بعد إطلاق سراحهن من سجون النظام.. سوريات ما زلن يبحثن عن النجاة من وصمة المجتمع
"تشير تقديرات الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى ارتكاب قوات النظام السوري ما لا يقل عن 8,013 حادثة عنف جنسي بحق نساء، منذ آذار/مارس 2011 وحتى تموز/يوليو 2020، "
26 يوليو 2020
عمان- لم تكن تعلم ليلى (اسم مستعار) أن يوم خروجها من منزلها في العاصمة دمشق، قاصدة جامعتها، في 24 آب/أغسطس 2014، سيكون تاريخاً فارقا في حياتها. إذ بعد اعتقالها في ذلك اليوم من قبل القوات الحكومية على أحد الحواجز العسكرية، تم نقلها إلى فرع المخابرات الجوية في المزة بتهمة “المساس بسيادة الدولة على صفحتي في فيسبوك”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.
“كان ذلك اليوم أشبه بالكابوس”، كما وصفت ليلى، “تمنيت أن أصحو منه قبل أن تمر سنتان من عمري وكأنهما عشرون سنة، لما شاهدت من مآسي في ذاك الفرع، لم تقتصر على تعرضي لانتهاكات جنسية ولفظية، بل أيضاً مشاهدة أطفال وفتيات قاصرات يتعرضون للاغتصاب أمامي؛ كنت أتألم عليهم أكثر من تألمي على نفسي”.
وتشكل الاعتداءات الجنسية أحد أساليب التعذيب التي تمارسها الأجهزة الأمنية بحق معارضي النظام السوري، لاسيما النساء منهم، منذ اندلاع الثورة السورية في آذار/مارس 2011. إذ “تشير تقديرات الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى ارتكاب قوات النظام السوري ما لا يقل عن 8,013 حادثة عنف جنسي بحق نساء، منذ آذار/مارس 2011 وحتى تموز/يوليو 2020، بينها قرابة 871 حادثة حصلت في مراكز الاحتجاز، وما لا يقل عن 443 حالة بحق فتيات دون سن 18 عاماً”، بحسب ما ذكر مدير الشبكة، فضل عبد الغني، لـ “سوريا على طول”.
ورغم أن المادة (489) من قانون العقوبات السوري النافذ قد نصت على أن “1. من أكره غير زوجه بالعنف أو بالتهديد على الجماع عوقب بالأشغال الشاقة خمس عشرة سنة على الأقل. 2. ولا تنقص العقوبة عن إحدى وعشرين سنة إذا كان المعتدى عليه لم يتم الخامسة عشرة من عمره”، فإن “الجميع بات يدرك، في قرارة نفسه على الأقل، أن تخبط واضطراب الدولة ومؤسساتها العسكرية التي لم يعد يحكمها السوريون فقط، يجبرها على التغاضي عن محاسبة عناصرها وتطبيق القوانين الرادعة عليهم، [بدعوى] أن انتهاكاتهم مباحة طالما أنها تصب في مصلحة رأس النظام، وتبتغي توطيد حكمه”، بحسب ما قالت محامية مقيمة في دمشق لـ “سوريا على طول”.
العنف الجنسي “سلاح حرب استراتيجي”
اعتُقلت عائشة (اسم مستعار) في العام 2011، وكانت تبلغ حينها 26 عاماً، “أمام أعين زوجي وأطفالي الثلاثة في حي باب دريب بريف حمص”، كما روت لـ”سوريا على طول”. و”تم نزع حجابي وجري في الشارع أمام أعين الناس أيضا من دون أن يستطيع أحد تحريك ساكن”. فكان المشهد “أشبه بفيلم رعب”، على حد وصفها.
عقب ذلك “تم اقتيادي إلى أحد الأفرع الأمنية في مدينة حمص، بتهمة أنني أعيش في حي معارض للنظام، حيث تناوب على اغتصابي ثلاثة عناصر من النظام السوري”. مع ذلك، لم تكن عائشة تكترث، كما قالت، “بكل ما كان يحدث لي حينها، فجلّ تفكيري كان بشأن مصير عائلتي والشعور الذي انتابهم بعد اقتيادي بهذه الطريقة المهينة أمام الجميع”.
