النزاعات العشائرية: بذور ثأر تنمو تحت الرماد وسط محاولات تجديد العرف العشائري
فيما يظهر بعض نتائج النزاعات العشائرية "آنياً"، فإنها عموماً "تؤسس تراكمياً لاقتتالات قادمة، وهو ما يؤدي إلى حوادث ثأر، ويزيد الشرخ في المجتمع"، ناهيك عن "المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تتسبب بها، من قبيل حالات الطلاق، وحرق الممتلكات"
23 نوفمبر 2022
باريس- في العاشر من تشرين الثاني/ نوفمبر، توصل آل “الخليفة النايف” و”الأعضب الحمادة”، من عشيرة الشعيطات ببلدة غرانيج شرق دير الزور، إلى صلح عشائري بينهما، بعد قضية ثأر وقعت قبل أكثر من 25 عاماً، وتم الصلح بجهود عدد من شيوخ ووجهاء المنطقة الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
وفيما انطفأت جذوة النزاع العشائري في دير الزور، اشتعل نزاع عشائري في مدينة إنخل بريف درعا الشمالي، الواقعة تحت سيطرة النظام، على خلفية مقتل الشاب رامي الواكد، في السابع من الشهر الحالي، على يد “خفافيش الليل وقطاع الطرق من آل الدوخي“، كما جاء في بيان لعائلة العيد، قالت فيه: أن “آل المغدور رامي عوض الواكد وآل العيد كافة، نعلن بأن كل من شارك بالغدر هو هدف مشروع لنا، وكل من يأوي أحداً من المجرمين هو شريك معهم”.
جاء البيان بعد مقتل الشاب رامي على يد مجهولين، لكن عائلته اتهمت شباناً من عائلة الدوخي بالوقوف وراء العملية، إذ بدأ الخلاف بين أطفال من العائلتين، ليتطور إلى مشاجرة بين شبان من العائلتين، وصولاً إلى اعتداء عناصر يتبعون لمجموعة القيادي عبد الحكيم الواكد، متزعم مجموعة عسكرية بالمدينة تتبع للواء الثامن، الذي يقوده القيادي السابق في المعارضة أحمد العودة، بالضرب على شاب من آل الدوخي، ومن ثم مقتل الشاب من عائلة الواكد.
وفي أعقاب حادثة قتل الشاب رامي، أحرقت مجموعة الواكد أكثر من عشرة منازل، ومعمل للرخام في المدينة تعود ملكيتها لعائلة الدوخي، الذين غادروا المدينة إلى مكان مجهول.
تمثل هاتين الحادثتين مثالاً عن الصلح والنزعات “العشائرية” في سوريا، وحادثة إنخل واحدة من أصل 46 حادثة خلاف وصلح عشائري، رصدتها “سوريا على طول”، منذ مطلع 2022 في سوريا، منها 29 حادثة في شمال وشرق سوريا تم توثيق أطرافها، تعكسان صورة الخلافات العشائرية، التي تُحل عبر شيوخ ووجهاء تقليدين ورجال دين، وفقاً للأحكام الدينية والأعراف والتقاليد العشائرية السائدة.
وبعد أكثر من أحد عشر عاماً على اندلاع الثورة السورية، يحاول بعض شيوخ العشائر تجديد الأعراف والأحكام العشائرية بما يتناسب مع الأوضاع الراهنة وإفرازات الحرب في سوريا.
أسباب النزاعات العشائرية
بعد سنوات من الحرب، وتغيّر خريطة السيطرة العسكرية في سوريا، وما نتج عنها من آثار اقتصادية واجتماعية وأمنية، تصاعدت الاقتتالات والخلافات، ذات الطابع العشائري، في مجتمع تشكل العشائرية ركن أساسي في معظم محافظاته.
يؤكد ذلك، طبيعة القضايا والخلافات العشائرية، التي عمل الشيخ حسن الخمري، من عشيرة الناصر قبيلة الولدة، المقيم بمدينة الطبقة، التابعة لمحافظة الرقة شمال سوريا، رفقة شيوخ ووجهاء آخرين في المنطقة، من قبيل “نزاع تطور إلى عملية قتل بسبب تأييد شخص للنظام، بعد أن أهدر دمه، لأنه شبيح بمفهوم الفصائل”.
