بالفساد والتحطيب ثم الحرب: سوريا تخسر ثوبها الأخضر
يتواصل اندلاع الحرائق في سوريا، لاسيما في المحافظتين الساحليتين اللاذقية وطرطوس، مع امتداد النيران إلى ريفي إدلب الجنوبي، حماة الشمالي وصولاً إلى محافظة حمص جنوباً
11 أكتوبر 2020
عمان – منذ الشهر الماضي، يتواصل اندلاع الحرائق في سوريا، لاسيما في المحافظتين الساحليتين اللاذقية وطرطوس، مع امتداد النيران إلى ريفي إدلب الجنوبي ,حماة الشمالي وصولاً إلى محافظة حمص جنوباً.
ورغم أن الحرائق تكاد تكون حدثاً سنوياً في شمال غرب سوريا، إلا أن حرائق هذا العام غير مسبوقة لناحية ضخامتها وانتشارها. إذ وفقًا للبيانات التي تم جمعها عبر الأقمار الصناعية التابعة لوكالة الفضاء الأميركية “ناسا”، من خلال مقياس (VIIRS)، عرفت محافظة اللاذقية 580 إنذار حريق خلال الفترة من 1 حزيران/ يونيو إلى 25 أيلول/سبتمبر، مقارنة بـ160 إنذاراً في الفترة ذاتها من العام الماضي.
وفيما لم يتم إلى الآن حصر الخسائر الفعلية لحرائق هذا العام، تقدر مساحة المناطق المحترقة في محافظتي اللاذقية وحماة، باستثناء تلك التي شبت فيها النيران قبل يومين، بحوالي 370 هكتاراً على الأقل، بحسب ما ذكر الموقع الاقتصادي المتخصص “سيريا ريبورت“.
ورغم حجم الدمار الذي تسببت به الحرائق على المستوى البيئي المحلي، كما الأضرار التي ألحقتها بالناس الذين يعيشون على مقربةٍ منها، فإن الخطر الذي يهدد غابات سوريا والغطاء النباتي فيها لا يقتصر على الحرائق. إذ إن تدهور النظام البيئي في سوريا خلال العقدين الماضيين نجم إلى حد كبير من الخلل في الإدارة والإهمال، فضلاً عن التحطيب الجائر.
المصدر: Hansen / UMD / Google / USGS / NASA
إذ خلال الفترة ما بين 2001 و2019، خسرت سوريا 20,681 هكتاراً (206 كيلومترات مربعة) من الأراضي الحراجية، أو ما نسبته حوالي 20% من إجمالي الأحراج التي كانت موجودة في البلاد ككل في العام 2000، مع الأخذ بالاعتبار ما تم تحقيقه من نمو في الثروة الحراجية خلال الفترة ذاتها.
ورغم حصول زيادة كبيرة في الخسائر الفترة التالية لاندلاع الثورة السورية في العام 2011، فإنه من غير الواضح حجم مساهمة كل من المجريات الميدانية على الأرض في ذلك، مقارنة بالتغيرات في منهجية القياس. إذ إن تحليلات الأقمار الصناعية تم إجراؤها، بحسب مصدر البيانات، استناداً إلى منهجية تم تحديثها عقب العام 2011، ما يعني أن الخسائر الإجمالية خلال العقدين الماضيين قد تكون أعلى بكثير من المذكور حالياً.
ولا يمكن عزو خسارة الغطاء النباتي بعد العام 2011 إلى انخفاض معدلات هطول الأمطار. إذ وفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو)، عرفت جميع الأعوام التالية للعام 2012 هطولاً أعلى من المعدل السنوي المقدر بنحو 4,615 ميليمتر.
وتظهر مقارنة ذروتي خسارة الأراضي الحراجية في سوريا قبل الثورة وبعدها عدم وجود رابط بين هطول الأمطار والخسارة الحاصلة بعد العام 2011. إذ تزيد خسائر الغابات في العام 2012 بنسبة 250٪ تقريباً عن الذروة السابقة في العام 2007، رغم أن كمية الأمطار في العام 2012 بلغت ضعف التي عرفها العام 2007 (7,929 ملم في 2012 مقارنة بـ4,163 ملم في 2007).
