بذريعة الحفاظ على التراث: عمليات ترميم بيوت دمشق القديمة تحكمها “المحسوبيات”
وجد سكان حي باب سريجة الدمشقي، التابع إدارياً لمديرية دمشق القديمة، أنفسهم عالقين بين صعوبة الحصول على رخصة لترميم أو إعادة إعمار منازلهم وبين الترميم عبر متعهدين مقربين من مجلس المحافظة.
18 يوليو 2023
دمشق – في عام 2013، انتقل حسام، 55 عاماً، مع عائلته للسكن في منزلهم المهجور بحي باب سريجة الدمشقي، من دون إجراء صيانة له، تاركاً منزله في مخيم اليرموك، الذي حوصر من النظام السوري في حزيران/ يونيو ، بعد سيطرة فصائل المعارضة السورية عليه.
تحمّل حسام، الذي طلب التعريف عنه باسمه الأول فقط، حالة منزلهم في باب سريجة، بمنطقة القنوات، شرق دمشق، لعدم قدرته على صيانته، وتجنباً لاستئجار منزل، إذ لم يكن قادراً على الالتزام بدفع إيجار شهري آنذاك، كما قال لـ”سوريا على طول”. باب سريجة من أحياء دمشق القديمة، وسوقها من الأسواق المهمة تاريخياً وتجارياً.
شُيد منزلة عائلة حسام قبل نحو مئة عام، وتبلغ مساحته 150 متر مربع، بحسب الرجل الخمسيني، مشيراً إلى “وجود تشققات في بعض جدرانه، وتتسرب مياه الأمطار إلى داخله”. في العامين الأخيرين، تنتشر ظاهرة ترميم وإعادة بناء منازل الأحياء الدمشقية القديمة، ما دفعه إلى التفكير بـ”ترميمه وتجديده مع الحفاظ على هويته المعمارية”، لكنه اصطدم بـ”عرقلة البلدية” في حصوله على الموافقات اللازمة.
بعد أربعة أشهر من محاولات الحصول على رخصة لترميم منزله من محافظة دمشق، حولته الأخيرة، مطلع العام الحالي، إلى بلدية باب سريجة للحصول على الترخيص، “لكن أحد موظفي البلدية نصحني باللجوء إلى أحد المتعهدين لتسهيل عملية ترميم أو إعادة منزلي، كونه يقع ضمن شريحة أثرية ويحتاج إلى موافقة جهات عدة منها مديرية الآثار”، بحسب حسام.
عادة، تصدر رخصة الترميم عن مديرية دمشق القديمة، التابعة لمجلس المحافظة، والتي تشترط استخدام مواد تقليدية حصراً، عدم إضافة أي إنشاءات غير واردة في المخططات المعتمدة، وأن يراجع صاحب العلاقة دائرة الرقابة والإشراف أو دائرة الخدمات والمرافق التابع لها العقار ضمن الشرائح الأثرية خارج السور (أي خارج أسوار دمشق القديمة) وقبل المباشرة بالعمل.
ويجب أن يحافظ صاحب الرخصة على العناصر الأثرية والأقواس والعقود وإظهارها في حال وجودها، وتسمية مهندس من دائرة الرقابة والإشراف في مدينة دمشق القديمة ومهندس من دائرة آثار دمشق للإشراف على الأعمال.
لا تقتصر معاناة حسام عليه وحده، إذ إن غالبية منازل حي باب سريجة تحتاج للصيانة والترميم، وأصحابها “يواجهون صعوبة في الحصول على الرخص اللازمة للترميم، نظراً لتداخل إجراءات الترخيص بين جهات عدة: المحافظة، البلدية، والأوقاف”، كما قال مصدر من بلدية باب سريجة لـ”سوريا على طول”، طالباً عدم الكشف عن اسمه لدواع أمنية.
وأضاف المصدر: “يعتبر حي باب سريجة شريحة أثرية، مدينة رومانية، ويحتاج ترميم بعض منازلها إلى موافقات مديرية آثار دمشق والمحافظة، وفي بعض الحالات مديرية الأوقاف”.
