8 دقائق قراءة

بعد سقوط الأسد: المنظمات السورية تسد الفراغ إغاثياً وسط غياب الجهات الدولية

تسابقت المنظمات الإغاثية السورية من أجل الاستجابة للاحتياجات الإنسانية على لأرض فور انهيار نظام الأسد، على عكس المنظمات الدولية والجهات المانحة الرئيسية، التي كانت حركتها مشلولة إلى حد كبير.


13 ديسمبر 2024

مرسيليا – مع اجتياح فصائل المعارضة السورية المدن السورية واحدة تلو الأخرى حتى إسقاط الأسد، في أقل من أسبوعين، ارتفعت الأسعار وتوقف النشاط الاقتصادي في بلد بالكاد يستطيع غالبية سكانه تأمين احتياجاتهم المعيشية.

عندما سقط الأسد، في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الحالي، كان 90 بالمئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر. 12.9 مليون نسمة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، فيما 16.7 مليون نسمة، أي أكثر من 70 بالمئة من السكان، يحتاجون إلى مساعدات إنسانية.

تحركت منظمات الإغاثة السورية فوراً، وكرّست ما لديها من وسائل من أجل الاستجابة الطارئة. في غضون أيام، وزعت تلك المنظمات الخبز والسلال الغذائية، معتمدة على ما لديها من أموال (في صندوق المؤسسة) ومساهمات الموظفين والتبرعات الخاصة، بينما غابت المنظمات الدولية والجهات المانحة الرئيسية عن المشهد.

تشبه الفجوة بين الاستجابة المحلية والدولية -التي ما تزال مستمرة- ما حدث في أعقاب زلزال السادس من شباط/ فبراير 2023، الذي ضرب شمال سوريا وجنوب تركيا، عندما قادت المنظمات السورية جهود الإنقاذ والإغاثة العاجلة.

غالباً تكون آلية تقديم المساعدات لسوريا عبر الجهات المانحة التي تقدم الدعم للمنظمات الدولية، وبدورها تقوم الأخيرة بتحويل الأموال إلى المنظمات السورية الموجودة في الأردن وتركيا وسوريا.

”حتى الآن، لم تعطِ المنظمات الدولية الضوء الأخضر للشركاء المحليين بأنها ستقدم التمويل أو أي شيء، وما يزالون مندهشون مما حدث، لأنه لم يكن متوقعاً”، كما قال لـ”سوريا على طول”، يوم الإثنين، محمد الجندلي، مؤسس ورئيس مجلس إدارة هيئة الإغاثة الإنسانية  (IYD)، وهي منظمة إغاثية سورية مسجلة في تركيا.

وبينما تبذل المنظمات السورية ما في وسعها، إلا أن استجابتها تقوضت بسبب نقص التمويل، كما أوضح المهندس سعيد نحاس، رئيس مجلس إدارة منظمة “سند”، منظمة سورية تدعم السوريين من ذوي الإعاقة في سوريا وتركيا، قائلاً لـ”سوريا على طول” يوم الثلاثاء: “باستجابة سريعة لكنها غير كافية. وللأسف، لم تتحرك المنظمات الدولية والجهات المانحة الدولية حتى الآن”.

لا تزال منظمة “ميرسي كور”، إحدى أكبر المنظمات الدولية غير الحكومية العاملة في سوريا، في مرحلة تقييم الاحتياجات، حتى يوم الثلاثاء، كما قالت “ميلينا مر”، مديرة الاتصالات في المنظمة لـ”سوريا على طول”، مشيرة إلى أن منظمتها “تراقب عن كثب التطورات في سوريا، وتجري تقييماً لفهم الاحتياجات المتغيرة على الأرض بشكل أفضل”.

وتواصلت “سوريا على طول” مع لجنة الإنقاذ الدولية (IRC)، أمس الخميس، لكنها رفضت الرد على الاستفسارات لأن “الوضع في تطور مستمر”، كما جاء في الرد.

العقوبات تعرقل العمل

قال مصدر رفيع المستوى في منظمة غير حكومية دولية أخرى لها تواجد كبير في شمال سوريا لـ”سوريا على طول”، يوم الخميس، أن المنظمة “لم تعمل بعد في المناطق التي كانت تحت سيطرة النظام سابقاً بسبب وجود هيئة تحرير الشام”.