كذلك، كان للخمري ووجهاء آخرين جهوداً في حل نزاعات انتهت بعمليات قتل “نتيجة خلاف على أرض أو عقار، وأخرى بعد خروج فصائل الجيش الحر من المنطقة ودخول تنظيم الدولة، تمت على إثرها التصفية بحجة الكفر والردة”، وغيرها الكثير من النزاعات التي تتطور لتأخذ “طابعاً عشائرياً، كون منطقتنا منطقة عشائرية”، كما قال الشيخ الخمري لـ”سوريا على طول”، مشيراً إلى أن الخلافات العشائرية “زادت بعد طرد داعش بشكل كبير”.
بدوره، أرجع أبو علي، أحد وجهاء مدينة إنخل بريف درعا، زيادة الخلافات العشائرية جنوب سوريا، مقارنة بما كانت عليه قبل الحرب، إلى “فوضى السلاح، الذي بات بمتناول الجميع وبسهولة”، إضافة إلى “غياب القانون، وسوء الحالة النفسية لدى الناس، خصوصاً الشباب، نتيجة الحرب وما نتج عنها من آثار سلبية”.
وقال أبو علي لـ”سوريا على طول” شريطة عدم الكشف عن هويته لدواع أمنية، أن “البعض وجد في الفلتان الأمني خلال سنوات الحرب، وخصوصاً بعد المصالحة، فرصة لأخذ ثأره وتصفية حساباته وتفريغ حقده”.
واستدل أبو علي على ذلك بحوادث “ثأر”، نفذها شبان مراهقون مستغلين انتشار السلاح في أعقاب اندلاع الثورة السورية، رداً على عمليات قتل “وقعت في وقت لم يكن بعض هؤلاء مولودين أصلاً”، على حد قوله.
وفي ذلك، أوضح الشيخ حواس الجاسم (أبو كسار)، ممثل بلدة الباغوز وماحولها، وأمين سر تجمع عشائر البوكمال جزيرة، وجود “خلل كبير في مفاصل العشائر، شرق الفرات وغربه، منذ بداية الأحداث، وكان لذلك تأثير كبير على المجتمع العشائري بشكل عام”، إذ كان يوجد سابقاً “مرجعيات عشائرية كبيرة تتحكم بمفاصل العشيرة، وأي خلاف عشائري يرد إليها ويحل بالطرق المرسومة للعشائر، سواء عن طريق العرف أو الشرع أو التقاليد، لكنها لم تعد موجودة اليوم”.
وأسهم “التقزيم العشائري”، كما وصفه الجاسم، في حديثه لـ”سوريا على طول”، في زيادة النزاعات العشائرية، إذ كان “شيوخ ووجهاء عشائر يتحكمون بأفراد العشيرة سابقاً، لكن الآن هناك انفلات في قيادة العشائر”، إضافة إلى “وجود أيادٍ خارجية تلعب بمفاصل العشائر من دول الجوار، وتحاول التحكم بشيوخ العشائر، من أجل زعزعة الاستقرار ومنع التلاحم العشائري”.
ونتيجة لهذا الخلل “صار الثأر العشائري يُؤخذ بطريقة عشوائية وهمجية، وسط غياب السلطة الرادعة بشكل حقيقي، وهو ما أعطى ضوءاً أخضر لفئة الشباب، الذين لا يسمعون للسلطة أو العشيرة”، وفقاً للشيخ الجاسم.
في هذا السياق، قسّم الصحفي والمدون السوري سلطان الكنج، المهتم بشؤون العشائر السورية، أسباب النزاعات ذات الطابع العشائري، إلى أسباب ذاتية تتعلق بالبنية العشائرية، وأسباب خارجية تتعلق ببيئة السلطات المحلية في مناطق النفوذ الأربع؛ النظام السوري، قسد، هيئة تحرير الشام، والجيش الوطني (المعارض).
أما فيما يتعلق بالبنية العشائرية في قضايا الثأر والعصبية القبلية “يأخذ الإنسان ثأره، ولا يسكت عن حقه، وهي سمة من سمات الشجاعة في المجتمعات العشائرية”، كما قال الكنج لـ”سوريا على طول”، وعدم قيامه بذلك قد “يعدّ جبناً، لذلك عليه أن يتبنى الرؤية والسلوك العشائري، ومن دون ذلك قد يقع في إشكالات اجتماعية، كأن يُرفض تزوجيه”.
