بعد سنوات من الحرب: مستقبل جامعيين سوريين بيد سماسرة وموظفي الدولة
لاستخراج الوثائق من الجامعات الحكومية السورية، يتعين على الطالب تقديم الطلب باليد أو عبر وكيل بوكالة قانونية، وإذا كان مطلوباً للأجهزة الأمنية يضطر إلى دفع مئات الدولارات للحصول عليها عبر سماسرة وموظفين حكوميين.
22 مارس 2024
الحسكة- بعد أسبوع من التفاوض، خفض موظف حكومي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة حلب قيمة “الرشوة” من ستة ملايين ليرة سورية (433 دولار أميركي)، إلى خمسة ملايين (361 دولاراً) مقابل استخراج كشف علامات يثبت دراسة نور عيسى (اسم مستعار) في قسم اللغة الإنجليزية بالجامعة.
حصلت عيسى على بكالوريوس من كلية الآداب بجامعة حلب، تخصص اللغة الإنجليزية، في عام 2012، ومعها “مصدقة تخرج” تثبت ذلك، لكنها تحاول استكمال الدراسات العليا في إحدى الجامعات خارج سوريا، ويجب عليها تقديم كشف علامات كأحد الأوراق المطلوبة، كما قالت لـ”سوريا على طول”.
في الشهر الماضي، حاولت عيسى، 33 عاماً، المقيمة في مدينة القامشلي، شمال شرق سوريا، صياغة وكالة قانونية لوالدها في المحكمة التابعة للنظام السوري بمدينة الحسكة، تخوله استخراج كشف العلامات نيابة عنها، لكن موظف المحكمة أخبرها أن “الوكالة تحتاج إلى موافقة أمنية”، وكونها “مطلوبة للنظام” بحثت عن طرق أخرى عبر سماسرة أو موظفين حكوميين للحصول على الكشف.
قبل أن تتفق عيسى مع الموظف الحكومي على دفع خمسة ملايين، طلب منها أحد السماسرة مبلغ 600 دولار لاستخراج الكشف من الجامعة، التابعة لوزارة التعليم العالي في حكومة دمشق، أي ضعف المبلغ تقريباً.
“بهالبلد كل شي ينحل بالمصاري، أنا مضطرة أدفع حتى ما تضيع ثمرة دراستي”، قالت عيسى بلهجتها المحلية، متأملة استلام كشف العلامات خلال أسبوعين كما وعدها الموظف، وأن تحقق حلمها باستكمال مشوارها التعليمي.
لاستخراج الوثائق الجامعية: مصدقة تخرج، كشف علامات، أو الشهادة الكرتونية، يتعين على الطالب تقديم الطلب باليد أو عبر وكيل بوكالة قانونية، وهو ما لا يمكن لعيسى فعله، لأنها مطلوبة للأمن العسكري والسياسي، إذ سبق وأن تحققت من اسمها عبر ما يعرف بـ”الفيش”، وهي عملية يتأكد فيها الشخص إذا كان مطلوباً لجهة أمنية أم لا.
وبذلك، كان الخيار الوحيد أمام عيسى، كما غيرها من المطلوبين للنظام أو المتواجدين خارج البلاد وليس بمقدورهم توكيل من ينوب عنهم، دفع ملايين الليرات لسماسرة أو موظفين حكوميين.
ظاهرة دفع الرشاوى للعاملين في مؤسسات النظام بشكل مباشر أو عبر سماسرة متواطئين معهم متجذرة في تاريخ سوريا الحديث، تحت مسميات مختلفة: حلوان، إكرامية، ثمن فنجان قهوة. الفساد المالي من القضايا التي أسهمت في مشاركة العديد من السوريين بثورة آذار/ مارس 2011 التي تحولت إلى حرب.
وفيما كان السوريون يعلقون الآمال في انتفاضتهم على تحسن الظروف المعيشية والقضاء على الفساد في مؤسساتهم الحكومية، مرت الذكرى الثالثة عشرة للثورة وقد ارتفعت قيمة الرشاوى وانتشرت في العديد من القطاعات الحكومية، وصارت تُطلب “علناً” وبالدولار الأميركي، كما قال العديد من الطلبة لـ”سوريا على طول”.
