بعد أن كانت موطن استقرار: تركيا “لم تعد برّ أمان” للسوريين المجنّسين واللاجئين
ما تلبث أن تخبو التصريحات السياسية أو المواقف العنصرية، التي تستهدف استقرار اللاجئين السوريين في تركيا، المتصاعدة على نحو غير مسبوق منذ أشهر، حتى يعيدها إلى الواجهة تصريح سياسي أو حادث اعتداء
10 أغسطس 2022
باريس- ما تلبث أن تخبو التصريحات السياسية أو المواقف العنصرية، التي تستهدف استقرار اللاجئين السوريين في تركيا، المتصاعدة على نحو غير مسبوق منذ أشهر، حتى يعيدها إلى الواجهة تصريح سياسي أو حادث اعتداء.
في السابع من آب/ أغسطس الحالي، تداولت وسائل إعلام تركية تصريحاً لوزيرة الأسرة والخدمات الاجتماعية التركية، دريا يانيك، عندما سئلت عن مصير اللاجئين السوريين، أنه “بعد عام 2023 لن يبقى أي من هؤلاء”، في حال تمكنت أنقرة من “منع إقامة دولة إرهابية في عمليتها العابرة للحدود”، في إشارة إلى العملية العسكرية المرتقبة ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
أثارت تصريحات الوزيرة التركية تفاعلاً كبيراً بين أوساط السوريين على وسائل التواصل الاجتماعي، باعتبارها تذهب أبعد من تصريحات أنقرة السابقة التي تخطط لعودة مليون لاجئ سوري تحت اسم “العودة الطوعية”، من أصل 3.7 مليون لاجئ سوري في تركيا.
على صعيد شعبي، تعرض الشاب أحمد كنجو، 17 عاماً، لهجوم عنصري، في 19 تموز/ يوليو الماضي، أثناء مقابلة على إحدى القنوات التلفزيونية التركية، حاول خلالها توضيح بعض الصور والمعلومات الخاطئة عن اللاجئين السوريين للأتراك، لكنهم عبروا عن رفضهم للسوريين، بما في ذلك سيدة اعتبرت أن “الجنسية لا تباع وتشترى”، في معرض حديثها عن تجنيس السوريين.
تعزز هذه الأحداث والتصريحات شعوراً في أوساط السوريين بأنهم “مرفوضون”، وأن “الكراهية” تجاههم ليست مجرد مواقف يضخمّها الإعلام، ولا يستثنى الحاصلون على الجنسية التركية من هذه الدائرة، فالجنسية “لم تعدّ برّ أمان بالنسبة لنا”، كما قال أحمد بكر، 25 عاماً، لـ”سوريا على طول”، الذي حصل على الجنسية مع والديه قبل أربع سنوات، وينحدر من محافظة إدلب شمال غرب سوريا.
على حد سواء، يواجه السوريون في تركيا، المجنّسون واللاجئون، خطاباً عنصرياً متصاعداً، وصل حد تسجيل جرائم قتل بدوافع عنصرية، بالتزامن مع تغيير حكومة أنقرة سياستها مع ملف اللجوء السوري، وسط السجال السياسي الحاصل بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة، واستخدام الجانبين السوريين كورقة في الانتخابات المقبلة، المزمع إجراؤها في حزيران/ يونيو 2023.
يرتبط مستقبل عائلة بكر في تركيا بـ”نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة”، إذ في حال فازت المعارضة، التي تبنت خطاباً مناهضاً للسوريين طيلة السنوات الماضية، تعتزم العائلة “مغادرة تركيا والبحث عن مكان آخر”، وفقاً للشاب الذي يدرس في قسم الصحافة بإحدى جامعات أنقرة.
أحمد بكر واحد من أصل حوالي 200 ألف سوري حاصل على الجنسية التركية، حتى آذار/ مارس 2022، وفقاً لتصريح وزير الداخلية التركي سليمان صويلو.
الحاصلون على الجنسية ليسوا أفضل
تشهد تركيا منذ عدة أشهر حالة من “الاستقطاب السياسي الحاد والمبكر بين الأحزاب الراغبة بالوصول إلى السلطة”، ومع اقتراب موعد الانتخابات سيأخذ “شكلاً تصاعدياً”، كما توقع عيسى الكريم (اسم مستعار)، الذي يعمل في إحدى المنظمات الإنسانية السورية بأنقرة.
قبل ثلاث سنوات حصل الكريم وعائلته على الجنسية التركية، لتشكل منعطفاً جيداً وتشعره أنه “أكثر استقراراً”، كما قال لـ”سوريا على طول”، لكن اليوم يتوقع “مستقبلاً غامضاً أمام الانتخابات القادمة التي اعتبرها “مفصلية” بالنسبة للسوريين.