ما هي عوامل تدهور النظام البيئي في سوريا؟
نظراً للوضع الأمني والانقسامات السياسية في سوريا، لا توجد دراسات ميدانية تغطي البلد بأكملها بشأن الغابات وخصائص التربة خلال العقد الماضي. ومن ثم، فإن من الصعب فهم عوامل التدهور البيئي في سوريا بشكل دقيق وقاطع.
وكان أحدث مسح شامل للغابات والنباتات في سوريا قد أُجري من خلال الأقمار الصناعية، وتم إصدار نتائجه في آذار/مارس الماضي. وكشف هذا المسح الذي أجرته الأمم المتحدة ووزارة الإدارة المحلية والبيئة السورية خلال الفترة بين العامين 2000 و2015 عن أن العوامل الرئيسة للتدهور البيئي في سوريا هي: التحطيب الجائر والحرائق، وسوء إدارة الأراضي، والرعي الجائر، فضلاً عن “تلوث الأرض بالنفايات السائلة والصلبة […] وتكرير النفط بصورة غير قانونية”، وتحويل الأراضي الزراعية والغابات إلى مناطق حضرية.
وتصب جميع هذه العوامل في نتيجة واحدة جوهرها الافتقار إلى سلطة مركزية مستعدة وقادرة على تنظيم وإدارة البيئة السورية بفاعلية.
فالرعي الجائر، على سبيل المثال، يُوضح كيف يمكن أن يسهم غياب السلطة الحاكمة المؤهلة في تدهور البيئة المحلية، حتى على مستوى هكذا ظاهرة قد يبدو أن لا ضرر فيها.
صورة: الجانب الأيمن من السياج هي أراض في تدمر بمحافظة حمص حُظر فيها رعي الماشية على مدى عشرة أعوام، فيما تُرك الجانب الأيسر من دون تنظيم، آذار/مارس 2008 (جيانلوكا سيرا)
وكما يوضح جيانلوكا سيرا، الموظف السابق في “فاو” وعالم البيئة الذي عمِل في مجال الحفاظ على التنوع الحيوي في سوريا في العقد السابق للثورة، فإن سياسات التحرر الاقتصادي خلال تلك الفترة أدت إلى تعطيل الأساليب التقليدية لتقسيم السهوب السورية التي تعرف بـ”البادية”، ما أدى إلى انحسار الغطاء النباتي وانتشار التصحر في البلاد.
وتشكل البادية أكثر من نصف مساحة سوريا، وهي واحدة من أكثر المناطق اضطراباً في البلاد، نظراً لاستيلاء تنظيم “داعش” عليها في العام 2015، وتغلغله فيها منذئذ.
ورغم أن بيانات الأقمار الصناعية حول خسارة الغابات لا تحدد مدى تدهور نوعية التربة أو فقدان الشجيرات المنتشرة في البادية، فإن مسح الأمم المتحدة المنشور في العام 2020 كشف عن انخفاض بنسبة 15% في “الشجيرات والمناطق ذات الغطاء النباتي قليل الكثافة”. في الوقت نفسه، تفاقم تدهور نوعية الأراضي الصالحة للزراعة بنسبة 75% مقارنة بالعام 2000، ما يفاقم التراجع في إنتاجية الأراضي الزراعية والغطاء النباتي، وبحيث لا يقتصر على البادية السورية.
المصدر: Hansen / UMD / Google / USGS / NASA
أما في المناطق الأكثر خضرة واشتمالاً للغابات، والتي تتركز بشكل رئيس في المحافظات الشمالية والشمالية الغربية، لاسيما حلب وإدلب واللاذقية، فتبرز تحديات بيئية مختلفة عما سبق.