من مئة ليرة إلى ملايين
درس حسام عبد (اسم مستعار)، 37 عاماً، ثلاث سنوات في قسم علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة حلب. وفي سنته الرابعة، وكان ذلك عام 2010، قدم طلب استعجال للالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية، على أمل “كسب الوقت” باستكمال العام الدراسي الأخير خلال الخدمة.
أثناء خدمته العسكرية اندلعت شرارة الثورة السورية، وانحازت مؤسسة الجيش لصالح النظام في قمع المتظاهرين، ما دفع عبد، المقيم حالياً في مدينة الحسكة بمناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، إلى الفرار من الخدمة، عام 2012، ولم ينه حينها المقررات الجامعية.
كان عبد يحلم بالتخرج من جامعته والعمل في اختصاصه بالقطاع التعليمي، وأن يساهم في “تطوير العملية التعليمية والتربوية”، لكن مستقبله تحول من الحلم بأن يكون “مرشداً نفسياً” إلى عامل تمديدات صحية، كما قال لـ”سوريا على طول”.
منذ أشهر سأل عبد عن إمكانية استخراج كشف علامات من جامعة حلب وفي نيته استكمال دراسته الجامعية في جامعة أخرى، لكن عندما سمع بأن التكلفة تصل إلى “ألف دولار تقريباً”، عدل عن استخراجه، قائلاً: “ألف دولار تؤمن معيشة عائلتي لخمسة أشهر”، عدا عن أنه “لا فائدة من شهادة جامعية في بلد لا مستقبل فيه”.
واستنكر عبد الواقع الذي وصلت إليه البلاد، إذ كان دفع الرشاوى يقتصر على بعض القطاعات، من قبيل شرطة المرور أو موظفي بعض دوائر الدورة، وكانت تتراوح بين 100 و500 ليرة (بين 2 و10 دولار، بحسب سعر الصرف قبل عام 2011)، لكنهم اليوم “يطلبون الملايين مقابل ورقة”، بحسب قوله.
تواصلت “سوريا على طول” مع سمسار في العاصمة دمشق، لمعرفة “تسعيرة” حصول الطلبة على أوراقهم الجامعية من جامعة دمشق، فقال المصدر أن السعر يختلف من شخص لآخر بحسب وضعه، فتنخفض التكلفة “إذا كان يمكنه توكيل غير بوكالة قانونية”، كما أوضح لـ”سوريا على طول”.
وأشار المصدر إلى أن تكلفة إصدار مصدقة تخرج أو كشف علامات للشخص المطلوب تبلغ 300 دولار لكل ورقة، بينما تصل تكلفة استصدار الشهادة الكرتونية إلى 500 دولار من دون ترجمتها وتصديقها من وزارة الخارجية ووزارة العدل.
أما في حلب، تبلغ تكلفة استخراج كشف العلامات 500 دولار، يضاف إليها 200 دولار للتصديق والترجمة، و300 دولار لمصدّقة التخرج، يضاف إليها 150 دولار لتصديقها وترجمتها، و600 دولار للشهادة الكرتونية، يضاف إليها 200 دولار للترجمة والتصديق، بحسب سمسار يعمل في استخراج الوثائق الجامعية في حلب، تواصلت معه “سوريا على طول” للاستفسار عن الأسعار.
وأضاف المصدر من حلب أنه “يستغرق استخراج مصدقة التخرج وكشف العلامات أسبوعاً أو أكثر أما الشهادة الكرتونية تستغرق عدة أشهر”، مشيراً إلى أن المبالغ التي ذكرها “غير ثابتة، لأنها تزيد أو تنقص بناء على حالة الطالب”، ويقصد هنا حالته الأمنية.
تمر عملية استخراج الأوراق مقابل المال (الرشوة) عبر عدة أشخاص، بدءاً من السمسار الذي يفاوض الطلبة وصولاً إلى الموظف أو الموظفين المعنيين بإصدار الورقة في الدائرة الرسمية، كما قال موظف حكومي في جامعة حلب لـ”سوريا على طول” شريطة عدم ذكر اسمه لدواع أمنية.
