“الوكالة القانونية”: سلاح آخر لحرمان المهجّرين السوريين حق التصرف في ملكياتهم العقارية
إذا كان قرار حكومة دمشق فرض "موافقة أمنية" على أي معاملة عقارية في سوريا يمس جميع المواطنين السوريين داخل سوريا وخارجها، فإن القرار أشد خطورة على "كل معارض للنظام أو مهجر أو مغترب".
18 مايو 2021
عمان- تبددت آمال أبو أحمد بالتصرف في أملاكه وعقاراته في مدينة حمص، وسط سوريا، بعد رد وزارة الداخلية السورية، مطلع أيار/ مايو الحالي، بـ”عدم الموافقة” على وكالة تقدم بها عبر قنصلية دمشق في اسطنبول لتوكيل قريبٍ له لإدارة عقاراته التي “كانت قيمتها نحو عشرة ملايين دولار أميركي قبل اندلاع الثورة السورية”، كما قال لـ”سوريا على طول”.
وعدا عن أنه لن يتمكن “من بيع أو تأجير عقاراتي”، فإن عدم الموافقة على الوكالة “لأسباب أمنية”، كما جاء في الرد بحسب أبو أحمد، النازح إلى محافظة إدلب، شمال غرب سوريا، يعني “تعطيل وعرقلة مصالح شركائي في بعض العقارات”. موضحاً أن تلك العقارات كانت تعود بنحو “10 آلاف دولار شهرياً” قبل 2011.
نزح أبو أحمد عن حمص في السنوات الأولى للثورة السورية، قاصداً مناطق المعارضة في شمال غرب البلاد، كونه صار مطلوباً منذ العام 2012 لأجهزة نظام الأسد الأمنية، على خلفية اتهامه بـ”التحريض على قلب نظام الحكم”، بحسب قوله.
حرب طويلة
في آب/ أغسطس 2015، اشترطت وزارة الإدارة المحلية التابعة لنظام الأسد، بتعميم سري، حصول الشخص على موافقة أمنية لإتمام أي معاملة عقارية. لاحقاً، أصدرت وزارة العدل، في تشرين الأول/ أكتوبر 2017، القرار 689 الذي اشترط حصول الراغبين في إجراء عمليات توكيل داخلية أو خارجية خاصة بالتصرف العقاري على موافقة أمنية.
وإذا كان قرار حكومة دمشق فرض “موافقة أمنية” على أي معاملة عقارية في سوريا يمس جميع المواطنين السوريين داخل سوريا وخارجها، فإن القرار أشد خطورة على “كل معارض للنظام أو مهجر أو مغترب”، كما حذر المحامي حسان الأسود. معتبراً أن الموافقة الأمنية إلى جانب قرارات وقوانين أخرى تمكن النظام من “الحد من قدرة المواطن السوري على التصرف بأملاكه، لعدة أسباب، منها: التخلف عن البدل النقدي [عن الخدمة العسكرية الإلزامية]، أو بذريعة الإرهاب عبر قانون مكافحة الإرهاب”.
ومع أن نظام الأسد فعّل “الموافقة الأمنية” كشرط أساسي لتصرف السوريين في أملاكهم العقارية، إلا أن سياسة الاعتداء على ملكيات المواطنين ليس جديدة على نظام يحكم سوريا منذ خمسة عقود. وبحسب المحامي الأسود “لجأ نظام الأسد إلى اختراع إجراء الموافقات الأمنية منذ أحداث [المواجهات مع] الإخوان المسلمون في ثمانينات القرن الماضي”، وقد “شملت الموافقات أيضا الوكالات الخارجية الخاصة بالتصرف بالأموال المنقولة وغير المنقولة بهدف محاصرة خصومه السياسيين ومنعهم من التصرف بأموالهم”.
“الموافقة” عقبة أمام التصرف بملكيات
في كانون الثاني/ يناير الماضي، اجتاز أبو أحمد الحدود السورية- التركية، بموجب إذن دخول مؤقت، قاصداً القنصلية السورية في اسطنبول لتوكيل قريب له مقيم في حمص، وليس لديه مشاكل أمنية مع النظام، باعتبارها الوسيلة الوحيدة “لحماية أملاكي من الاستيلاء أو المصادرة عبر قوانين صادرة عن النظام تصادر من خلالها أملاك السوريين في الخارج”، كما روى.