إذ عانت جميع هذه المناطق من عمليات تحطيب جائر على مدى العقد الماضي، من غير الممكن قياس حجمها بدقة بسبب الظروف الأمنية ونقص الإمكانات اللازمة لذلك. وهو ما أكده وزير الزراعة في الحكومة السورية المؤقتة (التابعة للمعارضة)، في تصريح لـ”سوريا على طول” بأنه لم يتسنَ لهم مراقبة مستوى التحطيب الجائر.
وتختلف أسباب وآليات التحطيب الجائر من موقعٍ لآخر. ففي عفرين، بريف حلب، يشتكي الأهالي من أن الفصائل المدعومة من تركيا تُقطِّع الأشجار في المنطقة لبيعها حطباً للوقود والفحم.
أما في محافظة اللاذقية الخاضعة لسيطرة النظام، وحيث تنتشر المحميات الطبيعية ويوجد خفر غابات يتمتعون بسلطة اسمية للإبلاغ عن التحطيب الجائر ووضع حد له، فإن تحطيب الأشجار وحرقها برغم ذلك أصبح صنعةً تلقى رواجاً.
وبحسب تحقيق كان نشره موقع “حكاية ما انحكت” العام الماضي، فإن العصابات المتنافسة في المنطقة تجني أرباحاً بتحطيبها الأشجار من أجل إنتاج الفحم وبيعه. وهناك اعتقاد سائد أن هذه العصابات تربطها صلة وثيقة بالنظام ورجال أعمال مُتنفذين.
أيضاً، يُرّجح أن النزوح في محافظة إدلب وأجزاء من حلب يفسر بصورة كبيرة التحطيب الجائر هناك. حيث تمت إزالة الأشجار وتحويل الأراضي الزراعية في المحافظة إلى مخيمات مؤقتة للنازحين. كما إن برد الشتاء القارس وارتفاع أسعار الوقود في شمال سوريا، يدفع النازحين إلى تحطيب الأشجار للتدفئة. ففي فصل الشتاء الماضي، توفي رضيع متجمداً من البرد، فيما قضت عائلة اختناقاً في خيمتها إثر استخدامها الفحم للتدفئة.
بصيص أمل بعيد
قدرت دراسة الأمم المتحدة المنشورة هذا العام حاجة سوريا إلى 360 مليون دولار لإيقاف تدهور البيئة في البلاد بحلول العام 2030. لكن حتى لو تم تأمين هذا المبلغ، لن يتسنى لدمشق عكس مسارالتدهور البيئي الحالي أو حتى الحد منه، بسبب التشرذم السياسي والفساد المستشري.
أما استمرار مسار التدهور على المدى الطويل، فينطوي على آثار أكبر. إذ تعاني سوريا من انعدام الأمن الغذائي على نطاق واسع، وعجز عن تأمين وقود التدفئة والطهي. ومع تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، سيزداد الشتاء برودة والصيف حراً، وبالتالي سيقاسي السكان الذين يعانون أصلاً من تدهور النظام البيئي أكثر من غيرهم جراء هذه التغيرات المناخية.
أما على المدى القصير، فستدفع الفئات الأكثر ضعفاً وهشاشة في سوريا مع ذلك، ثمن الدمار البيئي هناك. فتدهور نوعية التربة واجتثاث الأحراش والغابات سيؤديان إلى تفاقم الانهيارات الطينية السنوية التي تُغرق النازحين وتقتلع خيمهم. كما لن يجد أولئك الذين يعتمدون على الرعي سوى القليل من النباتات لإطعام مواشيهم.
مع ذلك، لا يبالي كثير من السوريين بآثار اجتثاث الغابات وتدهور النظام البيئي على المدى القصير، إذ يرون آثارها بعيدة مقارنة بهموم الاحتياجات الاقتصادية والمادية اليومية. ما يعني أن أي أملٍ بحماية البيئة سيأتي بعد أن يشعر الناس أنفسهم بأنهم محميون وآمنون.
نُشر هذا التقرير أصلاً باللغة الإنجليزية وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور.