6 دقائق قراءة

انقطاع كفالات الأيتام في درعا: يدفع الأطفال إلى سوق العمل أو الفقر

بعد خمس سنوات على اتفاق تسوية درعا، لم يعط النظام تصريحاً للمنظمات التي كانت تتهد بكفالة #الأيتام لاستئناف عملها، ووقت كوادرها تحت خطر التهديد والملاحقات ما جعل الأطفال الأيتام أمام فقر مدقع أو سوق العمل تاركين وراءهم مقاعد الدراسة. 


5 مايو 2023

باريس- في أواخر عام 2019، ترك الطفل عبد الرحمن مقاعد الدراسة، والتحق في العمل بمجال صيانة الدراجات النارية في مدينة إنخل شمال درعا، لإعالة إخوته الثلاثة وأمه، بعد أن ضاق الحال بالعائلة، التي فقدت معيلها، عام 2015، في قصف لقوات النظام على المدينة.

حتى عام 2018، كان عبد الرحمن، البالغ 14 عاماً من عمره، وإخوته وأمه مشمولين في برنامج لكفالة الأيتام من قبل إحدى المنظمات الإنسانية المحلية، التي كانت تقدم لهم 250 دولار أميركي شهرياً، بواقع 50 دولارٍ لكل فرد، لكنها أغلقت مكاتبها وأوقفت نشاطها مع سيطرة النظام على جنوب سوريا، في تموز/ يوليو 2018، بعد توصله إلى اتفاق تسوية، برعاية روسية، مع فصائل المعارضة، وعلى إثره توقفت كافة العمليات الإنسانية والإغاثية التي كانت تنفذها المنظمات الإنسانية السورية، التي ولدت في أعقاب اندلاع الثورة السورية في ربيع 2011.

مع توقف الكفالة المالية، حاولت أم عبد الرحمن استبعاد خيار انخراط ابنها في العمل وترك مدرسته، لكن بعد عام ونصف من انقطاع “الكفالة المالية” عن العائلة، اضطر عبد الرحمن، وهو الشقيق الأكبر بين إخوته الذكور، أن يتحوّل إلى ربّ أسرة، ويتحمل مسؤولية إعالتها، كما قال لـ”سوريا على طول”.

بعد انقطاع “الكفالة المالية”، عام 2018، واستنفاد الحلول وصرف المدخرات، التي وفرتها العائلة، وصل العجز بأم عبد الرحمن إلى “عدم القدرة على توفير ثمن ربطة الخبز، ما اضطرها للعمل”، بحسب عبد الرحمن، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه كاملاً لأسباب شخصية.

عائلة عبد الرحمن هي واحدة من أصل نحو 270 عائلة في مدينة إنخل كانت مشمولة في برامج كفالة الأيتام حتى توقيع اتفاق التسوية، كما قال أبو عبد الحق، مسؤول سابق في منظمة إنسانية محلية، كانت تعمل في كفالة الأيتام بدرعا، طالباً من “سوريا على طول” عدم الكشف عن اسمه لدواع أمنية، كونه ما زال مقيماً في إنخل.

لا يوجد إحصائيات رسمية أو غير رسمية تكشف عن عدد الأيتام في محافظة درعا، لكن عدد العائلات المستفيدة من برنامج “كفالة اليتيم” في منظمة أبو عبد الحق، بلغ حتى عام 2018 نحو 1060 عائلة في منطقة الجيدور (شمال غرب درعا) لوحدها، جميعها “فقدت الكفالات المالية التي كانت تقدم إليها، وباتت في حالة صعبة جداً”، كما قال، مشيراً إلى أن الأرقام “ارتفعت بسبب استمرار الفوضى الأمنية والاغتيالات في المحافظة”.

نساء يكافحن!

في 15 نيسان/ أبريل 2012، اعتقلت الأجهزة الأمنية التابعة للنظام زوج أم أحمد، وبعد 20 يوماً على اعتقاله أعادته جثة هامدة، ومنذ ذلك الوقت صارت السيدة الأربعينية “أباً وأماً” لأطفالها، لتحمل أعباء تدبير تكاليف المعيشة إلى جانب مهامها المنزلية، كما قالت لـ”سوريا على طول”، من مكان إقامتها في مدينة جاسم شمال غرب درعا.

حتى توقيع اتفاق التسوية، كانت تستفيد أم أحمد وابنتها، 14 عاماً، وولديها 17 عاماً و12 عاماً من برنامج كفالة أيتام من إحدى المنظمات المحلية.

وبعد توقف نظام الكفالة، افتتحت أم أحمد متجراً صغيراً لبيع الملابس في منزلها لتأمين مصاريف العائلة الشهرية، ولأن مشروعها “لم يكن مجدياً”، اضطر ابنها الأكبر إلى التوقف عن الدراسة قبل عامين، والعمل في متجر لبيع الخضار والفواكه براتب شهري 200 ألف ليرة سورية (24 دولاراً أميركياً، بحسب سعر الصرف في السوق الموازية البالغ 8325 ليرة للدولار الواحد). 