يضاف إلى ذلك، التنافس العشائري، بين عشائر مختلفة أو داخل العشيرة نفسها، أي بين أفخاذ العشيرة، ما يضع الشخص “متأهباً لأي حدث بسيط أو اقتتال”، وفقاً للكنج، مشيراً إلى أن بعض العشائر “جرّت خلافاتها إلى السلطات المحلية، عبر التحاق العشائر بفصائل عسكرية أو أطراف صراع مناوئة لخصومها”.
وأسهم ضعف السلطات المحلية، وسط كثرة السلاح منذ اندلاع الثورة، في “زيادة النزاعات ذات الطابع العشائري”، بحسب الكنج، إذ “عندما يحمل الجميع سلاحاً، فهذا يعني أن أي خلاف صغير قد يتحول إلى اقتتال، والقتل يولّد قتلاً مقابلاً عبر ما يُعرف بالثأر”.
تصاعد النزعة العشائرية
عادة ما يكون شيوخ العشائر والوجهاء بمثابة صمام أمان في المجتمعات العشائرية، ولهم الدور الأبرز في إنهاء النزاع، عبر تشكيل وفد عشائري للذهاب إلى أهل المجني عليه، مقابل “تقديم تسهيلات من شيخ عشيرة المجني عليه للتفاوض مع أهل القتيل بشكل مباشر لحل الخلاف ودفع الدية في حالة الدم”، وفقاً للشيخ رمضان الرحال، شيخ عشيرة العلي، قبيلة الولدة.
لكن، قد تتوسع دائرة الصراع العشائري إذا امتد لعشيرة ثالثة، بسبب ما يعرف بـ”تقطيع الوجه”، أي عندما يلجأ القاتل إلى عشيرة ما، فيما يعرف بـ”الدخالة”، ويقوم شيخ أو وجيه من تلك العشيرة بإدخال القاتل وأهله في حمايته “كنوع من أنواع التقاليد العشائرية”، وبالتالي تصبح مسؤولية الدّخال أن لا يتعرض أحد لأهل القاتل من أهل المقتول، “وفي حال وقع شيء لدخلائه من حقه أن يشارع أهل القتيل شرعة عرب ومطالبتهم بحقه بعد أن قطعوا وجهه، وفي بعض الحالات يتطور ذلك إلى نزاع جديد”.
لكن، بعد اندلاع الثورة السورية في ربيع 2011، التي تحولت إلى حرب ضربت المجتمع السوري، شهدت سوريا “عودة كبيرة إلى النزعة العشائرية، وزيادة شعور الانتماء العشائري”، كما قال الشيخ حسن الخمري، معتبراً أن ذلك “رد فعل طبيعي في ظل تبدل السلطات المسيطرة، وبحث الفرد عن الشعور بالأمان عبر الانضمام إلى تجمع أو كتلة تحميه”.
تأكيداً على ذلك، قال الشيخ الرحال أن “الحوادث ذات الطابع العشائري ارتفعت بعد الأزمة السورية في الرقة، بنسبة زيادة تصل 75% من وجودها قبل الحرب”، بحسب تقديره.
واتفق الشيخ حواس الجاسم مع ذلك، مشيراً إلى أن “الارتفاع صار أكثر وضوحاً بعد عام 2019، أي في أعقاب طرد تنظيم الدولة من المنطقة”، وهذا ولّد “ضعطاً كبيراً على شيوخ العشائر والخيّرين من أبناء المنطقة”.
لكن النزعات العشائرية الأخيرة “أظهرت بعض الأفعال غير المنسجمة مع القوانين المدنية المعمول بها سابقاً”، وفقاً للشيخ الخمري، من قبيل “ازدياد ظاهرة الثأر، حمل السلاح، كثرة النزاعات الفردية التي تحولت إلى اقتتالات عشائرية”، إضافة إلى “ظهور مجموعات تحريضية على وسائل التواصل الاجتماعي، وبروز ظواهر اجتماعية دخيلة على المجتمع، كظاهرة تعاطي المخدرات، وما نتج عنها من إشكاليات وأعمال غير قانونية تصل إلى حد الجرائم”، على حد قوله.