حالة الاستقطاب السياسي التي تشهدها تركي وضعت الكريم وعائلته في مواجهة عدة مواقف عنصرية خلال الأشهر الماضية، كما قال الشاب الذي ينحدر من مدينة حلب، إذ تناهى إلى مسامعه كلاماً عنصرياً من بعض المدرسين والإداريين في مدرسة أولاده خلال توصيلهم إليها، ووصل الأمر إلى حد استبعاد المدرسة “الطلبة من أصول سورية من الصورة التذكارية الجماعية للطلبة، واقتصرت على الأتراك الأصليين فقط”.
وفي حزيران/ يونيو الماضي، حاول الكريم فتح حساب بنكي في العاصمة أنقرة، لكن فور إبراز هويته التركية، قال له الموظف “مكان الولادة حلب. لا يمكن فتح حساب لك”، فردّ الكريم “أنا مواطن تركي. لكن ذلك لم يغير شيء”، لذلك لجأ إلى فتح حساب “في البنك ذاته لكن عبر الإنترنت”، مشيراً إلى أن هذه الحادثة تؤكد أن “الموظف كان عنصرياً، ولا مشكلة في المعاملة”.
عملياً الجنسية التركية تحمي الكريم، ولكن “على أرض الواقع أعامل كسوري”، كما قال، مضيفاً: “العنصرية في تركيا صارت مثل السيل الجارف، ولا يمكنك الوقوف ومواجهة هذا السيل”.
تكرار المواقف العنصرية بحق الكريم وغيره من السوريين جعلته يتقوقع على نفسه وعائلته “أصبحنا نفضّل عدم الاحتكاك بأتراك تجنباً لأي موقف عنصري مستفز”، قال الكريم، وفي حال اضطر أن يحتك مع أتراك أو أن يعرف بنفسه “أقول أنا أردني أو إماراتي، وبذلك يكون التعامل مختلفاً كما لو قلت من سوريا!”.
ومع أن التعرض لموقف عنصري أقل في المعاملات الحكومية عنه في الشارع، ويتوقف على “عنصرية الموظف”، لكن تجنباً لأي موقف مشابه، صار يلجأ الكريم إلى إجراء المعاملات الحكومية عبر الإنترنت، إلا ما يستدعي حضوره الشخصي.
وبدوره، يحاول أحمد بكر إبقاء صداقاته محدودة في الجامعة، وفي لقاء أشخاص جدد في الجامعة “لا أخوض في نقاشات سياسية أو أسئلة غير منطقية، خاصة إذا كانت تتعلق بملف اللجوء السوري”، لكن مع ذلك تعرض لمواقف “مستفزة”، بحسب وصفه، منها عندما سأله أحد الطلاب الأتراك مستنكراً: “هل تفكر بالعودة؟ هناك ناس يعودون، لماذا لا تعود؟”، فاكتفى بكر بالرد “هذا قرار شخصي وأنا تركيّ الجنسية”.
“قانونياً أنا مواطن تركي، لكن على الصعيد الاجتماعي لا يمكن أن تغير الجنسية التركية النظرة تجاهنا”، قال بكر، مشيراً إلى أن “أي موظف حكومي يمكنه أن يتعامل معك كلاجئ وأجنبي”، وحتى إن كان “وضعنا القانوني جيد، فإنه لا يبدد مخاوفنا من الشارع”.
رداً على ذلك، قال الكاتب التركي جلال دمير، أن ما يتعرض له السوريون والأجانب في تركيا لا يمكن إدراجه كاملاً تحت بند “العنصرية”، مشيراً إلى أن هناك “خلط بين العنصرية ومواقف الظلم والإهانة وغصب الحق”، التي تكون أحياناً بين أبناء القومية الواحدة.
أما فيما يخص العنصرية ضد السوريين، اتهم دمير “جهات محددة من المعارضة التركية، تحاول صناعة أجندة لاستخدام هذا الملف لأغراض سياسية”، ورغم تكرار تسجيل الحوادث العنصرية، إلا أنه “لا يمكن وصف المجتمع كامل بأنه عنصري وكاره للسوريين”، وأضاف: “هناك فئة معينة وهدفهم الأساسي الحكومة التركية وحزب العدالة قبل السوريين”.
“حياتنا معلقة”
منذ بدء موجة اللجوء إلى تركيا، حظي الطلبة السوريين بتسهيلات إدارية ومالية كبيرة للالتحاق بالجامعات التركية، وصلت حدّ إعفاء السوريين من الرسوم الجامعية ومعاملتهم معاملة المواطن التركي، لكن هذا الواقع تغيّر في السنوات الأخيرة بعد إلغاء الإعفاء ورفع الرسوم تدريجياً في عدد من الجامعات التركية.