لا يقع منزل حسام ضمن شريحة أثرية، ويملك ورقة “طابو أخضر”، وهي أقوى وثائق الملكية العقارية، ولا يوجد عليها أي إشارة على أن العقار ضمن شريحة أثرية، ومع ذلك رفضت بلدية باب سريجة إعطاءه الرخصة اللازمة لترميم منزله، رغم أنه لا ينوي تغيير هويته. وبدوره رفض أن ينفذ الترميم عبر متعهدين متعاونين مع البلدية، على حد قوله.
فساد يحول دون منح الرخص
حتى الآن لم يتمكن حسام من ترميم منزله، بينما هناك العديد من سكان الحيّ رمموا منازلهم، بعد أن حصلوا على التراخيص المطلوبة، التي حرم منها الرجل الخمسيني.
وفي الوقت الذي يشعر فيه حسام وأمثاله بأنهم محرومون من ترميم منازلهم، بذريعة الحفاظ على الآثار، اتُهم النظام، في عام 2021، بإعادة تأهيل سوق الحي، المصنف كشريحة أثرية، بطريقة عشوائية، عبر ورشات شركة البناء والتعمير التابعة لوزارة الإسكان.
كذلك، يشهد الحي وأحياء أخرى، من قبيل حي العمارة وساروجة، عمليات ترميم وتحويل بيوت قديمة إلى أبنية طابقية لا تتوافق مع هوية دمشق القديمة، و”يحصل منفذوها على تلك التسهيلات كونهم متعهدين مرتبطين بجهات حكومية”، وفقاُ لحسام.
وفي هذا السياق، اعتبر المهندس خالد الفحام، رئيس جمعية سوريون من أجل التراث العمراني، وهي جمعية مدنية مستقلة مقرها في دمشق، أنَّ هناك خلل إداري في طريقة منح الرخص، بحيث تغيب العدالة والمساواة في التعامل مع المتقدمين بطلب الترخيص، وفق أسس موحدة، نتيجة تعدد الجهات التنظيمية والأنظمة والقوانين.
وأضاف الفحام في حديثه لـ”سوريا على طول”: “أوجد تفشي الفساد منافذ تمنح تراخيص قانونية بتسهيلات لجهة ما، وتعيق منحها لجهة أخرى”.
وذهب أكثر من مصدر في المنطقة، تحدث إلى “سوريا على طول”، إلى أن بعض المقاولين والمتعهدين المحسوبين على محافظة دمشق يمكنهم الحصول على رخص هدم وإعادة بناء لكتلة كاملة، بالتواطؤ مع البلديات، بينما لا يمكن لآخرين الحصول على رخصة للترميم.
هذا ما حصل مع عائلة هند، 39 عاماً، التي هدمت محافظة دمشق جزءاً من منزلهم المقابل لشارع فرعي، بذريعة أنه يشكل خطراً على المارة وعلى الأملاك العامة “كونه آيل للسقوط، بحسب تقييم المحافظة، التي هدمته، عام 2022، دون إنذارنا”، كما قالت السيدة لـ”سوريا على طول”.
بعد ذلك، حاولت هند الحصول على إذن ترميم، لكنها فشلت في ذلك “بذريعة أن جزءاً من منزلنا شريحة أثرية، وعندما اعترضت لدى البلدية، التي هدمت الجزء دون اكتراث أو إنذار، أخبرونا أن الترميم يجب أن يكون عن طريق متعهد”، لافتة إلى أنهم “أعطوني اسم متعهد بعينه للتواصل معه”.
توجهت هند إلى المتعهد للمضي في إجراءات الترميم، فطلب منها مليوني ليرة سورية (204 دولارات أميركية، بحسب سعر الصرف الحالي في السوق السوداء البالغ 9800 ليرة للدولار الواحد) مقابل تأمين رخصة الترميم، وقد تمكن من تأمينها، على حد قولها.
باشر المتعهد بالترميم وإعادة الجزء الذي تم هدمه، وأثناء ذلك “غيّر هوية المنزل، فأزال البحرة، ورفع الطوب بدل الحجر”ـ وعندما حاولت البلدية سحب رخصة الترميم لمخالفة الشروط الواردة فيها “تولى المتعهد الأمر عبر دفع المال [الرشوة] للبلدية”.
