المنكوبون يفزعون للمنكوبين في شمال غرب سوريا وسط تخاذل المجتمع الدولي
لأنهم في سباق مع الزمن، شارك المدنيون الناجون من الزلزال في شمال غرب سوريا بعمليات إزالة الأنقاض وأنشطة أخرى للتخفيف عن المنكوبين، دفعهم إلى ذلك الشعور بالمسؤولية تجاه مجتمعهم، وعدم الاستجابة الفورية للمجتمع الدولي.
10 فبراير 2023
إدلب، باريس- بعد دقائق على حدوث الزلزال، الذي ضرب سوريا وتركيا فجر السادس من شباط/ فبراير الحالي، هرع محمد أبو طلال وعائلته إلى أرض زراعية مجاورة، قبل أن يتصدّع منزله، وتتساقط الأبنية من حوله، في مدينة سرمدا بريف إدلب الشمالي.
“أخرجوني أخرجوني” صيحات شاب من بين الأنقاض طرقت مسامع أبو طلال، المهجر من مدينة داريا بريف دمشق، عام 2016، دفعته إلى ترك زوجته وأطفاله الأربعة يفترشون الأرض في يوم ماطر، وبدأ بالبحث عن مصدر الصوت، الذي تبين أنه لجاره سعيد، كما قال لـ”سوريا على طول”.
قبل أن تصل فرق الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) إلى المكان، باشر أبو طلال وشباب الحي بعملية إزالة الأنقاض، مستخدمين أدوات يدوية بسيطة، وتمكنوا من “إخراج ثمانية أشخاص، بينهم ثلاثة أطفال”، منهم “اثنان فارقا الحياة قبل أن نتمكن من إخراجهم”، بحسب أبو طلال، الذي واصل عمله في مساعدة فرق الإنقاذ حتى مساء اليوم التالي للزلزال.
حتى اليوم الخامس من حدوث الزلزال، لم تدخل أي فرق إنقاذ أو معدات من خارج الحدود، باستثناء فريق إسباني، دخل في التاسع من شباط/ فبراير الحالي، وبدأ عمله في اليوم التالي لوصوله، وآخر مصري مكون من 17 عشر شخصاً. إضافة إلى دخول قافلتي مساعدات تابعتين للأمم المتحدة، في التاسع والعاشر من هذا الشهر.
وعليه، وجد المنكوبون أنفسهم أمام واجب “الفزعة” لسدّ هذا الفراغ، والعمل في ميادين عدة، من قبيل: إزالة الأنقاض، وإسعاف المصابين، وتجهيز مراكز الإيواء ووجبات الطعام، إضافة إلى دفن ضحايا الزلزال، الذي أودى بحياة 3384 في عموم سوريا، منهم 2037 شخصاً، في شمال غرب سوريا، وأكثر من 2950 مصاباً، وفق بيان صادر عن الدفاع المدني، بعد مرور أكثر من 108 ساعات على الزلزال.
في غضون أربعين دقيقة، يوم حدوث الزلزال، تشكلت مبادرة شعبية في إدلب، عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومجموعات الواتساب، وصل عدد المشاركين فيها إلى 70 شخص، كما قال حسن الإدلبي، أحد المشاركين فيها لـ”سوريا على طول”، بدأت في عمليات التنسيق بين الداعمين والمتضررين، إضافة إلى نشاطها الميداني.
وأضاف الإدلبي، الذي شارك مع أعضاء في “المبادرة الشعبية” بعمليات الإنقاذ بقرية بسنيا في ريف إدلب، أن “عمليات الإنقاذ منطلقها إنساني، والعمل فيها يشعر الإنسان بقيمة بقائه بين أهله وضمن المناطق المنكوبة”.
