تجاذبات الجيش الوطني السوري: ملامح مرحلة جديدة بإرادة تركية
ترسم الاندماجات الأخيرة بين فصائل الجيش الوطني، بريف حلب الشمالي، شكل المؤسسة العسكرية في المستقبل القريب، وطبيعة علاقة مكوناتها مع تركيا، وتوجهات الأخيرة وسياساتها بمناطق نفوذها في شمال سوريا.
14 أبريل 2022
باريس – في أحدث اندماج بين فصائل الجيش الوطني، أعلنت هيئة ثائرون للتحرير، في 10 نيسان/ أبريل الحالي، انضمام فصيل فيلق الرحمن إلى صفوفها، وهو واحد من سلسلة اندماجات داخل المؤسسة العسكرية المعارضة، خلال الأشهر الماضية، تعكس اصطفافات أيديولوجية ومصالحية بين مكوناتها.
ترسم الاندماجات الأخيرة، إلى حد ما، شكل الجيش الوطني السوري في المستقبل القريب، وطبيعة علاقة مكوناته مع تركيا، وتوجهات الأخيرة وسياساتها بمناطق نفوذها في شمال سوريا.
وفيما يتخوف مدنيون من تطور التجاذبات الحالية إلى مواجهة عسكرية واسعة بين الفصائل، يرى آخرون ضرورة “تغلّب شبيه بتجربة هيئة تحرير الشام في إدلب، بحيث تقع المنطقة تحت سيطرة فصيل واحد لضبط الوضع العام”، كما قال محمد الحوراني (اسم مستعار)، المهجر من محافظة درعا إلى مدينة الباب بريف حلب الشمالي.
تشكيل التيارات والتحالفات
في تموز/ يوليو 2021، أعلنت الجبهة الشامية، التي تمثل التيار الإسلامي، وفرقة السلطان مراد، التي تمثل ما تبقى من فصائل الجيش الحر، تشكيل عمليات القيادة الموحدة (عزم)، تحت مظلة الجيش الوطني السوري، في بادرة غريبة، خاصة مع وجود خصومة بين الفريقين.
الهدف من “عزم”، بحسب بيانها التأسيسي، التنسيق الأمني ضد تجار المخدرات “والشبكات والخلايا التي تهدد أمن المجتمع واستقراره”.
لكن جميع التوقعات آنذاك كانت تشير إلى عدم نجاح وفاعلية هذا الاندماج بين القوتين الرئيسيتين في المنطقة، المتناقضتين من حيث التوجه الأيديولوجي وشكل العلاقة مع أنقرة، فالأول يمثل التيار الإسلامي المعتدل، بقيادة أبو أحمد نور قائد الجبهة الشامية والفيلق الثالث الذي تشكل “الشامية” القوة الأكبر فيه، لا يحظى برضا تركي، نتيجة رفضه بعض سياسات أنقرة، من قبيل: عمليات تجنيد مقاتلين سوريين إلى ليبيا وأذربيجان. أما الفريق الثاني في “عزم”، بقيادة فهيم عيسى، قائد فرقة السلطان مراد، وهو رجل تركيا الأول، وذراعها العسكري في شمال سوريا، وهذا الفريق لا يملك أيديولوجيا واضحة.
سارعت عدة فصائل إلى الانضمام لـ”عزم” في أعقاب تشكيلها، تجنباً للصدام مع القوى الرئيسية أو لحجز مقعد في أي تغيير جديد قد تشهده الساحة، ولكن حرص الطرفان المؤسّسان الاستحواذ على النسبة الأكبر من المقاعد والتمثيل، مع احتفاظ أبو أحمد نور بمنصب القائد العام، وفهيم عيسى نائباً له.
لكن بعد أقل من شهرين، بدأت الانشقاقات عن “عزم”، ففي أواخر آب/أغسطس 2021، أعلنت كلاً من فرقة الحمزة، وفرقة السلطان سليمان شاه، ولواء صقور الشمال انسحابهم من الغرفة، نتيجة الخلافات على آلية التمثيل العادل للتشكيلات العسكرية داخل الكيان الوليد حديثاً.
