريا على طول”.
ويتطلب إنتاج مشتقات نفطية نقية، بناء محطات ومصافي وفق المواصفات العالمية، تعمل تحت ضغط جوي نظامي، وهذا “أمر صعب في ظل الظروف الراهنة”، بحسب مسور، محذراً من خلط المشتقات النفطية مع بعضها، لأنه “عندما يُخلط البنزين مع المازوت يصبح المزيج سريع الاشتعال وخطر جداً عند الاستعمال، كذلك قد تتسبب درجات الحرارة المرتفعة باشتعالها ذاتياً إذا خلطت مع بعضها”.
وتأتي مادة البنزين في الدرجة الأولى من بين المواد الأكثر اشتعالاً، فإذا تعرضت لأي شرارة أو احتكاك تُسبب حريقاً، يليها الكاز (الكيروسين)، الذي لديه درجة اشتعال بحدود 38 درجة مئوية إذا كان المنتج نقياً، لهذا فإن “الكيروسين آمن إذا لم يحتوي على البنزين، وهذا غير ممكن”، وفقاً لمسور.
غياب البدائل
في آخر ستة أشهر، رصدت “سوريا على طول” 15 إصابة ووفاة ناتجة عن انفجار البابور في مدينة الحسكة، من بينها انفجار “بابور الكاز” بشقيقة مريم علي، من سكان حي غويران بمدينة الحسكة، في شباط/ فبراير الماضي، عندما كانت تعد وجبة عشاء لزوجها.
نُقلت السيدة إلى أحد مشافي دمشق لتعذر علاجها في مشافي الحسكة، نظراً لإصابتها البليغة، لكنها “فارقت الحياة بعد سبعة أيام من الحادثة” وواجهت بنت خالتها المصير ذاته، إذ فارقت الحياة قبل شهر من الآن إثر انفجار البابور بها، كما قالت علي لـ”سوريا على طول”.
تخشى علي، الأم لأربعة أطفال، أن تلقى مصير أختها وابنة خالتها، لكن “لا حول لنا ولا قوة”، فزوجها يعمل موظفاً في إحدى المؤسسات التابعة للإدارة الذاتية، براتب مليوني ليرة شهرياً (136 دولاراً)، “وهذا المبلغ بالكاد يكفي ثمن الطعام لأطفالي واحتياجاتهم”.
عندما كان سعر اسطوانة الغاز بعشرة آلاف ليرة، كانت عائلة علي تحصل شهرياً على واحدة من كومين الحي الذي تقطنه، لكن بعد رفع سعرها “فضلنا الاستغناء عن الغاز كلياً واستخدام البابور عوضاً عنه”، وفقاً للسيدة.
اللافت أن تكلفة استخدام “البابور” أكثر من تكلفة الغاز، لأن العائلة تحتاج من لتر إلى لترين يومياً، أي بكلفة مقدارها بين 15 و30 دولاراً شهرياً تقريباً، بحسب نوع الوقود (بنزين أو كيروسين)، لكن “دفع المبلغ على دفعات أسهل من دفعه مرة واحدة”، قالت حرية العبد التمر، 55 عاماً، من سكان حي غويران بمدينة الحسكة، التي يعمل ابنها في محل لبيع الخضار.
تدرك السيدة الخمسينية مخاطر استخدام “البابور” وتعرف حالات وفاة وإصابة وقعت بمدينتها، لكن “لا خيار أمامنا، ولا قدرة لديّ على دفع ثمن الاسطوانة دفعة واحدة”.
مع غياب البدائل الاقتصادية والآمنة، تضطر هلالة صالحة الشعيبي، 38 عاماً، إلى استخدام “بابور الكاز” في الطهي، ولكنها تحرص دائماً على “وضع قطعة قماش مبللة بجانبي أثناء تشغيل البابور، تحسباً لاندلاع النيران”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.
توفي زوج الشعيبي قبل عدة سنوات، فاضطرت إلى استئجار محل صغير مقابل منزلها، وخصصته لبيع الأحذية، من أجل تأمين احتياجات أطفالها الخمسة ومصاريف المنزل، ويساعدها أيضاً ابنها، الذي يعمل عامل “مياومة” لقاء 30 ألف ليرة يومياً (دولاران تقريباً).
قبل شهرين، كاد أن ينفجر البابور أثناء إعداد الطعام، لكنها تداركت الموقف بـ”استخدام بطانية مبللة وضعتها على البابور”، قائلة: “كانت النيران تخرج من أطراف البطانية، لكنها انطفأت في النهاية”، وانتابَها آنذاك “حالة من الهلع”.
عندما تخرج من منزلها، تحذر الشعيبي أطفالها من لمس البابور أو الاقتراب منه، “لا سيما في أشهر الصيف هذه”، حيث تتخطى درجات الحرارة في مدينة الحسكة حاجز 40 درجة.
أما مروة الناصر، عزفت عن استخدام “البابور” منذ تعرضها للإصابة ووفاة طفلها الرضيع حسين، وعادت إلى استخدام الغاز، مستعينة في تأمين ثمن الأسطوانة بـ”أهل الخير”، قائلة: “لن أخاطر بحياتي وحياة أطفالي مرة أخرى، حتى لو اضطررت أن أشحد المال”.