“مصيبتنا واحدة”
مع شروق الشمس، في يوم حدوث الزلزال، خرج عبادة، 30 عاماً، المهجّر من ريف دمشق، من مكان إقامته بريف إدلب الشمالي، لمعاينة الأضرار، وكان يتوقع “سقوط بناء أو اثنين، وربما ثلاثة”، لكن عند وصوله إلى ناحية جنديرس، التابعة لعفرين بريف حلب الشمالي، فوجئ بحجم الدمار، الذي “طال أكثر من ثلاثة أرباع المدينة”، كما قال لـ”سوريا على طول”. بحسب إحصائيات المجلس المحلي بجنديرس، أمس الخميس، بلغ عدد الأبنية المدمرة كلياً 257 مبنى، و1100 مبنى متضرر، فيما بلغ عدد الوفيات في جنديرس 756 شخصاً.
كانت فرق الدفاع المدني منتشرة في جنديرس، لكن “حجم الدمار أكبر من إمكانياتهم، والآليات لا تساوي شيئاً أمام هول الكارثة”، لذلك “حاولنا المساعدة قدر المستطاع، رغم أننا لسنا متطوعين مع الدفاع المدني، ولم يسبق لنا العمل في هذا المجال”، بحسب عبادة.
لأنهم في سباق مع الزمن “والوضع لا يُحتمل”، سارع المدنيون المتطوعون، بما فيهم عبادة، إلى شراء معدات يدوية بسيطة، كالمعاول والمهدّات، أو حتى شراء الوقود لتشغيل مولدات الكهرباء، وباشروا العمل بهدف “التخفيف قدر الإمكان عن الدفاع المدني”، وفق عبادة.
استمر عبادة وآخرون معه في العمل لمدة 48 ساعة متواصلة، خلال هذه الساعات “كنا نحاول فعل أي شيء، من إزالة الردم، أو نقل المصابين”، ولم يكن بمقدورهم التفكير بترك العمل من أجل الراحة، فالجميع “كان يعمل على مدار 24 ساعة أملاً بإنقاذ حياة العالقين تحت الأنقاض”.
التطوع في مثل هذه الظروف هو “فزعة” لا تحتاج إلى تدريب، وإنما “المهم أن يكون عندك ثقافة ذاتية بكيفية التعامل مع هذه الظروف”، بحسب محمد أبو طلال، مشدداً على أن “المشاركة في عملية الإنقاذ، واجب إنساني وعلى الجميع أن يتحمل مسؤولياته”، لأن “بلدنا واحد، ومصيبتنا واحدة”.
استنكر عبادة عدم استجابة المجتمع الدولي لنداءات السوريين في التدخل الفوري للمشاركة في إزالة الأنقاض والبحث عن الناجين، قائلاً أن “هناك الكثير من الأشخاص كانوا على قيد الحياة ولكنهم فارقوا الحياة قبل أن نتمكن من إخراجهم”.
من جهته، ثمّن منير مصطفى، نائب مدير الدفاع المدني السوري، جهود المدنيين في هذه الأيام، معتبراً أن “الوضع سيكون كارثياً أكثر بكثير مما هو عليه الآن لولا الحالة الاجتماعية، والتشابك بين المدنيين، وتشكيل فرق تطوعية”.
وأضاف مصطفى في حديثه لـ”سوريا على طول”: “الناس الذين انخرطوا في عمليات الإنقاذ، هم يساعدون في إنقاذ ذويهم، وكانت مشاركتهم فعالة إلى حدّ ما”، لكنها ستكون أكثر جدوى “في حال وجود آليات ثقيلة وأجهزة خاصة بعمليات الإنقاذ”.
في المقابل، تواجه فرق الدفاع المدني بعض التحديات أثناء انخراط أشخاص غير مدرّبين في عمليات الإنقاذ، بحسب مصطفى، لأن الشخص غير المدرب “يشكل خطراً على نفسه وعلى فرق الإنقاذ وعلى العالقين تحت الأنقاض”، لافتاً إلى حدوث “بعض المواقف من هذا القبيل، لذلك يحاول الدفاع المدني أن يحافظ على وجود المدنيين خارج الأماكن الخطرة”.