قبل ثلاث سنوات، وصل سيف عبد الحميد إلى تركيا مستفيداً من منحة حكومية لدراسة الماجستير في العاصمة أنقرة، كانت تركيا آنذاك “الخيار الأفضل والأسهل مقارنة بدول الجوار، من حيث توفر منح التعليم للطلبة السوريين”، كما قال لـ”سوريا على طول”، وعليه كان يخطط “استكمال تعليمي والحصول على درجة الدكتوراة، والحصول على الجنسية أملاً بحفظ كرامتي وضمان حرية العيش والسفر”.
لم تتأثر منحة عبد الحميد، لكن منذ مطلع العام الحالي صار يشعر أنا “الحلم تلاشى”، إذ “لا يكاد يمر يوم في الجامعة أو الشارع أو وسائل النقل دون تسجيل موقف عنصري أو نظرة ازدراء على أقل تقدير”، بحسب عبد الحميد.
“حياتنا معلقة”، قال عبد الحميد، الذي يترقب نتائج الانتخابات، وفي أسوأ الأحوال سيبحث “عن طريق تهريب إلى أوروبا”.
كما عبد الحميد، حصلت رانيا العيسى على منحة حكومية تركية لدراسة الدكتوراه، في عام 2018، وفي غضون أشهر أتقنت اللغة التركية، وشكلت دائرة اجتماعية محيطة بها من الأتراك “كنوع من الاندماج في المجتمع التركي”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.
بعد أقل من عامين شعرت العيسى، التي تنحدر من مدينة دمشق، أن حياتها الاجتماعية تسير نحو الأسوأ، وانعدمت في عام 2021 “بشكل مفاجئ وفجّ”، بحسب وصفها، نتيجة تحول العلاقة مع صديقاتها الأتراك “من الحديث عن العادات والتقاليد والاهتمامات العامة إلى نقاشات سياسية بحتة”، ولدت هذه النقاشات شعوراً لديها أن “السوري غير مرغوب فيه”.
“الصدمة الأكبر” بالنسبة للعيسى كانت في مجتمع “النخبة”، حيث “لاحظت تغيراً بتعامل الدكاترة معي في الجامعة بعكس تعاملهم مع صديقة عربية من جنسية أخرى”، وغالباً ما يكون الحديث معهم “عن سوريا والحرب وأحقية البقاء في البلد [تركيا]”.
قانونياً، تُقيم العيسى في تركيا بصفة “طالبة”، وهي حاصلة على إقامة طالب، لكنها في الوقت نفسه بحكم “اللاجئ”، إذ لا يمكنها العودة إلى بلادها، مثل مئات آلاف الطلبة اللاجئين في تركيا، خشية الملاحقات الأمنية في بلادهم، إذ انخرطت بعد وصولها في العمل الإعلامي بوسائل إعلام معارضة للنظام مصرحة عن هويتها الحقيقية، بحسب قولها.
ترك هذا الواقع “ردة فعل سلبية” عند العيسى، بعد أن “اندمجتُ مع الأتراك إلى حدّ اتباع طريقتهم في اللباس ولفة الحجاب”، لكن حالياً “صرت أظهر بما يميزني كسورية بغض النظر عن العواقب”.
قبل الموجة المعادية للسوريين كانت العيسى تبني أحلامها “على جنسية تركية تحقق لي النجاح والاستقرار”، لكن في الحقيقة “تركيا ليست مكان استقرار بالنسبة لي”، وتوقعت أن بعض من يحاول الحصول على الجنسية حالياً من السوريين “يفعل ذلك أملاً في تسهيل خروجه من تركيا وليس للبقاء فيها”، على حد قولها.
واستندت في كلامها على “مغادرة ثلاث أشخاص من الخبرات العلمية السورية، الذين درسوا في جامعات تركيا وحصلوا على جنسيتها خلال شهر واحد، نظراً لعدم شعورهم بقبول المجتمع لهم”.
وصول أقل للعدالة
انعكس استمرار العنصرية والتحريض ضد السوريين في تركيا، وتغيّر موقف الحكومة التركية من اللاجئين على وصول السوريين إلى العدالة أو التقدم بشكاوى قانونية في حال تعرضهم لحوادث عنصرية أو جنائية.