ويعود ذلك إلى أن حكومة الولايات المتحدة، وهي أكبر مانح فردي للمساعدات الإنسانية في سوريا، أبلغت المنظمة “التريث حتى نرى ما سيحدث”، بحسب المصدر، لافتاً إلى أن منظمته والعديد من المنظمات الأخرى تعمل أصلاً في مناطق هيئة تحرير الشام بمحافظة إدلب، شمال غرب سوريا، منذ عدة سنوات، بعضها بتمويل من الحكومة الأميركية.

تشكل هيئة تحرير الشام القوة الرئيسية في الحكومة السورية الانتقالية الحالية، وهي مدرجة على قائمة العقوبات باعتبارها مصنفة كـ”منظمة إرهابية” من قبل الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. فُرضت العقوبات في عام 2014 عندما الجماعة، المعروفة آنذاك باسم “جبهة النصرة”، فرعاً لتنظيم القاعدة في سوريا، قبل أن تقطع علاقتها علناً في عام 2016.

وتدرس الأمم المتحدة رفع هيئة تحرير الشام من قائمة المنظمات الإرهابية إذا ما استوفت شروطاً معينة، بحسب مسؤولين كبار، كما تدرس الولايات المتحدة اتخاذ خطوة مماثلة بحسب تقارير.

”في النهاية، هيئة تحرير الشام مصنفة على أنها منظمة إرهابية تسيطر على هذه المناطق، لا يمكننا فعل أي شيء”، بحسب المصدر، مضيفاً: “نحن ننتظر الرد الأمريكي، [لنرى] ما إن سيتم شطبها من قائمة المنظمات الإرهابية، فالأمر كله يعتمد على الحكومة الأمريكية”.

من جهته، قال سارية عقاد، منسق “تحالف المنظمات السورية غير الحكومية”، وهو شبكة تضم 23 منظمة غير حكومية سورية تعمل في سوريا منذ أكثر من عشر سنوات، أن العقوبات المفروضة على هيئة تحرير الشام منعت في الماضي بعض المنظمات غير الحكومية من التسجيل لدى حكومة الإنقاذ التابعة لها للعمل في إدلب.

وقال حسن جنيدي، المدير التنفيذي لمنظمة تكافل الشام، لـ”سوريا على طول”: “إن تصنيف بعض الكيانات [كمنظمات إرهابية]، بالإضافة إلى العقوبات المالية التي لا تزال سارية المفعول، يجعل من الصعب علينا تحويل الأموال إلى سوريا”،  كما أن معظم المصارف السورية تخضع للعقوبات حتى الآن، وأبرزها مصرف سورية المركزي.

ومع ذلك، فإن المنظمات السورية العاملة على الأرض ”ليس لديها قيود مثلنا [المنظمات الدولية غير الحكومية]“، كما أضاف المصدر رفيع المستوى من المنظمة الدولية. لذا، تمكنت هذه المنظمات من توسيع عملياتها بسرعة في أجزاء جديدة من سوريا بعد خروجها من قبضة النظام منذ 27 تشرين الثاني/ نوفمبر. 

“كان الناس فرحين، وعيونهم [تلمع] ابتهاجاً بسقوط هذا النظام المستبد”، قال الجندلي، مضيفاً: ”سيكون المستقبل أفضل وأجمل إن شاء الله. هذا وحده كافٍ بالنسبة لنا للعمل”، وقد عبرت هيئة الإغاثة الإنسانية ومنظمات سورية أخرى الحدود من تركيا إلى سوريا بعد أيام من سيطرة المعارضة المسلحة على حلب، وهي أول المدن الرئيسية التي تسقط، في نهاية تشرين الثاني، نوفمبر.

عمال من منظمة تكافل الشام يوزعون الخبز على المدنيين في مدينة حلب، 30/ 11/ 2024، (تكافل الشام)

عمال من منظمة تكافل الشام يوزعون الخبز على المدنيين في مدينة حلب، 30/ 11/ 2024، (تكافل الشام)

تحديات لا حصر لها

اعتباراً من العاشر من كانون الأول/ ديسمبر، حصلت منظمتا تكافل الشام وشفق على الضوء الأخضر من بعض المنظمات الدولية ومنظمات الأمم المتحدة للبدء بتوزيع الخبز. ومع ذلك، ”ما زال هناك عجز مالي بسبب عدم زيادة الميزانيات”، بحسب جنيدي من تكافل.

وأضاف: ”كان هناك انخفاضاً كبيراً في التمويل سابقاً، وأدى فتح هذه المناطق الكبيرة [أمام الجهات الإغاثية] إلى عجز كبير في توفير الاستجابة”. في السابق، لم تكن معظم المنظمات غير الحكومية الممولة من الغرب قادرة على العمل في مناطق سيطرة النظام، واقتصر جهودها على مناطق سيطرة المعارضة أو قوات سوريا الديمقراطية.