تجديد الميثاق العشائري
اعتادت العشائر على “اتخاذ إجراءات العطوة والجاهة والصلح في أغلب القضايا، لكن تزداد أهميتها في القضايا الكبيرة، كتلك المتعلقة بالعرض والقتل وتقطيع والوجه واختراق حرمة البيت”، بحسب الشيخ حسن الخمري، مشيراً إلى ضرورة “القيام بإجراءات عاجلة لتطويق النزاعات ووقف ردود الفعل في مثل تلك القضايا”، لأن “الإخلال في اتباع الأعراف قد يؤدي إلى مزيد من المشاكل والتعقيدات”.
تبدأ إجراءات الصلح بـ”اتصالات أولية” تفضي إلى الموافقة على العطوة واختيار أعضاء الجاهة، ومن ثم تبدأ إجراءات الصلح العشائري، عبر “اتصال كبير الجاهة مع شيخ عشيرة المجني عليه أو ممثلاً عنها”، ويبقى الضغط مستمر على أقارب المجني عليه “حتى يقبلوا بمبدأ إجراء الصلح”، وفقاً للخمري.
عندما يشعر الوسطاء بوجود نية الصلح “يخبرون عشيرة الجاني، لتقوم بدورها في اتخاذ التدابير اللازمة”، وبعد ذلك “تؤلف هيئة الصلح (الجاهة) من وجهاء القوم، الذين يجرون اتصالات مع وجهاء آخرين لتحديد مكان وزمان التجمع والانطلاق”، كما أوضح الشيخ الخمري.
وعند الوصول إلى مرحلة التقاضي، التي تتم عبر “تشكيل لجنة تحكيم أعضاؤها من أهل القدرة والكفاءة على إيصال الحقوق، ويتمتعون بمصداقية وثقة بين الطرفين المتنازعين”، أو من خلال “قبول الطرفين المتنازعين بالذهاب إلى التقاضي عن طريق محكم شرعي بموجب القرآن الكريم يقضي بما أنزل الله”، أو قبول الطرفين بـ”حل يكون متفق عليه من قبل الوسطاء الذين قاموا بدور الوساطة”، بحسب الشيخ الخمري.
بعد عقد الصلح المبرم بين الجاني والمجني عليه أو ذويه، والاتفاق على مبلغ محدد مساوٍ لقيمة الدية المقررة، وإحضار الجاني وتصافح العشيرتين، يجري تعيين كفلاء الصلح، وتبدأ الجاهة بتنظيم صك الصلح مذيلاً بتوقيع الطرفين والجاهة والكفلاء والشهود الحاضرين، قال الشيخ الخمري، مؤكداً أن “صك الصلح هو الوثيقة المكتوبة الخاصة بالإجراءات الكفيلة بإنهاء القضية عشائرياً، وإسقاط كافة الحقوق الشخصية والمدنية لدى المحاكم”.
حالياً، صارت قرارات الصلح العشائري “تنشر عبر الإنترنت وفي الصحف ومجالس الحكم العشائري، خلاصتها أن صك الصلح هو عقد ينص فيه على انتهاء الخلاف وحالة العداء والصراع القائمة بين الطرفين بسبب الجريمة”، كما بيّن الشيخ الخمري.
ويستند الصلح العشائري على “الشرع كحل رئيسي لا يعلو عليه بين الأطراف المتخاصمة، إضافة إلى بعض الأعراف والتقاليد، ويكون ذلك بحضور لجان شرعية من نسيج عشائري، لديهم الخبرة والعلم الكافي لحل الخلافات”، كما قال الشيخ حواس الجاسم.
لكن، نظراً للمتغيرات والتطورات المرتبطة بازدياد الأعداد السكانية في المدن، يتعين إعادة النظر في ميثاق الصلح العشائري الحالي، الذي ينضوي تحته بعض الأعراف القديمة، من قبيل إجلاء أقارب المعتدي للجد الخامس، ما يعني “طلب إجلاء أكثر من ألفي شخص أحياناً”، بحسب الخمري، مشيراً إلى “وجود محاولات لتحديث هذا الميثاق من قبل شيوخ العشائر”.
وفي هذا السياق، عُقد أكثر من لقاء “على مستوى عشائر الرقة والطبقة”، على أن “ينبثق عن الاجتماعات لجنة مصغرة مكونة من قبل شيوخ العشائر أنفسهم، حقوقيين، رجال دين، وبعض الوجهاء”، تكون مهمة هذه اللجنة “اقتراح الميثاق العشائري المعدل وصياغته وعرضه على شيوخ العشائر في اجتماعات تنسيقية مشتركة في الرقة والطبقة”، كما أوضح الشيخ الخمري.