“كان أحمد متفوقاً في دراسته، ويطمح مواصلة تعليمه، لكن اضطررنا لدفعه إلى ترك مقاعد الدراسة”، قالت أمه متأسفة على واقع ابنها، الذي “يعمل لساعات طويلة وشاقة من السادسة صباحاً وحتى السادسة مساء”.

الشقاء الذي يعيشه أحمد، خاصة في فصل الشتاء، لا يتمناه لإخوته، بحسب أمه، مشيرة إلى أن ابنها البكر “يصبّر نفسه على عمله الشاق حتى يستكمل إخوته دراستهم”. ومع ذلك، اضطرت العائلة في أواخر العام الماضي إلى الزج بالولد الثاني في سوق العمل.

ترك الولد الثاني لأم أحمد مقاعد الدراسة للعمل في متجر لبيع المواد التموينية، براتب شهري 125 ألف ليرة (15 دولاراً)، وهو يعاني من “سوء تغذية حاد، ترك أثراً على طوله، الذي لا يتجاوز الآن 150 سنتيمتر، ووزنه البالغ 44 كيلوغراماً”، بحسب الأم، التي تتخوف من “تفاقم حالته وأن تلازمه حالته المرضية مدى الحياة”.

تكافح أم أحمد وولديها، اليوم، من أجل تأمين الحد الأدنى من الحياة، ومع إلحاق ولديها في سوق العمل تحاول السيدة “تقنين مصاريف الطعام والشراب والاحتياجات الأساسية، حتى لا تضطر ابنتي ترك المدرسة، فهي أمل العائلة الأخير”.

كانت عائلة أم أحمد تتلقى مساعدة مالية شهرية بقيمة 150 دولار، إضافة إلى سلل غذائية مخصصة للأيتام وملابس ومساعدات أخرى، وهو ما كان “يوفر لنا حياة جيدة”، فيما يبلغ داخل العائلة اليوم، رغم عمل اثنين من أبنائها، قرابة 55 دولاراً، كما قالت أم أحمد.

يبلغ الحد الأدنى لتكاليف المعيشة في سوريا، لعائلة مكونة من خمسة أفراد، قرابة 3.5 مليون ليرة (420 دولاراً تقريباً)، فيما الحد الأدنى للأجور 92 ألف ليرة (11 دولاراً) ومتوسط الأجور قرابة 125 ألف ليرة (15 دولاراً)، بحسب تقديرات صحيفة قاسيون، التابعة لحزب الإرادة الشعبية، الذي يرأسه، قدري جميل، نائب رئيس الوزراء الأسبق للشؤون الاقتصادية والمقيم حالياً في موسكو.

لا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لأم ياسين، 32 عاماً، التي قتل زوجها في 15 أيار/ مايو 2015، أثناء الاشتباكات بين النظام وفصائل المعارضة بدرعا، تاركاً وراءه طفله الأول بعمر عامين، وزوجته الحامل بطفلهما الثاني.

تعمل أم ياسين كعاملة نظافة في روضة أطفال خاصة في مدينة إنخل، براتب شهري مقداره 135 ألف ليرة (16 دولاراً تقريباً)، وهو مبلغ لا يكفي لتأمين مصاريفها الشهرية، ما اضطرها إلى إقحام ابنها، عندما بلغ الثماني سنوات في سوق العمل، ويعمل حالياً في محل لصيانة الدراجات النارية بمدينة إنخل، حيث تقيم العائلة، مقابل راتب شهري مقداره 70 ألف ليرة (تسعة دولارات).

ما كان للأم أن تضحي بابنها “لولا وصلت أنا وأطفالي إلى مرحلة صعبة، لم نعد نحتمل الجوع، وراتبي لا يكفي”، قائلة: “لم يكن لدي حل آخر سوى أن أرسل طفلي إلى العمل في مهنة شاقة، بمعدل تسع ساعات يومياً”.

يعاني ياسين منذ عدة أشهر من مشاكل في الجهاز التنفسي، نتيجة الدخان المنبعث من عوادم الدراجات النارية وروائح الزيوت والشحوم المستخدمة في عمله، كما قالت والدته. رغم عمل الأم وابنها، وما يكتنف عملهما من إرهاق ومشاكل صحية، لا يتجاوز دخل أم ياسين وابنها مبلغ 205 ألف ليرة شهرياً (24.5 دولاراً)، وهو مبلغ “لا يسمن ولا يغني من جوع”، على حدّ تعبير أم ياسين.

في معظم الأشهر تفشل السيدة في تغطية مصاريف منزلها بالمبلغ الشهري الذي تجنيه مع ياسين من عملهما، وكثيراً ما تسدّ هذا العجز بـ”المساعدات التي يقدمها بعض الأقارب وأهل النخوة، كالخبز المجاني، أو مياه الشرب، أو بعض المساعدات العينية”، بحسب أم ياسين، ومثال ذلك “الخضار التي يعطيني إياها بائع خضار مجاناً أو بربع القيمة كونها ذبلت أو أوشكت على الفساد”.