ولم ينكر الموظف تقاضيه رشوة مقابل “مساعدة الطلبة في الحصول على أوراقهم”، على حد وصفه، مؤكداً أن العديد من الموظفين يأخذون حصتهم من هذه العملية “مقابل المساعدة”، قائلاً: “أنا لست خجلاً، لأن راتبي لا يكفيني لمصروف خمسة أيام في الشهر، فماذا أفعل بباقي الأيام؟”.
وأشار الموظف إلى أن راتبه ثلاثمئة ألف ليرة (21.5 دولار، بحسب سعر الصرف في السوق السوداء، البالغ 13850 ليرة للدولار)، وبهذا الراتب فإن “الحكومة أجبرتنا على أخذ الفلوس مقابل الأوراق التي نصدرها للطلاب”، على حد قوله.
أسهم الارتفاع الكبير في معدلات الفقر، وانتشار النشاطات الاقتصادية غير الشرعية، وتقييد وسائل الإعلام، في تحول ظاهرة الرشوة إلى ممارسة عامة في سوريا، كما جاء في تقرير سوريون من أجل الحقيقة والعدالة المنشور في أيلول/ سبتمبر 2022.
وجاء في التقرير “يبدو جلياً أن الرشوة -وسواها من مظاهر الفساد في سوريا- ليست مجرد ظاهرة، ولا تقتصر على بعض القطاعات فحسب، بل هي بنية ومنهجية جذرية ما زالت تسيّر كافة نواحي الحياة في البلاد”.
وفيما تُعدّ بعض الأوراق الأكثر طلباً، إلا أن قائمة الخدمات التي يقدمها السماسرة وبعض الموظفين الحكوميين أكبر من تلك المحصورة بـ”مصدقة التخرج، وكشف العلامات”، بحسب الموظف في جامعة حلب، مشيراً إلى أنه يمكن استخراج علامة مادة قبل صدور النتائج الرسمية، و”تتراوح تكلفة هذه الخدمة بين خمسة وعشرة آلاف ليرة (0.36 و0.72 سنتاً).
وأيضاً، مصدقة تأجيل الخدمة العسكرية هي من الأوراق التي يطلبها الطلبة عبر السماسرة والموظفين “مقابل دفع المال”، بحسب الموظف، مشيراً إلى أن تسعيرة استخراج هذه الورقة أكبر من الأوراق الأخرى.
وتُسعر تكاليف استخراج الأوراق “حسب أهمية الورقة، وعدد الموظفين الذين سيشاركون في العملية”، وفقاً للموظف، قائلاً: “إذا كانت الورقة عند موظف واحد تكون تكاليف استخراجها أقل، بينما إذا عمل أكثر من شخص فيها، يجب أن يُوزع المبلغ بين الموظفين وبحسب الاتفاق بينهم”.
في مطلع آذار/ مارس الحالي، تم إحالة عدد من الموظفين في كلية الآداب بجامعة حلب، بينهم رئيس شعبة الامتحانات وموظفة في قسم علم الاجتماع للتحقيق، بحسب موظف الجامعة، مشيراً إلى أن الاعتقال جاء على خلفية “تهم تتعلق بالفساد وتزوير الأوراق”.
استغلال المغتربين
بمجرد معرفة السماسرة أو الموظف بأن الطالب أو الطالبة خارج البلاد حتى يتضاعف سعر الخدمة، لا سيما على أولئك المقيمين في أوروبا.
قبل عامين، حاول الشاب أحمد علي (اسم مستعار)، 33 عاماً، وهو لاجئ سوري مقيم في هولندا، استخراج مصدقة تخرج وكشف علامات وشهادة التخرج وترجمتها وتصديقها من وزارة الخارجية، ولكن عند معرفة السمسار بأنه في أوروبا طلب منه حوالي 2500 دولار، فألغى فكرة استخراجها، كما قال لـ”سوريا على طول”.