ويعد استخدام النظام السوري للعنف الجنسي في سجونه “بمثابة سلاح حرب استراتيجي”، كما يلفت عبد الغني، “تمت ممارسته على نحو واسع ومتعمد، كما أعطُيت الصلاحيات لعناصره بممارسته من دون قيد أو محاسبة، وبموافقة ضمنية من الضباط المسؤولين”. والهدف من ذلك هو “إشاعة الذعر في المجتمع السوري الذي يعتبر محافظاً بشكل عام، في شكل من أشكال الانتقام، بغية تدمير النسيج الاجتماعي، وإجبار السكان على الفرار من مناطقهم، وكسر إرادتهم للاستمرار في مطالبهم بالحرية والديمقراطية”. مضيفاً أن “العديد من انتهاكات العنف الجنسي ارتكبت أيضاً على خلفية طائفية”.
من سجون الأسد إلى سجون المجتمع
الخروج من سجون النظام لا تعني بالضرورة بداية نهاية المأساة للنساء المعتقلات، بل ربما العكس، كما تشير تجربة عائشة، منذ اللحظة الأولى للإفراج عنها في العام 2018 بعملية تبادل أسرى بين أحد فصائل المعارضة المسلحة في إدلب وبين النظام، إذ “كان لكل ناج من ينتظره من عائلته بالزغاريد والفرح، إلا أنا”، كما استذكرت.
بعد ذلك، أرادت عائشة العودة إلى عائلتها في حمص، “وعندما عرفت بتهجير أهالي حمص إلى إدلب، بدأت أبحث عن زوجي وأطفالي بين العائلات الحمصية المهجرة”.
عندما وصلت إلى بيت زوجها، أضافت عائشة، “فتح لي الباب أحد أطفالي، فقمت بضمّه وأنا أبكي بحرقة فيما هو ينظر إلي باستغراب. وفي غضون لحظات ظهر زوجي أمامي وبجانبه امرأة عرفت أنها زوجته، وحينها اقتربت منه بلهفة، فسألني: من أنت وماذا تريدين؟ وعندما تذكرني، تحدث إلي بطريقة مهينة وطردني من المنزل، وحرمني رؤية أطفالي الباقين”.
على النقيض من ذلك، أفرج عن ليلى بعد سنتين قضتهما بين زنازين سجون النظام “بعد دفع أمي مبلغ مليوني ليرة لأحد ضباط المخابرات الجوية”، كما قالت، “بعد أن باعت العائلة أرضاً تملكها”.
كما أن “وقوف أمي وأخي إلى جانبي أعطاني دعما كبيراً كي أكمل حياتي؛ إذ استقبلاني في المنزل بلهفة، وقاما بتجهيز أوراق السفر لي على الفور، لأنتقل إلى ألمانيا حيث يقيم خالي، كي أعيش هناك”، كما أضافت. مبررة تصرف عائلتها بأن “جل اهتمام أمي كان منصبّاً على حمايتي من الاعتقال مرة أخرى، وابعادي عن مجتمعنا الضيق من جيران وأقارب استقبلوني منذ خروجي بأسئلة متواترة: ماذا فعلوا بك؟ بالتأكيد اغتصبوك”.
وتلفت فاطمة الأشقر، المعتقلة السابقة والناشطة الحقوقية المقيمة في تركيا حالياً، إلى ما تعتبره “فكرة مغلوطة” لدى المجتمع، مفادها أن “كل النساء اللواتي اعتقلن فاقدات لعذريتهن، وأن جميعهن تعرضن للاغتصاب”. موضحة بالقول: “أنا مثلا لا أنكر أني تعرضت لانتهاك جنسي بضربي وأنا عارية. لكني لم أتعرض للاغتصاب خلال فترة اعتقالي ما بين العامين 2012 و2015”.
أخطر ربما من تلك الصورة النمطية، كما أضافت الأشقر وجود أناس “ينظرون إلى المرأة الناجية من المعتقل على أنها ضحية يسهل استغلالها. وبالتالي إن لم تكن المرأة قوية لتنطلق بحياتها من جديد، ستداس في هكذا مجتمع”.
في هذا السياق أيضاً، رأت الأخصائية النفسية والأسرية السورية رهف محي الدين، المقيمة في الأردن حيث تابعت دعم ناجيات من معتقلات النظام نفسياً، قدمن من سوريا، أن “نظرة المجتمع لدخول المرأة إلى السجن تختلف عن نظرته للرجل. إذ يكون عقاب المرأة على ذلك مضاعفاً: عقاب اجتماعي من جهة، قد يصل بعائلتها إلى التبرؤ منها على أساس أنها مرتكبة للخطيئة، خوفا من توريثها وصمة العار لأبنائها، كما عقاباً نفسيا من جهة أخرى، إذ قد تعاني من الاكتئاب الذي قد يصل بها إلى الانتحار. كذلك، قد تعاني الناجية اقتصاديا؛ فإن أرادت الحصول على فرصة عمل يتم نبذها، خاصة إن كان مجتمعها ضيقا”.