تالياً، تُعقد اجتماعات مع العشائر، التي تملك نفوذاً في المنطقة، من أجل “عرض الميثاق المعدل عليهم وأخذ الآراء والمقترحات من قبل شيوخ العشائر”. ومن ثم “نعقد اجتماعاً لشيوخ العشائر مع وسائل الاعلام المحلية للإعلان عن الميثاق العشائري الجديد وتوزيعه على عشائر المنطقة وإعلان العمل به والالتزام به”، وفقاً للشيخ الخمري.
ورغم أن الأحكام العرفية المتبعة عشائرياً “ليست دستور، فإنها بمثابة قانون يلزم الجميع الاعتراف به”، بحسب الصحفي سلطان الكنج، معتبراً أن “الأحكام العشائرية ساهمت بشكل كبير في إنهاء النزاعات، لأنها أحكام اعتبارية توافقية، والمجتمع العشائري متفق عليها”. هذه الأحكام تتناول كل قضية بالتفصيل، فلكل حادثة قتل عقوبتها وديتها المحددة، فعقوبة القتل العمد تختلف عن القتل دفاعاً عن النفس، والتمثيل بجثة المقتول له أحكام وأعراف مختلفة، وفقاً للكنج.
وأوضح الكنج أن “القانون العشائري كان سائداً عند النظام السوري، والأخير يعترف به ويحتكم إليه، ويشكل لجاناً عشائرية لتبتّ في بعض القضايا”، واليوم يتكرر ذلك عند سلطات الأمر الواقع، التي “تعترف بالقوانين العشائرية، وتشكل لجاناً من الوجهاء لتحكم بين الناس”.
قانونياً “المحاكم السورية غير ملزمة بصكوك الصلح العشائري”، وفقاً للمحامي سليمان القرفان، نقيب المحامين السوريين الأحرار سابقاً، مشيراً في حديثه لـ”سوريا على طول” أن “الدستور السوري لا يلزم القضاء السوري بالاحتكام للصكوك العشائرية، وترك تقديرها لمحكمة الموضوع، فيمكن الأخذ به أو إهداره”.
لكن، ما جرى عليه العرف في الحاكم السورية “تضمين المحكمة للصك في فقراتها، إذا لم يكن في الصك ما يخالف النظام العام، أي تأخذ المحاكم بصك الصلح في حال اقتنعت به، وتنفذه بصيغة قرار صادر عنها” بحسب القرفان، لافتاً إلى أن المحكمة تعتبر الصك بمثابة “إسقاط الحق الشخصي، وتحصر مطالبات الخصوم في الدعوى القضائية بما ورد في الفقرات الحكمية بالصك”، لكن الحق العام “يبقى قائماً وتحكم المحكمة به وفقاً لمعطيات القضية”.
استخدام النظام للعشائر
مع انهيار “منظومة الدولة” في أعقاب الثورة السورية، ووجود أربع سلطات أمر واقع على التراب السوري، “بدأت هذه السلطات تعتمد في قواتها وتشكيلاتها وهيكليتها العسكرية على الولاءات العشائرية والشبيحة”، بحسب الباحث في شؤون العشائر السورية، صخر فيصل العلي، المقيم في ألمانيا.
اعتمد النظام السوري على “الفصائل العشائرية وشيوخ العشائر، ومناطق العشائر من أجل تأمين مؤسسات الدولة وتأمين مرور المحروقات والأسلحة وغيرها”، وفي إطار ذلك “دعم عشائر معينة على حساب أخرى، وهو ما تسبب بنوع من تغذية النزاعات العشائرية”، كما قال العلي لـ”سوريا على طول”.
على سبيل المثال، دعم النظام السوري آل قاطرجي، من قبيلة النعيم، وجعل منهم شيوخاً عشائريين “للسيطرة على القرار العشائري في العشيرة ومناطق تواجدها في شمال ووسط سوريا، ودعم أنشطة النظام”، وهو ما كرره أيضاً في “دعم أشخاص من عائلة البشير من قبيلة البقارة، ووجههم ضد أبناء القبائل التي ترفض وجود النظام بالمنطقة”، كما “دعم عائلة البري في حلب ضد عائلات أخرى من عشيرة البقارة في المدينة لتحقيق مصالح ميلشياوية للنظام وإيران”، وفقاً للعلي.