قدّم أبو أحمد الأوراق المطلوبة لاستصدار وكالة عامة، كما حددتها القنصلية، وهي: جواز السفر أو هوية الموكل مع حضوره شخصياً، وصورة عن هوية الوكيل، وصورتان شخصيتان للموكل، إضافة إلى 125 دولاراً أميركياً، منها 25 دولاراً رسماً قنصلياً. قبل ذلك اضطر أبو أحمد لدفع “ما قيمته 25 دولاراً أميركياً لأحد السماسرة المنتشرين في اسطنبول للحصول على دور في [القنصلية]”، وهي وسيلة تكسّب فرضها تفشي الفساد حتى في البعثات الدبلوماسية التابعة لدمشق، ووجود أعداد كبيرة من المراجعين في بلد يبلغ عدد اللاجئين السوريين فيه نحو 3.6 مليون لاجئ.
وعدا عن أن اللاجئ قد يفشل في الحصول على موافقة أمنية تسمح لموكله في سوريا التصرف بأملاكه، فإن الرسوم المفروضة على استصدار “الوكالة العامة” قد تمنع بعض المهجرين السوريين غير المقتدرين من التصرف بممتلكاتهم، كما قالت عبير عز الدين (اسم مستعار)، المقيمة في عمان.
وكانت عبير وإخوتها ورثت قطعة أرض عن أمها التي توفيت في العام 2014. لكن بما أن الأرض “ستقسّم على أربع بنات وولدين ذكور، ما يعني أن حصة كل شخص فينا ستكون بسيطة، فإننا لم نفكر طيلة السنوات الماضية في تقسيمها أو بيعها”، كما قالت لـ”سوريا على طول”، إلى أن اضطرت العائلة للبيع مطلع العام الحالي بعد أن “عجز كل الورثة عن شراء حصة أحد إخوتي بسبب الظروف الاقتصادية في سوريا وتدهور سعر صرف الليرة”.
ولأنها تقيم خارج سوريا لا يمكن لأحد من الورثة التصرف بالأرض “من دون وكالة مني. لكن رسوم الوكالة مرتفعة مقارنة بقيمة حصتي التي لا تتجاوز قيمتها 1,800 دولار أميركي”، ما يعني “دفع 10% من قيمة حصتي كرسوم للحوالة وأجور إرسالها إلى سوريا، عدا عن أتعاب المحامي ورسوم معاملة نقل الملكية”.
لكن تتخوف عز الدين من “التقدم بطلب عبر السفارة في عمّان خشية أن يكون الرد بالرفض”، خاصة وأن ابنها المقيم في أوروبا “مطلوب للخدمة العسكرية”، ما يعني “إضافة إلى دفع رسوم لا طاقة لي بها، حرمان إخوتي من التصرف بالأرض”.
في هذا السياق، اعتبر المستشار القانوني السوري أحمد كمال، أن فرض الموافقة الأمنية كشرط أساسي في العمليات العقارية سواء كانت بيعاً أو شراءً أو نقل ملكية، يعني أن “السلطة التنفيذية صارت وصية على نظيرتها القضائية”، كما قال لـ”سوريا على طول”، في “مخالفة واضحة للمادة 134 من الدستور السوري التي تنص على أن “القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون”، وكذلك المادة 15 التي تصون بموجبها حق الملكية للأفراد والجماعات”.
إضافة إلى ذلك، فإن اشتراط “تجديد الوكالة كل ثلاثة أشهر للتأكد من عدم وفاة أحد أطرافها”، كما أوضح المحامي حسان الأسود، يعني مزيداً من العقبات أمام المهجرين السوريين داخل سوريا وخارجها، محذراً من أنه “لن يتمكن كثير من المهجرين من التصرف بملكياتهم”.
سمسرة وجباية
كحال أبو أحمد، تقدم أبو ضياء، 66 عاماً، بطلب لاستصدار وكالة خاصة من القنصلية السورية في اسطنبول “لتوكيل شقيقي ببيع منزلي ومزرعتي في حمص، بعد أن استولى موالون للنظام على البيت وسكنوا فيه”، كما قال لـ”سوريا على طول”. موضحاً أنه دفع إضافة إلى رسوم الوكالة “مبلغ 800 دولار للحصول على جواز سفر مستعجل، باعتباره وثيقة مطلوبة للحصول على الوكالة”.