وعليه استنفرت الجبهة الشامية وفرقة السلطان مراد بهدف ضرب الفصائل المنسحبة، وحاصرتا بعض مقراتها العسكرية، وكانت المنطقة على شفا حرب واسعة بين القوى الرئيسية في مناطق النفوذ التركي شمال غرب سوريا.
خطر استئصال الفصائل المنسحبة من “عزم” دفع أربعة منها، إلى جانب فرقة المعتصم التي لم تنضم أصلاً، إلى تشكيل جسم عسكري جديد، عرف باسم “الجبهة السورية للتحرير”، وضمت فرقة السلطان سليمان شاه (العمشات)، فرقة الحمزة، لواء صقور الشمال، والفرقة 20.
وتميز التشكيل الجديد بتجانس الفصائل المندرجة تحته، بحكم تقاربها أيديولوجيا ومصالحياً، وهو ما دفع فهيم عيسى، قائد السلطان مراد إلى تشكيل حركة ثائرون، داخل غرفة عزم، في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، وذلك عبر اندماج عدة فصائل داخل “عزم” تحت “ثائرون”.
لكن في كانون الثاني/ يناير الماضي، شهدت المنطقة أكبر عملية تجاذب واصطفاف داخلي، بعد الإعلان عن اندماج حركة ثائرون والجبهة السورية للتحرير في كيان عسكري جديد حمل اسم “هيئة ثائرون للتحرير”، بذلك أصبح فهيم عيسى “همزة الوصل” بين التيارين، من دون أن يعلن عن شكل العلاقة مع “عزم” التي يشغل منصب النائب العام فيها.
فتحت الاندماجات الأخيرة الباب للحديث عن وجود عوامل خارجية خططت لتشكيل الكيان الجديد، أو أسهمت في تشكيله. وفي الوقت ذاته كشفت عن ملامح أكثر وضوحاً للتيارات، فالتيار الأول، الذي تقوده الجبهة الشامية ضمن الفيلق الثالث، حافظ على ايديولوجيته، وضم إلى جانب “الشامية” كلاً من جيش الإسلام، وفيلق المجد (جيش الإسلام قطاع الشمال سابقاً)، وتمثل التيار الثاني بالفصائل التي تتزعمها قيادات تركمانية، وتتمتع بعلاقات قوية مع أنقرة.
“صراع البقاء”
استبعد الخبير العسكري العميد أحمد رحال أن تكون الاصطفافات الحالية داخل الجيش الوطني أيديولوجية أو سياسية، معتبراً نها “اصطفافات حماية”، مؤكداً في حديثه لـ”سوريا على طول” إن الغاية من ذلك “رغبة كل فصيل بحماية نفسه من الاستفراد به أو اجتثاثه، لذلك يستقوي بالتجمع مع فصائل أخرى حوله”.
يعزز ذلك، وفقاً للعميد رحال، أن بعض الاندماجات تمت بين فصائل متخاصمة “لكن خصامهم يكون ثانوياً أمام خطر الاجتثاث”، واصفاً المشهد بأنه “صراع البقاء”.
لا ينفي ذلك أن “الفصائل الإسلامية تجمعت مع بعضها، بينما الفصائل الأقرب للعلمانية اصطفت مع بعضها”، بحسب رحال. مع ذلك “الصبغة الأيديولوجية ليست طاغية، فكل فصيل يحاول البحث عن حمايته بغض النظر عن التوجه”.
ويتفق وائل علوان، الباحث في مركز جسور للدراسات، ومقره تركيا، مع العميد رحال، في أن “المصالح مقدمة على الأيديولوجيا في التجمعات والاصطفافات الجديدة”، معتبراً أن بعض هذه التجمعات، من قبيل غرفة “عزم” جاءت بهدف خلق آلية بين قادة الفصائل للتفاهم حول الموارد الاقتصادية.