وتمنى مصطفى على الناس “أن تتعاون معنا وتلتزم بتوجيهاتنا”، خاصة أننا “في وضع يستحيل أن نستطيع تدريب الناس، فالوقت كارثي ولا نملك ترف الحديث عن التدريب”. سبق للدفاع المدني أن نظم دورات تدريبية لمدنيين “وهؤلاء كان لهم دور كبير في الاستجابة للزلزال، سواء في تقديم الإسعافات الأولية أو الإنقاذ”، وفقاً لمصطفى.
الخطوط الخلفية
عادة، تخطف عمليات الإنقاذ وإزالة الأنقاض الأضواء في أي عملية استجابة طارئة أثناء الكوارث، لكنها واحدة من سلسلة كبيرة من الجهود تحتاجها أي منطقة منكوبة، كما في شمال غرب سوريا، بعد حدوث الزلزال، وما تبعه من تشريد الأهالي ونزوحهم إلى مراكز الإيواء.
ريم المصري، 32 عاماً، إحدى طالبات جامعة إدلب المشاركات في حملة تطوعية أطلقتها طالبات الجامعة، للوقوف إلى جانب المنكوبين. منذ اليوم الأول للزلزال بدأت المتطوعات في عملية جمع التبرعات لصالح المتضررين، إضافة إلى نشر أرقام الطوارئ ومراكز الإيواء الجاهزة لاستقبال النازحين على وسائل التواصل الاجتماعي ومجموعات الواتساب، كما قالت لـ”سوريا على طول”.
ومن الأنشطة التي شاركت فيها المصري “تأمين سيارات لنقل الناجين، وتوصيل الملابس والبطانيات إلى أماكن نزوحهم”، إضافة إلى “توصيل الطعام والشراب للمتضررين والمتطوعين”، كما أوضحت.
الدور ذاته قامت به آصال مرشان، 30 عاماً، التي تنحدر من مدينة جسر الشغور بريف إدلب الغربي، التي شاركت في توزيع البطانيات والألبسة على النازحين في مراكز الإيواء بمدينة إدلب، حيث تقيم، إضافة إلى تأمين الطعام للناس الذين يفترشون الشوارع والحدائق.
ما تقوم به مرشان هو من باب “النخوة”، والمشاركة في هذه ظروف “لا يحتاج إلى تفكير أو تدريب”، معتبرة أن الجميع عليهم المشاركة، لأن أي عمل “من شأنه أن يحدث فرقاً في هذا الوضع الكارثي”، كما عبّرت لـ”سوريا على طول”.
لم تفكر مرشان بالمشاركة في إخراج الناس من تحت الركام، “خشية التعامل معهم بطريقة خاطئة”، معبّرة عن رضاها في الجانب الذي تنشط فيه حالياً.
من جهتها، حاولت ريم المصري المساهمة بعمليات إنقاذ الناس من تحت الأنقاض، لكن “الدفاع المدني والجهات المختصة في المنطقة رفضت ذلك، خوفاً من المخاطرة أو أن نتسبب بإعاقة العمل”، بحسب قولها.
أمام كارثة حصدت آلاف الأرواح من السوريين داخل سوريا وفي مكان لجوئهم جنوب تركيا، تبرز مشكلة دفن الموتى كأحد التحديات التي واجهت فرق الدفاع المدني والجهات الأخرى المتخصصة في هذا المجال.
هنا أيضاً، برز دور المدنيين، كما في حالة علي الخلف، 30 عاماً، المقيم في منطقة أطمة على الحدود السورية-التركية، الذي شكّل فريقاً قوامه 15 شخصاً، بينهم امرأتين، وخصصوا جهودهم في مجال حفر القبور، وتأمين المواد اللازمة للدفن، كما أوضح لـ”سوريا على طول”.
