“المسيرات الانتحارية” تهدد حياة المزارعين في إدلب وتقوض سبل عيشهم
منذ أواخر 2023، بدأ النظام بـ"حرب المسيّرات" مستهدفاً المدنيين في شمال غرب سوريا، لا سيما في المناطق القريبة من خطوط التماس. قيدت "المسيرات" حركة المزارعين وحدّت من وصولهم إلى أراضيهم الزراعية.
21 مايو 2024
إدلب- يمتنع أنور الحلبي، 63 عاماً، عن الذهاب إلى أرضه، الواقعة على خط التماس في قرية الحميدية بمنطقة سهل الغاب في ريف حماة الشمالي الغربي، منذ آذار/ مارس الماضي، بعد أن أصيب باستهداف طائرة من دون طيار، أو ما يطلق عليها “مسيرة انتحارية”، ويخشى أن يكلفه الاستهداف القادم حياته.
في مطلع آذار/ مارس، بينما كان الحلبي يرش محصول القمح في أرضه، الواقعة ضمن مناطق نفوذ هيئة تحرير الشام في شمال غرب سوريا، بالمبيدات الحشرية، راكباً جراره الزراعي، “تعرضت لاستهداف من قبل مسيرة، أدت إلى إصابتي بكسر في الركبة وفقدان جزء من عضلة الساق وانتشرت الشظايا في أجزاء مختلفة من جسدي”، إضافة إلى تأثر سمعه، كما قال لـ”سوريا على طول”.
قبلها بخمسة أيام، تعرض محمد صافي، 58 عاماً، من سكان قرية الدقماق في سهل الغاب، “لإصابات بليغة في معصم يدي ومشط قدمي بعد أن استهدفتني مسيرة انتحارية عندما كنت أقود دراجتي النارية متوجهاً إلى أرضي”، في 25 شباط/ فبراير الماضي.
منذ أواخر عام 2023، بدأ النظام بـ”حرب المسيّرات” مستهدفاً المدنيين في شمال غرب سوريا، لا سيما في المناطق القريبة من خطوط التماس، إذ شهدت المنطقة خلال الأشهر الماضية هجمات متكررة بهذا النوع من السلاح، استهدفت بعضها أهدافاً عسكرية تابعة لهيئة تحرير الشام والمعارضة السورية، وطالت أيضاً مدنيين ومزارعين أثناء وجودهم في أراضيهم، وفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان.
وبذلك، قيدت “المسيرات” حركة المزارعين وحدّت من وصولهم إلى أراضيهم الزراعية، بدءاً من ريف اللاذقية مروراً بسهل الغاب ووصولاً إلى ريف حلب الغربي، وبالتالي قوّضت سبل عيشهم، على حد قول العديد من المصادر التي تحدثت لـ”سوريا على طول”.
نفذت “المسيرات الانتحارية” ما يزيد عن 60 هجوماً منذ مطلع العام الحالي حتى 16 نيسان/ أبريل الماضي، وأودت بحياة 11 شخصاً وإصابة 32 آخرين، بينهم أربعة أطفال وسيدة، بحسب أرقام صادرة عن الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء).
وقال “المرصد أبو أمين 80“، كما يطلق على نفسه، وهو شخص مختص برصد حركة الطيران في المنطقة ويعمل ضمن غرفة عمليات الفتح المبين (تجمع مجموعة من الفصائل)، أن “النظام يستخدم مسيرات انتحارية من نوع (FPV)، المصنعة محلياً، والتي تتميز بصغر حجمها وقدرة مشغلها على رصد الهدف وملاحقته”.
“ويتم تطوير هذا النوع من السلاح في مركز البحوث العلمية في حماة بإشراف خبراء روس وإيرانيين”، كما أوضح أبو أمين لـ”سوريا على طول”، مشيراً إلى أن هذه الطائرات يمكن أن تحلق على ارتفاع لا يزيد عن 30 متراً وتقطع مسافة عشرة كيلومترات في العمق، وقادرة على حمل 1.5 كيلوغراماً من المتفجرات.
وبحسب المعلومات التي يرصدها، فإن الفرقة 25 (قوات خاصة تتبع للنظام السوري)، والحرس الجمهوري، والفيلق الخامس-اقتحام هي الجهات المسؤولة عن استخدام هذا النوع من السلاح، و”تُطلق من الحد الأمامي لخطوط التماس لتصل إلى أكبر مدى في العمق”.