أنهى علي، الذي ينحدر من مدينة المالكية (ديريك)، أقصى شمال شرق سوريا، دراسته الجامعية في كلية الحقوق بجامعة حلب، في عام 2020، وغادر البلاد فوراً “هرباً من الخدمة العسكرية الإلزامية في صفوف النظام”، قبل استلام أوراقه وشهادته الجامعية.
عبّر علي عن أسفه لما وصل إليه الفساد في سوريا، قائلاً في حديثه لـ”سوريا على طول” عبر تطبيق واتساب من مكان إقامته: “تحولت أحلامنا من بناء مستقبل لنا في سوريا إلى مجرد إخراج ورقة مقابل مبالغ ضخمة”.
في حالة المصادر التي تحدثت مع “سوريا على طول” من أجل هذه المادة، كان الدافع وراء اللجوء إلى السماسرة أنهم مطلوبين للأجهزة الأمنية، لكن هذا لا ينفي أن الطلبة اللاجئين يتعرضون للابتزاز من أجل استخراج الأوراق، وكذلك أولئك الذين يتقدمون بطلباتهم باليد “يتحتم عليهم دفع الرشوة لتسريع استخراجها”، بحسب الموظف الحكومي في جامعة حلب.
ومثال ذلك، ما حدث مع كمال حسن (اسم مستعار)، 24 عاماً، الذي اضطر إلى دفع مبلغ 50 دولار لموظفٍ في جامعة الفرات الحكومية بمدينة الحسكة، قبل أربعة أشهر، مقابل استخراج إشعار تخرج، رغم أنه تقدم بطلبه شخصياً وهو غير مطلوب للخدمة العسكرية ولا يحتاج إلى وكالة قانونية، كما قال لـ”سوريا على طول”.
تخرج حسن من كلية الاقتصاد في جامعة الفرات أواخر عام 2023، وقدم على وظيفة محاسب مالي في وكالة إعلامية محلية بمدينة القامشلي، لكن الوكالة اشترطت عليه تقديم إثبات تخرّج، ولأن “الحصول على مصدقة التخرج يستغرق عدة أسابيع بسبب روتين وبيروقراطية المعاملات”، قدم على طلب إشعار تخرج.
“أخبرني موظف الجامعة أن الإشعار أيضاً صعب للغاية، وعندها علمت أنه يريد رشوة”، بحسب حسن، الذي دفع المبلغ وحصل على الإشعار في غضون أربعة أيام، قائلاً: “لو لم أدفع كانوا سيماطلون في الأمر، وكنت سأخسر الوظيفة”.
يعكس أحدث تقرير سنوي صادر عن منظمة الشفافية الدولية، الذي يرصد حالتي الشفافية والفساد في 180 دولة حول العالم، واقع سوريا، التي حافظت على المركز قبل الأخير في قائمة مؤشر الفساد العالمي بالتشارك مع جنوب السودان وفنزويلا، بينما احتلت الصومال المركز الأخير.
ومع أن انتشار الرشوة في المؤسسات الحكومية بشكل عام والجامعات على نحو خاص “بسبب ضعف المؤسسات الرقابية والقانونية الحكومة”، لكن هذا لا ينفي أن المشكلة أكبر من ذلك، وترتبط أيضاً في “ضعف الثقافة الاجتماعية والأخلاقية لدى الموظف”، كما قال يوسف محمد (اسم مستعار)، 28 عاماً، لـ”سوريا على طول”.
وأضاف محمد: “من غير الرشوة أمورنا معرقلة، وجميعنا نقول بأن الرشوة موجودة وعلى عينك يا تاجر، ونقول أيضاً: ما دامت النقود موجودة فالمشكلة محلولة”.
عندما تخرجت قبل عشرة سنوات لم تكن نور عيسى تنوي السفر خارج سوريا، لأنها علقت آمالها على استكمال الدراسات العليا وافتتاح معهد لتعليم اللغات والترجمة في بلدها، لكن “كل الأحلام ذهبت أدراج الرياح، وصار حلمي الحصول على وثائقي الجامعية”، لتجد فرصة دراسية خارج البلاد.