سياسة النظام في كسب العشائر، اتبعتها طهران في سوريا، إذ “دعمت عشائر معينة مثل البقارة والبوشعبان والبري، والعساسنة في بعض المناطق”، بحسب العلي، مشيراً إلى أن هذه السياسة “أسفرت عن خلق دولة داخل دولة، وأدت إلى تطور أي خلاف بين قبيلة وأخرى أو قبيلة ومؤسسات النظام العسكرية والأمنية إلى اشتباكات مسلحة ونزاعات عشائرية”.
ورغم استخدام النظام للعشائر، فإن أجهزته تتأخر في التدخل حال وقوع نزاع عشائري، كما في مدينة إنخل شمال درعا، إذ بحسب الوجيه أبو علي، منذ توقيع التسوية (المصالحة) في صيف 2018، يتدخل النظام متأخراً “بعد وقوع الاقتتال العشائري وما ينتج عنه من قتل وحرق للمنازل والممتلكات”.
واستدل أبو علي على ذلك، بالخلاف بين عائلتي العيد والدوخي، عندما وُجهت أصابع الاتهام إلى عائلة الدوخي، فكان “يتوجب علي الشرطة والأمن تطويق منازل المتهمين وإلقاء القبض على الجاني، لكنهم فضلوا النأي بالنفس حتى انتهاء فورة الدم، ومن ثم بدأوا التحقيق في الحادثة والبحث عن الجاني”.
وحذّر أبو علي من أن يسهم النظام، الذي يدعم بعض الأشخاص في درعا، ويمدّهم بالسلاح “لتنفيذ مهام قذرة من اغتيالات وعمليات خطف وسرقة، في إثارة سياسته النزاعات العشائرية بين عائلات المدينة والعائلات التي ينتمي إليها هؤلاء”، كما قال أبو علي.
العلاقة بين سلطات الأمر الواقع والعشائر
في شمال شرق سوريا، شكّلت الإدارة الذاتية “لجان صلح ومجالس صلح، كما شكلت في الفترة الأخيرة مجلس أعيان مؤلف من شيوخ ووجهاء المنطقة، مهمته الوقوف على جميع القضايا والنزاعات وحلها”، بحسب الشيخ حسن الخمري، مشيراً إلى أن “القضاء ومجلس العدالة التابع للإدارة الذاتية يأخذ بعد ذلك صك الصلح الذي يصدر من شيوخ ووجهاء المنطقة” للعمل بموجبه.
ولفت الخمري إلى “وجود تعاون وانسجام بين الادارة الذاتية بكل مفاصلها السياسية والإدارية والقضائية وحتى العسكرية مع شيوخ ووجهاء المنطقة، الذين لهم كامل الصلاحية والحرية المطلقة بفض وحل النزاعات بكافة أصنافها”.
إضافة إلى لجان الصلح التي ساعدت الإدارة الذاتية في تشكيلها، المكونة من قاضٍ عشائري، أو ما يعرف بقاضي الصلح أو “العارفة”، ومحامين وشيوخ ووجهاء، شكلت الإدارة الذاتية “لجنة الصلح العامة في مدينة الرقة”، وتتمثل مهمتها في “تذليل الصعوبات وحل المشاكل العشائرية بعد أن يتقدم إليها شيوخ العشائر رفقة لجان الصلح عندما تصل الأمور إلى طريق مسدودة”، كما قال الشيخ رمضان الرحال، مشيراً إلى وجود جهود بنزع الاقتتالات والمشاحنات “عبر اللقاءات والندوات التوعوية، ودمج أبناء العشائر من خلال الأحزاب والتعليم والندوات الفكرية والاختلاطات العشائرية”.
اتفق الشيخ حواس الجاسم مع ذلك، مؤكداً أن “الإدارة الذاتية تشرف وتراقب عن كثب أي خلاف أو اقتتال عشائري، وتتواصل مع الشيوخ والوجهاء بشكل مباشر، لكننا نلاحظ أحياناً تفاديها التدخل في الاقتتالات العشائرية إلا حين الطلب منها”، عازياً سياسة الإدارة الذاتية في النأي بالنفس “حتى لا تحدث تجاذبات بينها وبين عشيرة على حساب عشيرة أخرى”.
وفيما تحكم العشائرية أرياف دير الزور، الواقعة تحت سيطرة قسد، تغيب سلطة القضاء عن المنطقة، إذ “لا يوجد قضاء حقيقي ومحاكم قضائية صارمة تعالج هذه القضايا وتردع الخلافات في المنطقة”، وفق الجاسم.