وعندما لجأت هند إلى المتعهد أخبرها أنه يستطيع الحصول على رخصة الترميم مقابل 2 مليون ليرة، وعندما بدأ بالترميم مع تغيير هوية المنزل -أزال البحرة في المنزل ورفع بلوك بدل الحجر-، عندها حاولت البلدية إيقاف رخصة الترميم لمخالفة شروطه، لكن المتعهد “زبط الوضع” دفع مصاري، حسب تعبيرها.
عندما انتهى من ترميم المنزل الذي تبلغ مساحته 75 متراً مربعاً، طلب المتعهد مبلغ 15 مليون ليرة (1530 دولار)، وهو مبلغ يفوق قدرة العائلة، إذ يبلغ دخل الموظف في مناطق سيطرة النظام نحو 100 ألف ليرة سورية (عشرة دولارات بحسب آخر سعر صرف)، فاقترح المتعهد على العائلة شراء المنزل منهم وتأمين منزل في منطقة أخرى، بحسب هند.
وإلى جانب قدرة المتعهدين المحسوبين على محافظة دمشق على استصدار تراخيص ترميم وبناء، يمكنهم أيضاً إبطال تراخيص الترميم لأصحاب المنازل الحاصلين على التراخيص اللازمة “من أجل الضغط عليهم ومساومتهم لشراء منازلهم”، وفقاً لهند، مؤكدة أن المتعهد تصرف بهذه الطريقة مع أكثر من شخص في الحي وانتهى بهم المطاف إلى بيع منازلهم.
مشاريع تنظيم متوقفة
تخضع محافظة دمشق تنظيمياً للمخطط التنظيمي الصادر عام 1968، المعروف باسم “مخطط إيكوشار“، نسبة لاسم المهندس الفرنسي الذي أنجز المخطط ، وقد أخذ صاحب المخطط حاجة دمشق حتى عام 1984، لكن ما يزال المخطط معتمداً حتى الآن.
ومع أن مخطط إيكوشار “انتهى مفعوله، لكنه ما يزال معلقاً وحيداً على جدران محافظة دمشق”، كما قال المهندس فحام. مشيراً إلى أن “مخطط 1968 حدد الصفة العمرانية لكافة مناطق دمشق، واستثنى دمشق القديمة” المعروفة بـ”داخل السور”.
وأوضح فحام أن مخطط إيكوشار “يسمح بإعادة البناء والترخيص لكافة العقارات في دمشق دون التقيد بالحماية للهوية الثقافية والعمرانية المكانية، فضلاً عن عدم اكتراثه بالقيم الفنية والجمالية التراثية والحضارية”.
بعد 17 عاماً على الفترة الزمنية التي شملها مخطط إيكوشار، صدر مخطط تنظيمي لدمشق، في عام 2001، محدداً احتياجات المستقبلية لدمشق من حيث عدد وكثافة السكان، وضم المخطط، الذي أعدت دراسته الشركة العامة للدراسات التابعة لوزارة الأشغال العامة والإسكان 205 تجمعات سكنية على مساحة 30 ألف هكتار، وتوقع المخطط وصول عدد سكان دمشق، عام 2020، إلى 7 مليون نسمة.
وفي عام 2009، وقعت وزارة الإدارة المحلية السورية محضر تفاهم مع وكالة التعاون الياباني (جايكا)، من أجل المرحلة الثانية لمشروع التخطيط العمراني للتنمية المستدامة لمنطقة إقليم دمشق الكبرى، على أن يبدأ تنفيذها في العام نفسه تستمر لثلاث سنوات، وكانت “جايكا” قد أعدت المرحلة الأولى من المشروع خلال عام 2006 و2008. ولكن أياً من مخطط 2001 ومشروع “جايكا” لم يدخلان حيز التنفيذ، وما تزال دمشق ممتدة على مساحة إجمالية مقدارها 10 آلاف هكتار تقريباً، وفقاً لمخطط أيكوشار.