وبذلك، كما تحذر محي الدين، يكون المجتمع بتعنيفه للناجيات “اغتصبهن روحيا وفكريا، وبما قد يدفع ببعضهن إلى اتباع سلوكيات خاطئة باستثمار أجسادهن كردة فعل على تعنيف المجتمع، مبررات لأنفسهن ذلك بأن الجميع تخلى عنهن، والجميع يحاول استغلالهن، فلم لا يستغلين هن أنفسهن”.
هكذا، يبدو مفهوماً أن “نسبة الإناث اللواتي تحدثن عن تعرضهن للعنف الجنسي لا تتجاوز 15% من العدد الكلي لهن”، بحسب عبد الغني. كما يطلب “معظم النساء إخفاء هويتهن وإبقاء شهاداتهن سرية، كما إخفاء المعلومات كافة التي تدل عليهن في حال قمنا باستخدام رواياتهن لأهداف التقارير التي نقوم بنشرها”. علماً أن “توثيق الانتهاكات المتعلقة بالعنف الجنسي هي إحدى أصعب الانتهاكات التي نقوم بتوثيقها”، كما ذكر عبدالغني، بحيث “نعمل جاهدين عند توثيقها على تجنيب الضحية تبعات استعادة الذكريات والألم”.
الحياة ستستمر رغم كل الظروف
فوق كل القيود السابقة، التي تفسر “ندرة” الناجيات من المعتقلات اللواتي يراجعن العيادات النفسية شمال غرب سوريا، كما أكد أحد الموظفين المدربين على تقديم الدعم النفسي في إحدى عيادات إدلب النفسية، طلب عدم ذكر اسمه لأنه غير مخول بالتصريح للإعلام، تبرز معضلة هي “عدم توفر الإمكانات الطبية للتعامل مع تلك الحالات”.
وكما أوضح المصدر ذاته، تقوم آلية التعامل مع الناجية، بداية، على “دعم نقاط القوة لديها للنهوض بنفسيتها. وإن كانت بحاجة لتدخل دوائي فيمكننا تقديمه لها”. فيما لا تتوافر مستلزمات التعامل مع “الحالة مستعصية، بمعنى أن يكون لديها ميول انتحارية أو تعاني اكتئاباً حاداً يستدعي العلاج بالصدمات الكهربائية أو التنويم المغناطيسي وجلسات علاجية متطورة”.
مع ذلك، ورغم رفض عائلتها لها، فإن عائشة قررت المضي في حياتها. فبعد قرابة خمسة أشهر من انتقالها للعيش وحدها في أحد مخيمات النازحين شمال سوريا، “قرأت عن فرصة عمل تطوعية للنساء في مديرية الدفاع المدني، فقلت لنفسي لم لا أكمل حياتي في مساعدة الآخرين”، كما روت. وفعلاً “تطوعت معهم، لعلّي أعيش حياة كريمة بعيدة عما عشته سابقاً، كي أرفع رأس أطفالي عاليا، علّهم يفتخرون باسمي يوما، ويعلموا أن أمهم ليست سيئة السمعة بل كانت ضحية مجتمع عار”.
أما في حالة ليلى، فإن خروجها من سوريا إلى ألمانيا “فتح لي آفاقا جديدة”، كما قالت. مفسرة ذلك بكون “تقبلي للمجتمع الجديد مريح كون الجميع يتعاملون معي من دون أن يعرفوا عني شيئا”. وقد تمكنت من التسجيل بإحدى جامعات برلين لدراسة تخصص الحقوق، “كي أقاضي مستقبلا كل مجرمي الحرب ومغتصبي الحريات”.
ورغم أن “عيش النساء الناجيات في أوروبا يعد أفضل من عيشهن في المجتمعات العربية، لأنه بمثابة مجتمع جديد، يخلصهن من وصمة العار ليبدأن حياة جديدة”، كما قالت محي الدين، فإن هذا “لا يعني عدم حاجتهن لدعم نفسي واجتماعي، يمكن أن يتعزز بوجود أشخاص داعمين من الأقارب والأصدقاء هناك”.