لكن هذا لا ينفي “ضبط قوات سوريا الديمقراطية المكون العشائري إلى حد ما”، مستخدمة “شيخ شمر حميد دهام الجربا، الذي عينته حاكماً لمنطقة الجزيرة السورية، بشراكة منفعية مصلحية بينهما”، وفقاً لصخر فيصل العلي.
وفي قطاع منبج شرق حلب، التابع لسيطرة قوات “قسد”، تمكنت الأخيرة من “حل الفصائل العشائرية وتسريح جزء كبير من قياداتها ومن ثم دمجها ضمن قواتها العسكرية، مثل فصيل جند الحرمين، وفصيل صقور الرقة، وتم احتوائهما في منظومة قسد العسكرية بعد أن كانوا أجنحة عسكرية لبعض العشائر”، بحسب العلي.
مقابل ذلك، “لعب شيوخ العشائر في مناطق قسد دور الوساطة بشكل أكبر مما هو عليه الحال في مناطق النظام، الذين صار دورهم تحقيق مصالح الأخير”، كما قال العلي، ومع ذلك اعتبر “شيوخ العشائر أدوات تبحث من خلالهم سلطات الأمر الواقع عن شرعيتها أو توظفهم لصالحها وصالح قراراتها السياسية”.
أما في شمال غرب سوريا، الخاضع لسيطرة هيئة تحرير الشام، تمكنت الأخيرة من بناء تجربة “مؤسّسية ومنظمة في التعامل مع العشائر، لكنها مقننة بشكل يخدم تحرير الشام على وجه الخصوص”، إذ استطاعت “الهيئة” استقطاب القبائل السورية عبر “أشخاص تقوم بصناعتهم، من غير الشيوخ التاريخيين”، بحسب العلي.
وفي أواخر عام 2018، شكلت الهيئة “مجلس القبائل والعشائر العربية” في إدلب، ومنحته تمثيلاً بثمانية أعضاء في مجلس الشورى العام لتحرير الشام، يتم تعيينهم، من قبل مسؤول ملف العشائر في الهيئة، ومن ثم شكلت لجان صلح تتبع لهذا المجلس، مهمتها الإصلاح بين الناس، وفي آذار/ مارس 2020 شكلت مجلس الصلح العام، وهو كيان ينافس مجلس العشائر والقبائل العربية في حل المشاكل وإصلاح ذات البين، وفقاً للعلي.
وفي مناطق نفوذ الجيش الوطني، شمال غرب سوريا، المدعوم من تركيا، تحاول المعارضة العسكرية والسياسية “استقطاب العشائر لصفوفها بتوجيه ودعم تركي”. وبناء على ذلك، شُكل مجلس العشائر والقبائل السورية بتركيا، في كانون الأول/ ديسمبر 2017، ومن ثم انتقل إلى مدينة اعزاز شمال حلب، في كانون الأول/ ديسمبر 2020.
واستُثمرت العشائر “لأهداف سياسية تركية”، بحسب العلي، لا سيما في منطقة تعتبر فيها كثير من الفصائل العسكرية بمثابة “أذرع وأجنحة عسكرية لبعض القبائل والعشائر السورية”.
ومثال ذلك، فصيل أحرار الشرقية، التابع للجيش الوطني، الذي يعد جناحاً عسكرياً لعشيرة البقارة، وفصيل جيش الشرقية، جناحاً عسكرياً لعشيرتي العكيدات والبوشعبان، ولواء صقور الشمال وفصائل أخرى تعد أذرعاً لقبيلة النعيم، ما يعني أنه “بمجرد حصول أي خلاف بين فصيلين يتم زج القبائل والعشائر بهذا الخلاف”، كما قال العلي.
وحدث ذلك في خلاف وقع بمدينة رأس العين، شمال الحسكة، الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني، بين فرقتي السلطان مراد والحمزة من جهة، وجيش الشرقية من جهة أخرى، “تطور الاقتتال ليصبح بين عشيرتي العكيدات والموالي، وهنا تدخلت قبيلة البوشعبان لفض النزاع كقوة عسكرية، بينما لم تستطع فصائل عسكرية الدخول لفض النزاع بوصفها كيان عسكري”، وفقاً العلي.