أدى انخفاض التمويل الكبير في السنوات الأخيرة إلى تقليص الاستجابة الإنسانية في سوريا، ما جعل المنظمات تعاني من نقص في التمويل والأفراد. خطة الأمم المتحدة للاستجابة في سوريا لعام 2024، التي تدعو إلى دعم بقيمة 4.1 مليار دولار، لم يتم تمويلها حالياً إلا بنسبة 31.6 بالمئة فقط، واضطر برنامج الأغذية العالمي، في كانون الثاني/ يناير، إلى تعليق جميع المساعدات الغذائية العينية في سوريا.

ولكن، إلى جانب نقص التمويل، تواجه المنظمات السورية عدداً لا يحصى من التحديات في المناطق الجديدة التي فتحت أمامها، إذ إن انعدام الأمن والبنية التحتية المدمرة والعقوبات الاقتصادية كلها تعيق عمل الجهات الفاعلة الإنسانية، بحسب جنيدي.

”لدينا الكثير من التحديات حتى الآن، أولها غياب التنسيق”، وفقاً لعقاد، إذا “ما زلنا ننتظر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية لوضع الهيكلية الجديدة في مكانها الصحيح”. 

قبل أن تسيطر قوات المعارضة على جميع المناطق التي كانت تحت سيطرة النظام السوري تقريباً، كانت الجهات الفاعلة الإنسانية الدولية والمحلية في سوريا والأردن وتركيا منعزلة، حيث كان كل منها يركز على جزء مختلف من البلاد. على سبيل المثال، يركز مركز تركيا على مناطق المعارضة في شمال غرب سوريا، بينما مركز دمشق على مناطق سيطرة النظام.

“يجب أن يكون لدينا جدول زمني من أجل الحصول على استجابة واحدة يقودها أحدنا. نحن نعتبر أن مركزي غازي عنتاب وعمان [هما] أكثر خبرة من المركز في دمشق بسبب القيود السابقة، التي فرضها النظام وما ترتب عليها من غياب المعايير الإنسانية”، قال عقاد.

الحاجة المتزايدة بعد العودة والنزوح

بينما يتنفس ملايين السوريين الصعداء ويفكرون في العودة إلى المناطق التي نزحوا منها، فإن الحاجة إلى الدعم الإنساني على الأرض ما تزال ملحة أكثر من أي وقت مضى.

”إن الوضع كارثي، وجميع الاحتياجات مطلوبة. هناك نزوح داخلي هائل يتطلب كل شيء”، قال المهندس نحاس من منظمة “سند”.

مع سيطرة قوات المعارضة على معظم أنحاء البلاد، غادر أو نزح أكثر من مليون سوري في غضون إسبوعين. فرّ بعضهم من الأعمال العدائية، فيما عاد آخرون إلى منازلهم ومجتمعاتهم التي أجبروا على تركها منذ سنوات، إضافة إلى عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا ولبنان والأردن، الذين عادوا للقاء عائلاتهم أو تفقد منازلهم.

وقال الجندلي من هيئة الإغاثة الإنسانية: ”لقد رأيت الكثير من الناس يأتون لرؤية منازلهم [وتقييم] ما إذا كان بإمكانهم الانتقال إليها أم لا“، لافتاً إلى أن معظمهم ”صُدموا“ عندما اكتشفوا أنهم لا يستطيعون العودة قبل إجراء عمليات ترميم.

”إنهم فقراء، ولا قدرة لهم على تحمل تكاليف ترميم منازلهم، لذا عليهم الانتظار لمعرفة ما ستفعله المنظمات غير الحكومية“، بحسب جنيدي، لذا “عاد جزء كبير منهم إلى خيامهم” في مخيمات النزوح الداخلية.

اقرأ المزيد: “كالجراد”: “قوات الهدم” ومجموعات تابعة للنظام السوري تنهب منازل المهجرين (صور)

وأضاف نحاس: “في السابق كان الوضع سيئاً للغاية، والآن أصبح أسوأ، بسبب توقف العمل و عدم وجود رواتب للموظفين”.

مع انهيار نظام الأسد، لم يتم دفع الرواتب الحكومية وتوقف الاقتصاد، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل كبير، ففي حلب وإدلب، ارتفع سعر الخبز في بنسبة 900 بالمئة.