مع اندلاع الاحتجاجات في سوريا، عام 2011، لا سيما بمحيط العاصمة دمشق، توقف الحديث عن المخططات التنظيمية في دمشق، إلى حين صدور القانون رقم 10 لعام 2018، القاضي بجواز إحداث منطقة تنظيمية أو أكثر ضمن المخطط التنظيمي العام للوحدات الإدارية. عبّرت المجموعات الحقوقية المعنية بحقوق الملكية العقارية عن مخاوفها من أن يهدد تطبيق هذا القانون حقوق المهجرين والمطلوبين.
قيود لا تصون تاريخ المنطقة
تتولى دائرة التراخيص، التابعة لمديرية دمشق القديمة، مسؤولية إصدار رخص البناء والترميم وآليات منحها، كما قال موظف عامل في المديرية لـ”سوريا على طول”، طالباً عدم الكشف عن اسمه لأنه غير مخول بالحديث لوسائل الإعلام.
وأضاف المصدر: “تمنح الدائرة ثلاثة أنواع من الرخص: الأولى، رخصة الإصلاح الطارىء وتعطى خلال ثلاثة أيام، شريطة أن يكون هناك أضرار على الأملاك العامة. الثانية، رخصة الترميم البسيط. بينما الأخيرة، وهي الأكثر انتشاراً تسمى رخصة إعادة البناء.
وللحصول على واحدة من هذه الرخص، يتعين على مقدم الطلب تقديم مجموعة وثائق، منها: إثبات الحيازة للعقار المطلوب ترميمه، ومصور إفرازي إذا كان العقار مفرزاً، ورخصة البناء ومصور الترخيص، وغيرها من الوثائق التي يصعب تأمينها في بعض الحالات، كأن يكون العقار غير مفرز (ورثة) أو عقار مستأجر بلا عقد إيجار، بحسب المصدر من المديرية.
وفيما يُفترض أن تحمي رخص الترميم والإعمار المناطق المصنفة كشرائح أثرية من الاعتداء، فإن “غالبية منفذي رخص الترميم وإعادة البناء يخالفون شروط الحفاظ على البنية التاريخية والمعمارية لبيوت دمشق القديمة”، بحسب الموظف من المديرية، مشيراً إلى أن بعضهم “يستخدم مواد خرسانية في إعادة الترميم، ويبني طوابق زائدة مخالفة”.
وإزاء ذلك، استنكر الفحام عجز الجهات الحكومية المعنية بالتنظيم والمناطق التاريخية عن وضع خطط ورؤى استراتيجية موحدة بناء على دراسات تحليلية معمقة ومستندة على جمع البيانات، كالقيمة التاريخية والأثرية والحالة الاجتماعية والفيزيائية وتعقيدات الملكيات المتداخلة في بعض الحالات.
وأرجع الفحام صعوبة الترميم وتعقيداته إلى غياب الدعم من الجهات المتخصصة بمعايير الترميم وإعادة التأهيل (المحافظة والمديرية العامة للآثار والمتاحف)، التي لا يتوفر لديها ميزانية ودراسات ترميم لكل عقار يتقدم مالكه بطلب الترميم، إضافة إلى تناقص الورش المتخصصة في الترميم بتقنيات فنية وحرفية جيدة، وكذلك صعوبة تأمين مواد الترميم التقليدية من مصادرها مثل الخشب، باعتباره عنصر إنشائي رئيسي في معظم البيوت القديمة.
وإلى أن توجد محافظة دمشق آلية عادلة، تسمح لجميع سكان دمشق القديمة من ترميم منازلهم، ينتظر حسام الوقت الذي يمكنه فيه الحصول على رخصة الترميم، وترميم منزله “مع الحفاظ على هويته التاريخية”، من دون اللجوء إلى متعهدي البناء المتعاونين من المحافظة أو دفع رشى مقابل الحصول عليها، وإلى أن يتحقق له ذلك “نعيش في المنزل من دون صيانة رغم ضرورة ذلك”، بينما يحصل آخرون على الرخصة ويعتدون على تاريخ المنطقة وهويتها.