بعد عشر سنوات على إقامتها في تركيا، تشعر سلام العبد الله، 27 عاماً، في السنتين الأخيرتين أنه “لم يعد هناك قانون يحميني، ولا أن أطالب بأبسط حقوقي”، مشيرة إلى أن الشكوى قد تكلفها “الترحيل إلى الشمال فوراً”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.
وبما أن تركيا تخصص لوحات سيارات خاصة لغير الأتراك، تحمل الرمز M، وهي اختصار لكلمة (Misafir)، وتعني “ضيف”، فإن “أي ضرر يلحق بسيارتي نتيجة تعرضها للاصطدام من سيارة تعود لشخص تركي قد يفقدني حقي في المطالبة”، وفقاً للعبد الله، موضحة أن القانون يحفظ حقها في تقديم الشكوى، لكن “ربما يتغاضى الشرطي أو يتهرب التركي عندما يرى أن السيارة تحمل الرمز M”.
تعليقاً على ذلك، قال المحامي غزوان قرنفل، رئيس رابطة المحامين السوريين الأحرار في تركيا، أن الحل الأمثل لمن تعرض لموقف عنصري أو مشكلة أخرى بغض النظر عن نوعها “أن يتقدم بشكوى للنيابة العامة مباشرة، وليس اللجوء لأقسام الشرطة”، إذ “في حال تقديم الشكوى للنيابة مرفقة بالقرائن يتعين عليها تحريك الدعوى بحق المشتكى عليه”، كما أوضح لـ”سوريا على طول”.
وتأتي أهمية هذا الإجراء في ظل “التراخي الحكومي مع كثير من الحالات [الممارسات العنصرية] التي كان يفترض مواجهتها”، وفقاً للمحامي قرنفل.
ويتفق الكاتب التركي جلال دمير مع قرنفل في “وجود تراخٍ حكومي وإهمال في تطبيق القانون تجاه من يقوم بممارسات عنصرية”، لكن “هذا لا يعني أن الحكومة غيرت موقفها الداعم للسوريين”، بحسب قوله.
وذهب دمير إلى أن “بعض الحوادث التي يتم إثارتها تعطى أكبر من حجمها الحقيقي”، متهماً بعض الفئات بأنها “تحاول تضخيم الموضوع وخلق صورة أن تركيا غير آمنة، وأن أي شخص سوري يراجع دائرة الهجرة عرضة للاعتقال”، مستشهداً بحادثة توقيف الصحفي السوري رضوان هنداوي، في 30 حزيران/ يونيو الماضي، بمدينة اسطنبول.
وتداولت وسائل إعلام سورية أن السلطات التركية تنوي ترحيل هنداوي إلى سوريا بعد زيارته إلى دائرة الهجرة لتحديث بياناته، لكن القصة بحسب رواية دمير أن هنداوي كان عليه قيداً أمنياً، “وفي أي دولة في العالم عند مراجعة جهاز أمني أو مكتب هجرة وعليك مشكلة يتم توقيفك للتحقيق قبل أن يطلق سراحك وهو ما حصل مع رضوان”، وفقاً لدمير.
مقابل قصة رضوان هنداوي، الذي أطلق سراحه، تنفذ السلطات التركية حملات أمنية مستمرة ضد سوريين مخالفين لقوانين الإقامة، وينتهي بهم المطاف في شمال غرب سوريا، وهو ما يزيد من شعور السوريين بالهلع والخوف من الترحيل، خاصة مع وجود حالات بين المرحلين يحملون وثائق تركية صالحة.
لذلك، دعا المحامي غزوان قرنفل الشباب السوري في تركيا إلى ضرورة البحث عن مكان آخر غير تركيا “وعدم انتظار قدرهم المحتّم بالترحيل، وهدر وقتهم وصحتهم بالعمل 12 ساعة يومياً مقابل مردود لا يبني مستقبلهم”.
وينطبق كلام قرنفل على السوريين الحاصلين على الجنسية التركية أيضاً “لأن فرصتهم في العمل وتأمين مستقبل جيد لهم هنا محدودة”، كما قال، مشيراً إلى أن المعطيات الحالية تؤكد ما ذهب إليه سابقاً في أن تركيا تعتزم ترحيل أكثر من مليون لاجئ، ضمن ما أطلقت عليه “العودة الطوعية”، متوقعاً أن “يصل العدد النهائي إلى ما لا يقل عن ثلاثة ملايين سوري، ويتم ذلك على مرحلتين، قبل الانتخابات وبعدها”.
أمام هذا الواقع تراود سلام العبد الله مجموعة من الأسئلة يومياً، من قبيل: “ماذا سيحصل غداً؟ هل سيكون عندي منزل أسكنه أو عمل أعمله هنا؟ هل أستطيع البقاء هنا أم أنني سأغادر؟”.