وما يزال الطلب مرتفعاً على الخدمات الأساسية، كالغذاء والرعاية الصحية والتعليم والصرف الصحي والإغاثة، وفقاً لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية والمنظمات الإغاثية السورية التي تحدثت لـ”سوريا على طول”.

وقد حذر خبراء الإغاثة من أن المساعدات الإنسانية وحدها ليست مستدامة ولا فعالة. وبدلاً من ذلك، فإنهم يدعون إلى التعافي المبكر، بمعنى الانتقال من المساعدات الطارئة إلى حلول تنموية طويلة الأجل. 

”لدينا استراتيجية إنعاش مبكر لسوريا، ونحن بحاجة إلى البدء في تنفيذ تلك الاستراتيجية مع الأخذ بعين الاعتبار التغيرات الأخيرة“، بحسب عقاد.

وأضاف نحاس: ”سوريا بحاجة إلى كل شيء“، مشيراً إلى أنهم ”مستعدون، ونعمل بمواردنا الأساسية، ولكننا بحاجة إلى خطة مستدامة لخدمة هذه المنطقة المنكوبة”.

اقرأ المزيد: قطع الدعم الغذائي عن ملايين السوريين: أزمة الاستجابة بنيوية تتعلق بغياب “الحلول المستدامة”

تجديد الدعوة للتوطين

قد يكون أحد الحلول للاستدامة هو التوطين – وهو مصطلح يُستخدم في قطاع المساعدات ويشير إلى ”تمكين المستجيبين المحليين… للاستجابة للأزمات وتعزيز الاستدامة على المدى الطويل“، وفقًا لأحد تعريفات الاتحاد الأوروبي. 

كما حدث بعد زلزال شباط/ فبراير 2023، أظهرت الأحداث الأخيرة أن المنظمات غير الحكومية السورية هي أول من يستجيب على الأرض، مع إمكانية الوصول والمرونة التي لا تتمتع بها المنظمات غير الحكومية الدولية.

في السنوات الأخيرة، ضغطت المنظمات السورية من أجل اتباع نهج أكثر محلية، داعيةً إلى توجيه التمويل مباشرةً عبرها بدلاً من أن يتدفق من المنظمات غير الحكومية الدولية ذات مصاريف إدارية مرتفعة. 

اقرأ المزيد: “الاستجابة الحقيقية”: الزلزال يكشف أهمية دور منظمات الإغاثة السورية في ظل عجز الأمم المتحدة

وقد ذكرت إحدى الدراسات، التي أجريت عام 2016 حول توطين المساعدات، أن المنظمات السورية لديها ”إمكانات أكبر للعمل الإنساني وأكثر ملاءمة واستدامة وفعالية“ من الجهات الفاعلة في مجال المساعدات الدولية.

ولكن، بدلاً من توطين جهود الإغاثة بشكل حقيقي، تجاوزت المنظمات غير الحكومية الدولية في السنوات الأخيرة المنظمات غير الحكومية السورية، وركزت مباشرة على المنظمات المجتمعية الصغيرة، بحسب جنيدي، قائلاً: ”إنهم يملكون كل القوة، ولا يسمحون للآخرين بالمشاركة“. 

يعتقد جنيدي أن المنظمات غير الحكومية السورية تعرضت للتهميش، لأنها رفعت صوتها للمطالبة بتوطين المساعدات، لافتاً إلى أن المنظمات غير الحكومية الدولية “بدأت تذهب إلى المنظمات المجتمعية لأنها لا تملك امتداداً دولياً في مجال المناصرة والضغط مثل المنظمات غير الحكومية المحلية.”

وأوضح قائلاً: ”مشكلتنا لا تكمن في نقل السلطة من المنظمات غير الربحية المحلية إلى المنظمات المجتمعية، بل في كيفية نقل السلطة من المنظمات غير الحكومية الدولية إلى المنظمات المحلية غير الربحية والمنظمات المجتمعية“.

في ورقة مناصرة لعام 2023، حدد تحالف المنظمات غير الحكومية السورية عدة عوائق أمام التوطين، بما في ذلك ”محدودية التمويل والموارد للجهات الفاعلة المحلية، وانعدام الثقة بين الجهات الفاعلة الدولية والمحلية، ومحدودية الفرص المتاحة للجهات الفاعلة المحلية للمشاركة في عمليات صنع القرار“.

وخلص عقاد إلى أنه “لدينا إمكانية الوصول، وليس لدينا عقبات تحول دون دعم الناس الفوري”.

شارك هذا المقال