أما الملابس والألعاب صارت حلماً، وكثيراً ما تحاول الأم أن تقدم وعوداً لولديها بأنها ستشري لهم ألعاباً أو ملابس بمجرد حصولها على مساعدة من أهل الخير، كما قالت.

غياب العمل الإنساني

بعد خمس سنوات على اتفاق تسوية درعا لم يعط النظام تصريحاً للمنظمات، التي كانت تتعهد بكفالة الأيتام في الجنوب، لذلك “صارت كوادرها في حالة خطر كبير بسبب التهديد والملاحقات الأمنية والاعتقال”، بحسب أبو عبد الحق، المسؤول السابق في إحدى المنظمات الإنسانية بدرعا.

وعزا أبو عبد الحق منع الحكومة السورية عودة المنظمات الإنسانية، خاصة التي عملت سابقاً في مناطق المعارضة السورية، إلى أن “تلك المنظمات ساهمت في زعزعة استقرار الدولة، وفقاً للحكومة، ولذلك تصنفها مع العاملين فيها على لوائح الإرهاب”.

إلى جانب غياب دور المنظمات الإنسانية، التي تعمل بمعزل عن النظام السوري، تكاد تكون المبادرات والنشاطات الفردية “معدومة”، كما قال محمد الحسن (اسم مستعار)، عامل إنساني سابق في منظمة إغاثية، معللاً ذلك في حديثه لـ”سوريا على طول” بـ”تخوف العاملين في هذا المجال والمتبرعين في الداخل من ملاحقة النظام لهم، كون جزء من العائلات التي كانت تتلقى المساعدات، هي عائلات نشطاء معارضين أو ربما مقاتلين في المعارضة”.

هذا لا ينفي وجود “كفالات محدودة”، ولكن عمليات التبرع لأجلها “ليست منتظمة ومستمرة”، كما كانت عليه قبل عام 2018، كما أوضح أبو عبد الحق، لافتاً إلى أن “توزيع الكفالات، التي تجري حالياً، تكون بشكل سري ومن دون توثيق وعبر أفراد وليس مؤسسات”، لأن “توزيع الكفالات مؤسساتياً يتطلب عمليات توثيق، ويتخوف الناشطون من التوثيق خشية تعرضهم للاعتقال أو التصفية”.

وأضاف أبو عبد الحق، بعض المتبرعون يحاولون إيصال “الكفالة المالية” إلى الوصي (أم، جد، أو جدة) مباشرة عبر حوالات خارجية، من دون كشف هوية الناشطين المدنيين العاملين في الداخل، الذين يحصلون على بيانات الأيتام المحدّثة من أشخاص ثقات في البلد.

أمام غياب العمل الإنساني في الجنوب السوري، صار الأطفال من أصحاب الحاجة أو الأيتام “يعملون في الزراعة، ويقفون على جوانب الطرقات يبيعون المحروقات، أو يعملون في الأسواق الشعبية”، بينما تتوجه أمهاتهن لـ”العمل في الزراعة أو بعض المعامل المتواجدة في المنطقة”، بحسب أبو عبد الرحمن.

أحلام في مهب الريح

لطالما كان حلم عبد الرحمن أن يكمل دراسته ويصبح طبيباً، لكن بعد الظروف التي دفعته إلى العمل في صيانة الدراجات النارية، صار حلمه أن يمتلك “محلاً خاصاً بي”، كما قال، مشيراً إلى أن “ترك المدرسة وتحوّل حلمي كان يزعجني، خاصة عندما أرى أصدقائي يلبسون ثياب المدرسة النظيفة، بينما آثار الزيوت والشحوم على ملابسي”.

لا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لحسام، 16 عاماً، الذي توفي والده قبل أربع سنوات، ما اضطره إلى ترك المدرسة والعمل في متجر لبيع الملابس بمدينة إنخل، مقابل راتب شهري مقداره 290 ألف ليرة (35 دولاراً) .

لم يتوقع حسام يوماً أن يتنازل عن حلمه بأن يصبح مهندساً، وهي رغبة والده أيضاً، كما قال لـ”سوريا على طول”، لكن “الظروف أجبرتني على ذلك”.

يحاول الطفل حسام أن يلبس ثوب الرجولة بـ”تعويض أمي وإخوتي فقدان أبي، أحاول أن أوفر لهم مصاريف الحياة، وأهتم بهم، وأتفاعل بمشاعر الفرح والحزن تجاه كل فرد منهم”، ورغم الجهود التي يبذلها يجد نفسه عاجزاً “لأن متطلبات المعيشة تفوق قدرتي”، على حد قوله.

أما عبد الرحمن، ختم حديثه بتساؤل دائما يخطر على باله، وهو: “كيف ستكون حياتي لو أن والدي ما زال على قيد الحياة؟”.

شارك هذا المقال