وصف أبو أمين الطائرات المسيرة بأنها “من الأسلحة الخطيرة”، لأن “نسبة الخطأ في إصابتها للهدف قد تكون معدومة مقارنة مع الأسلحة التقليدية”، وهو ما أكده المزارع محمد صافي، قائلاً: “هربت منها مسافة 2 كيلومتر، لكنها استمرت في مطاردتي حتى أصابتني”.
تهديد مصدر العيش
تشكل الزراعة مصدر الدخل الرئيس لسكان منطقة سهل الغاب، إذ تبلغ نسبة العاملين في القطاع الزراعي فيها 30 بالمئة، بحسب تمام الحمود، المدير العام لمديرية الزراعة في حكومة الإنقاذ السورية.
وقد يدفع استمرار هجمات الطائرات المسيرة، المزارعين إلى العزوف عن زراعة أراضيهم على خط التماس، وهذا بدوره يؤثر سلباً على الوضع الاقتصادي والأمن الغذائي لكامل شمال غرب سوريا، لا سيما أن منطقة سهل الغاب وريف حلب الغربي “تعدان من أكثر المناطق خصوبة وإنتاجية للقمح”، كما أوضح الحمود لـ”سوريا على طول”.
نحو 15 ألف هكتار مزروعة بالقمح في سهل الغاب معرضة للتلف نتيجة استهدافات المسيرات، بحسب الأرقام التي حصلت عليها “سوريا على طول” من مديرية الزراعة، ويصل إنتاج هذه المساحة سنوياً إلى ما يقارب 37 ألف طن. أيضاً هناك خمسة آلاف هكتار أخرى مزروعة بمحاصيل الفول والبطاطا والأشجار، تواجه المصير ذاته.
وأبدى الحمود قلقاً من أن تواجه منطقة شمال غرب سوريا “مشكلة حقيقية تتعلق بالغذاء الأساسي للسكان”، إذا استمرت هجمات الطائرات المسيرة ومنعتهم من حصاد محصول القمح الاستراتيجي، لا سيما أن “الاستهداف يتزامن مع تقليص برنامج الغذاء مساعداته إلى شمال غرب سوريا بشكل كبير جداً”.
في مطلع العام الحالي، قطع برنامج الأغذية العالمي، التابع للأمم المتحدة، المساعدات الغذائية العامة عن سوريا، على أن يواصل تقديم المساعدات الغذائية الطارئة لفئات محددة.
ومع اقتراب موعد الحصاد، الذي يبدأ عادة في حزيران/ يونيو من كل عام، لا ينوي صافي المغامرة في الذهاب إلى أرضه لحصاد محصول القمح، رغم أنه دفع 500 دولار أميركي تكلفة زراعة كامل مساحة أرضه البالغة عشرة دونمات.
العزوف عن الحصاد، قد يضع صافي وأمثاله من المزارعين أمام تحديات اقتصادية جمة، قائلاً: “خسارة المحصول ستؤثر على معيشتي، لكن خسارة موسمي أفضل بالنسبة لي من أن أصاب مرة ثانية”.
“سوف أعتمد في تأمين تكاليف معيشتي على خمسة رؤوس من الأغنام لا أملك غيرها حتى الموسم الزراعي القادم”، وفقاً لصافي.
خسارة أنور الحلبي أكبر، عدا عن إصابته الجسدية، تضرر جراره الزراعي بالاستهداف، وتقدر تكلفة صيانته 1500 دولار، على حد قوله، معبراً عن قلقه من عدم قدرته على حصاد محصول القمح المزروع على مساحة 20 دونماً، ما يعني خسارة تكاليف زراعة الأرض، التي بلغت ألف دولار.
“إذا استمرت هجمات المسيرات لن أتمكن من حصاد القمح”، قال الحلبي، الذي يعيل من خيرات أرضه عائلته المؤلفة من خمسة أفراد.
وفي الوقت الذي يعيش المزارعون حالة من الترقب والقلق لحين موعد الحصاد، ويخشون أن تتعرض محاصيلهم للاحتراق نتيجة الاستهدافات المتبادلة بين قوات النظام وفصائل المعارضة، تشيدُ وسائل إعلامية تابعة للنظام بدور الطائرات المسيرة، إذ قالت صحيفة الوطن الموالية لدمشق، في 24 نيسان/ أبريل الماضي، أن “استهدافات الجيش للإرهابيين بالطيران المسير والمدفعية الثقيلة منذ بداية الأسبوع الجاري، شكلت حالة من الرعب في صفوفهم، وحدت من ظهورهم بقطاع سهل الغاب”.