بعد ستة أشهر “جاء الرد بالرفض، بحجة أني مطلوب لأحد الأفرع الأمنية”، لذا لا يمكن الحصول على الموافقة الأمنية “إلا بعودتي إلى سوريا لتسوية وضعي”، أضاف أبو ضياء. وقد عُرض عليه إجراء التسوية “من دون عودتي مقابل دفع ثلاثة آلاف دولار أميركي لأحد اسماسرة، لكني رفضت لأن المبلغ يفوق قدرتي المالية والنتيجة ليست مضمونة”.
وأطلق نظام الأسد يد السماسرة للاتجار بمعاملات المهجرين السوريين، خاصة تلك المتعلقة بالتصرف بملكياتهم العقارية. إذ بحسب كريم الشامي، 42 عاماً، النازح من مدينة دوما في الغوطة الشرقية إلى محافظة إدلب، فإن “التقييد المفروض على المهجرين أجبر بعضهم على التصرف بأملاكه عبر طرق ملتوية، مقابل دفع رشاوى لمتنفذين لدى النظام”.
واتهم الشامي في حديثه لـ”سوريا على طول” عضو مجلس الشعب التابع للنظام، “عامر خيتي، بالتورط في شراء عقارات بمدينة دوما من مطلوبين أو مهجرين”، بحيث يتولى خيتي “متابعة الإجراءات القانونية اللازمة كافة، عبر محامين تابعين له، مستفيداً من نفوذه وعلاقاته مع النظام”.
وخيتي، بحسب وسائل إعلام معارضة، متهم بشراء العقارات “لصالح متنفذين محسوبين على النظام وإيران”، مستغلاً “حاجة الناس وفقرهم، لشراء أراضيهم ومزارعهم بأسعار بخسة”.
وتشهد تركيا خصوصاً نشاطاً واسعاً للسماسرة. ولا يقتصر دورهم على تنفيذ معاملات اللاجئين في الدوائر الحكومية داخل سوريا مقابل مبالغ مالية، وإنما يبيعون مواعيد الدور في القنصلية للمراجعين.
وفي تقرير نشره العام 2019، اتهم تجمع المحامين السوريين، ومقره تركيا، القنصلية في اسطنبول بالتواطؤ “مع شبكة كبيرة من السماسرة لحجز مواعيد المراجعين مقابل مبالغ مرهقة”، مشيراً إلى أن آلاف السوريين يضطرون إلى دفع مبالغ مالية أقلها 300 دولار أميركي، وقد تصل إلى 500 دولار، للسماسرة “في ظل عدم إمكانية الحجز من موقع [القنصلية]”.
من جانبه، حذر المحاضر في مادة القانون في الجامعة الأميركية بواشنطن، ضياء الرويشدي، من التعامل مع السماسرة أو الأشخاص غير المرخصين. مشدداً لـ”سوريا على طول” على أن “يلجأ صاحب الوكالة أو المعاملة لمحامٍ مرخص أو مستشار قانوني في حال اقتضت طبيعة المعاملة متابعتها بالإنابة”.
لكن، عدا عن إطلاق يد السماسرة أو التواطؤ معهم، “ضرب النظام بقوانينه وقراراته بشأن اللاجئين عصفورين بحجر واحد”، برأي أبو أحمد. معتبراً أنها “مصممة باحترافية عالية لخدمة أهدافه ومساعيه”، بما في ذلك “تحقيق دخل مالي كبير من الرسوم التي يفرضها على المواطنين في السفارات والقنصليات”، لتتكفل الأجهزة الأمنية لاحقاً “برفض الوكالات ومنع أصحابها من التصرف بأملاكهم وعقاراتهم ليتم انتزاعها منهم لصالح الشيعة والموالين”، كما قال.
الحفاظ على الملكية
في فترة سيطرة فصائل المعارضة السورية على الغوطة الشرقية بريف دمشق بين العامين 2013 و2018، كانت عمليات بيع وشراء العقارات في المنطقة تتم عبر ما يعرف بدائرة “السجل العقاري” التابعة للحكومة السورية المؤقتة (المعارضة)، أو من خلال توثيق عملية البيع بعقد عبر المكاتب العقارية الخاصة مع إمضاء شهود على عقد البيع.