ينحدر الخلف من مدينة كفرزيتا بريف حماة الجنوبي، ومنذ قدومه إلى أطمة، عام 2012، يخصص جزءاً من وقته للتطوع في مجالات عدّة، بحسب ما تقتضيه الحاجة، أو بحسب الظرف في المنطقة.
بعد وقوع الزلزال، بدأ الخلف بالنشاط الإعلامي ونقل أخبار الزلزال إلى أهالي المخيم، وتعريفهم بطرق التعامل الصحيحة معه، من قبيل الابتعاد عن الأماكن والأبنية الاسمنتية، ومن ثم انتقل إلى العمل في تقييم الاحتياجات الأولية.
عاين الخلف الأضرار التي حلّت بمدينة جنديرس، على بعد أقل من 7 كيلومترات من مكان إقامته في أطمة، وعندما بدأت عمليات انتشال الجثث فيها، بدأ مع فريقه في حفر القبور لدفن ضحايا الزلزال، مشيراً إلى أن الفريق “دفن أكثر من 400 شخص” حتى مساء أمس الخميس، وأكد أن فريقه “لا يتقاضى أي راتب أو مكافأة مالية من أي جهة”.
مشاهد محفورة في الذاكرة
رصدت وسائل الإعلام المحلية والدولية مشاهد مؤلمة، جراء الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، وكان أثره كبيراً على شمال غرب سوريا المنكوب أصلاً، الذي يقطنه أكثر من أربعة ملايين نسمة، نصفهم نازحون، لكن “من رأى ليس كمن سمع”، وهي عبارة يرددها السوريون، في إشارة إلى أنه لا يمكن لأحد خارج المكان أن يعيش شعور الشخص الذي وقع عليه الحدث أو شاهد العيان في مكان حدوثه.
كثيرة هي المواقف المؤثرة، التي عاشها المتطوعون والمتطوعات، الذين تحدثت إليهم “سوريا على طول” في هذا التقرير، وهي مشاهد لا تمحوها الذاكرة.
الموقف الأصعب، بالنسبة لمحمد أبو طلال، كان عند محاولته إنقاذ صديقه وابن مدينته، الناشط الإعلامي غياث رجب أبو أحمد، كما قال، إذ تمكن من “إخراج زوجته، وهي بدورها أرشدتنا إلى مكان ابنها وزوجها”. واصل المهجر من داريا البحث عن صديقه، وفعلاً “تمكنت من إنقاذ ابنه أحمد، لكن غياث كان مفارقاً الحياة”.
تذكر عبادة مشهداً من جنديرس، في اليوم الأول للزلزال، عندما وصلوا إلى عائلة تحت الأنقاض، فوجدوا “الأب يحتضن زوجته وأطفاله أملاً بحمايتهم من الزلزال، لكنهم فارقوا جميعاً الحياة”، بحسب قوله.
حتى بعد الموت هناك مواقف تكشف عن حجم معاناة المدنيين، في آخر مناطق المعارضة شمال غرب سوريا، كما قال علي الخلف، مستشهداً على ذلك بقصة رجل جاء ليدفن ابنه، الساعة الثانية ليلاً من يوم الثلاثاء، السابع من شباط/ فبراير الحالي.
أخبر علي والد الطفل بأن دفنه بهذه الطريقة لا يصح، ويجبّ أن يُغسّل الطفل ويُكفّن قبل الدفن، فصار الأب يبكي، قائلاً “لا يوجد معي ثمن الكفن”، فتكفل فريق علي بالإجراءات كاملة.
أمام هذا الواقع، تساءلت آصال مرشان “ماذا تنتظرون؟”، موجهة رسالتها إلى المجتمع الدولي والدول المجاورة، قائلة: “أشخاص كانوا على قيد الحياة وماتوا، نحن لا نريد منكم شيء، عندنا أهل وإخوة في الخارج قادرون على دعمنا، لكن اتركوا لنا حرية احتياجاتنا من دون قيود”.