وكذلك، استخدم الجيش الوطني العشائر “لإصدار بيانات ضد هيئة تحرير الشام، شمال حلب، والزج بها في مواجهتها”، كما أوضح العلي. في المقابل “استخدمت الهيئة السياسة نفسها، وأجبرت العشائر على إصدار بيانات مؤيدة لها، وهو ما تسبب بخلق توتر بين أبناء القبيلة والعشيرة الواحدة”.
بدا واضحاً استقطاب العشائر منذ عام 2017، بهدف حصول أطراف الصراع “على شرعية سياسية أمام الجهات الأخرى”، لكن الخاسر الأكبر من هذا الاستقطاب هو “أبناء القبائل والعشائر”، بحسب العلي.
إضافة إلى الاستقطاب، قد تحفّز سلطات الأمر الواقع في سوريا الاقتتال بين العشائر، إذا انضم شخص جاني لسلطة معينة، كالجيش الحر أو قسد أو غيرهما من أطراف النزاع، ما يدفع عشيرة المجني عليه إلى “الانضمام لطرف مناوئ أو فصيل آخر منافس، وهذا يعزز خلافات أكبر بين العشائر”، كما قال الصحفي سلطان الكنج.
لكن أيضاً، تشترك السلطات الأربع: النظام، هيئة تحرير الشام، الجيش الوطني، وقسد، في “تشكيل لجان لحل الإشكاليات مع الوجهاء والعشائر الذين يرتضيهم طرفي النزاع، وتلتزم جميع السلطات بالعرف العشائري”، بحسب الكنج.
وأحياناً، تلعب هذه السلطات في التوازنات العشائرية “من أجل تحقيق مصالح قياداتها أو للتغطية على فسادها أو مشاكلها، وبذلك تكون مسؤولة عن تنمية النزاعات العشائرية بشكل مباشر أو غير مباشر”، كما أوضح الكنج.
مستقبل الخلافات العشائرية
جبّ الصلح بين آل “الخليفة النايف” و”الأعضب الحمادة” خلافاً عمره 25 عاماً، وتمثل المشكلة ذاتها أو الصلح مثالاً للخلافات العشائرية التي لا يطويها الزمن، إلا بدم مقابل دم، أو صلح عشائري ينهي الخلاف.
وتلعب النزاعات العشائرية “دوراً سلبياً” يهدد السلم الأهلي، لكنها “تشكل خطراً أكبر على المستوى البعيد، لأنها تزرع فتنة عشائرية في عقول الأجيال القادمة تؤدي إلى عدم استقرار المنطقة”، بحسب الشيخ رمضان الرحال، ما يعني أن خطر النزاعات العشائرية تعاظم بعد عام 2011، نظراً للزيادة في حوادث النزاعات العشائرية وضعف الجهود الرامية للحد منها أو للصلح بين المتخاصمين.
وفي ذلك، قال الصحفي سلطان الكنج أن “أي اقتتال داخل العشيرة نفسها أو مع عشيرة أخرى ليس اقتتالاً لحظوياً، وإنما هو خلاف يؤدي إلى اقتتال ومن ثم صلح”، مبيناً أن “هذا الصلح هو فتنة تحت الرماد، سوف يتحول يوماً ما إلى اقتتال جديد”.
وفيما يظهر بعض نتائج النزاعات العشائرية “آنياً”، فإنها عموماً “تؤسس تراكمياً لاقتتالات قادمة، وهو ما يؤدي إلى حوادث ثأر، ويزيد الشرخ في المجتمع”، ناهيك عن “المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تتسبب بها، من قبيل حالات الطلاق، وحرق الممتلكات”، وفقاً للكنج، مشيراً إلى أن حرق الممتلكات “لا يحسب من الدية، وإنما يعدّ فورة دم، ولا تدخل في التعويض”.
وعليه، فإن “كل نزاع أو اقتتال يحدث اليوم، هو بمثابة قنبلة موقوتة اجتماعياً، تنذر بإشكالية أكبر في المستقبل”، بحسب الكنج.
في المقابل للمجتمع العشائري جانب مشرق، يتمثل في كونه “متماسكاً، ولديه تقدير للوجهاء والشيوخ داخل العشيرة وخارجها”، كما أوضح الكنج، إضافة إلى وجود دور كبير لشيوخ العشائر في “حقن الدماء ودفع الديات وتسكين المشاكل ووأد الفتنة وإنهاء قضايا الثأر وغيرها”.