وبحسب الطريقة الثانية، اشترى سمير الأحمد (اسم مستعار) أرضاً زراعية في مدينة دوما العام 2016. لكن بعد خروجه من الغوطة ضمن قوافل التهجير إلى شمال غرب سوريا “استولى البائع على الأرض”، بحسب ما ذكر الأحمد لـ”سوريا على طول”، مطلقاً عليه “وصف إرهابي ليكسب القضية لصالحه”.
طيلة ثلاث سنوات، فشلت محاولات الأحمد في استرداد حقه، كونه يعيش في منطقة تابعة للمعارضة داخل سوريا، أي لا يمكنه “استصدار وكالة عامة أو خاصة يوكل بها شخصاً آخر في مناطق النظام لاسترجاع حقي”، كما قال.
هكذا، لم يتبق أمام الأحمد، بحسب ما أشار عليه محامون في دمشق، إلا حلٌ واحد، يتمثل في “إرسال عقد البيع الأصلي، وتوكيل محام لرفع دعوى ضد البائع، شريطة أن يقبل شهود العقد الإدلاء بشهادتهم أمام المحكمة”. مع ذلك كان “لا بد من دفع رشاوى لأخذ قرار بملكية الأرض”، كما أضاف الاحمد.
أخطر من ذلك أن الاعتداء على الملكية طالت مهجّرين من غير المطلوبين للأجهزة الأمنية، كما في حالة شقيق زوجة كريم الشامي، المهجّر من الغوطة الشرقية أيضاً. إذ “استولى عناصر النظام على بيته رغم أنه موثق باسمه لدى دوائر النظام قبل العام 2011، ولا يوجد قرار بالحجز على أملاكه”، كما قال الشامي.
هذه الحادثة دفعت بالشامي إلى “الاتفاق مع قريب لي بأن يقيم في منزلي، حتى لا أترك فرصة لعناصر النظام بوضع يدهم عليه”، خاصة وأنه “لا يمكن التصرف ببيتي من دون وكالة رسمية، ولا يمكنني الحصول عليها كوني مطلوباً للنظام”.
كذلك، طلب هيثم، المقيم في الأردن، من جاره في محافظة حمص “هدم الحائط الذي يفصل محله عن محلي، ليصبحا محلاً واحداً”، بعد أن جاء الرد على الوكالة التي تقدم بها عبر السفارة السورية في الأردن بالرفض. وهذه الطريقة حمت محل هيثم من الإشغال حتى الآن، من دون ضمان استمرار هذه الحماية في حال التدقيق في سندات الملكية.
كذلك، فيما لا يمكن لأم محمد، المقيمة في الأردن، تأجير منزلها في منطقة الحجر الأسود جنوب دمشق، كونها زوجة ضابطاً منشقاً، ما يعني أنها لن تتمكن من استصدار وكالة، كما قالت لـ”سوريا على طول”، فإنها تضطر لإرسال “مبلغ شهري بسيط لشقيق زوجها، مقابل الإقامة في بيتها والاهتمام به”، حتى “لا يعرف النظام أنه مهجور فيضع يده عليه”.
هذه الحلول قد توقع المهجرين في مشكلة عقارية أخرى، بحيث “يجب في مثل هذه الحالات تحرّي أهل الثقة والأمانة قبل السماح لأي شخص باستخدام العقار”، كما نبه المستشار القانوني أحمد كمال، إضافة إلى ضرورة “الاحتفاظ بأوراق ملكياتهم العقارية أو ما يعزز إثباتها، من قبيل عقود البيع وقرارات المحاكم، كونها تزيد من فرصة إنقاذ الملكيات المعتدى عليها حال عودة أصحابها إلى سوريا”.
وإلى أن يستعيد أبو أحمد حقه في التصرف والاستفادة من أملاكه التي قدّر قيمتها بعشرة ملايين دولار أميركي، سيبقى عاجزاً عن تحسين وضعه في مكان نزوحه، حيث يسكن “في بيت بالأجرة وبالكاد أستطيع تأمين قوت عائلتي”.