العمل أشبه بالانتحار
في الأعوام السابقة، كان سهل الغاب يكتظ بالآليات الزراعية وورش عمال الزراعة صيفاً، لكن مع حلول هذا الصيف بالكاد يمكن رصد آلية واحدة، بحسب مزارعين تواصلت معهم “سوريا على طول”، لأن من يذهب إلى المنطقة في ظل وجود المسيرات “كمن يضع دمه على كفه”، على حد تشبيه الحلبي، لكن “الحاجة تدفع البعض للمخاطرة، وقد تكون تكلفتها حياته”.
حاول بعض المزارعين الذهاب إلى أراضيهم ليلاً، لأن المسيرات الانتحارية لا تُطلق بهذا الوقت، لكن الحلبي قلل من نجاعة هذا الخيار نظراً لـ”صعوبة تأمين العمال ليلاً وعدم إمكانية الرؤية”.
لا حلّ يجدي مع “المسيرات” إلا “الاحتماء منها، لأنها بمجرد أن ترصد الهدف ستضربه بلا شك”، بحسب تمام الحمود من مديرية الزراعة التابعة للإنقاذ.
لكن إمكانية الاختباء من “المسيرات” في المساحات المفتوحة والطرق الرئيسة “صعبة للغاية”، وفقاً لفاطمة الحسن، 50 عاماً، من سكان قرية فريكة المطلة على سهل الغاب، مشيرة إلى أن زوجها أصيب بطائرة مسيرة أثناء قيادته صهريج مياه على طريق عام في منطقة سهل الغاب، في شباط/ فبراير الماضي.
ألحق الاستهداف أضراراً بصهريج المياه، وهو “مصدر رزقنا الوحيد”، قالت الحسن لـ”سوريا على طول”، مشيرة إلى أن عائلتها تخطت الأزمة بدعم سكان القرية المادي لهم إضافة إلى استدانة بعض المال.
بينما نجا زوج الحسن، فقدت حسنة البكرو، 76 عاماً، ابنها البكر، بعد استهدافه بـ”مسيرة انتحارية مع عمال آخرين”، أثناء عودتهم من العمل قرب تقاد بريف حلب الغربي، في 23 نيسان/ أبريل.
“قتل ابني على الفور، وأصيب عمال آخرون”، قالت الأم التي حاولت حبس دموعها أمام تسعة أحفاد تركهم ابنها لها، وأضافت: “كان عامود البيت ومعيلنا الوحيد بعد الله، ذهب وترك لي أكوام من اللحم كبيرهم لا يتجاوز 12 عاماً”.
كان جهاد العمقي، 41 عاماً، ابن حسنة، عامل مياومة في مجال الزراعة أو البناء، ويتقاضى لقاء عمله بين 150 و200 ليرة تركية يومياً (4.65 و6.20 دولاراً)، بحسب أمه، قائلة: “رغم قلة المبلغ إلا أنه كان يسندنا”، على عكس اليوم “أصبحنا بلا معيل، ولا أعلم من أين أطعم أحفادي”.
عائلة حسنة البكرو واحدة من أصل 500 عائلة يقطنون في بلدة تقاد بريف حلب الغربي، التي تبعد ثلاثة كيلومترات عن قرية بصرطون، الواقعة تحت سيطرة النظام، ما يجعلها عرضة للخطر والاستهداف بالمسيرات الانتحارية، كما أوضح أحمد حمدو بركات، مختار البلدة، لـ”سوريا على طول”.
تعليقاً على ذلك، قالت البكرو: “ليس لدينا خيار آخر، نحن مجبرون على البقاء في بلدتنا، لأن حياة المخيمات صعبة، وليس لدينا قدرة على تأمين إيجار منزل في المدن البعيدة”.
“المسيرات الانتحارية” تهدد حياة المدنيين القريبين من خطوط التماس مع النظام، وتستنزف اقتصاد المزارعين في المنطقة. مقابل ذلك، لا تملك مديرية الزراعة في إدلب إمكانيات لتعويض المتضررين أو الذين قد لا يتمكنون من حصاد موسمهم، بحسب الحمود.
“لدينا بعض المؤن في المنزل تكفينا حتى نهاية الصيف، وبعد نفادها لا أعرف ماذا سأفعل”، قال أنور الحلبي، الذي ليس لديه مصدر دخل آخر غير الزراعة لإعالة عائلته.