لكن، هذا لا ينفي أن من أسباب الاصطفافات الأخيرة “حاجة الفصائل للتنظيم، وهو ما لم تستطع وزارة الدفاع تحقيقه عبر إدماج الفصائل في الفيالق الثلاثة داخل الجيش الوطني”، كما قال علوان لـ”سوريا على طول”، مشيراً إلى أن إدماج الفصائل تحت مظلة الجيش الوطني “بقي حبراً على ورق”.
وبما أن الفيالق فشلت في “ضبط الفوضى الموجودة”، اندلعت “صدامات وإشكاليات أمنية وتنازع على الموارد الاقتصادية والمعابر وحالات تهديد فصائل لأخرى”، بحسب علوان.
من جهته، أرجع اللواء المنشق محمد الحاج علي الاندماجات الأخيرة إلى “ظهور بعض الفصائل بمظهر الفصيل القوي الذي يمكنه فرض رأيه وتهديد الاستقرار”، لذلك الغرض من الاندماجات “تشكيل تجمعات متقاربة ومتشابهة بالرؤية”، خاصة أن شعور الفصائل بالتهديد “يجعلها تكشف عن أصلها”.
وعلى النقيض من الآراء السابقة، يرى اللواء حاج علي أن حقيقة الاندماجات “هي اصطفافات سياسية وأيديولوجية ضمن الجيش الوطني”، بناء على “توجهات تركية”، مؤكداً لـ”سوريا على طول” أن “الأتراك يريدون القضاء على مؤسسات المعارضة، ويعتبرون أن غرفة عزم هي بديل عنها، ولا يريدون النجاح لهذا البديل”.
سيناريو “تحرير الشام”
على مدار الأشهر الماضية، شهد الفيلق الثالث في الجيش الوطني، الذي تمثل “الجبهة الشامية” القوة الأكبر فيه، سلسلة من الاندماجات الأيديولوجية المماثلة لتوجه “الشامية”، أي ذات “الفكر الإسلامي المعتدل”.
وتحاول الجبهة الشامية ضم بقية الفصائل إليها، وطموحها “أن تحكم المنطقة، وتؤسس لإدارة مدنية واقتصادية وأمنية وعسكرية، والسعي لقيادة سياسية أيضاً”، بحسب وائل علوان.
ومع الاختلاف الأديولوجي، يتشابه مشروع الجبهة الشامية إلى حدّ ما، مع مشروع هيئة تحرير الشام، التي بسطت نفوذها في محافظة إدلب وأجزاء من محافظتي حلب واللاذقية، بعد أن أقصت فصائل الجيش السوري الحر، وتالياً أسست حكومة الإنقاذ كواجهة مدنية لها.
وتنطلق الجبهة الشامية من مبدأ “قوتها العسكرية، وشعورها بأنها صاحبة الأرض والمشروعية الثورية”، على عكس الفصائل الأخرى التي “طردت من هيئة تحرير الشام أو النظام السوري بفعل اتفاقيات التسوية أو خفض التصعيد، وأعادت إنتاج نفسها بإرادة تركية”، وفقاً لباحث سياسي سوري مقيم في اسطنبول، طلب عدم الكشف عن اسمه لدواع أمنية، معتبراً أن الفصائل المدعومة تركياً أعيد تأهيلها “من أجل تنفيذ عمليات عسكرية محددة ضد تنظيم الدولة والقوات الكردية”.
وربما ترى الجبهة الشامية في تجربة “تحرير الشام” خارطة طريق، كون الأخيرة “تمكنت من الحصول على الدعم التركي بعد أن فرضت نفسها كسلطة أمر واقع”، وفقاً للباحث الذي اعتبر أنه من باب أولى أن تنجح الجبهة الشامية في ذلك “كونها ذات نهج معتدل، لذلك قد ترى نفسها مقبولة لدى أنقرة أكثر من تحرير الشام”.
وإذ يتفق العميد أحمد رحال مع الطرح الذي يقول أن “سيناريو تحرير الشام هو السائد حالياً”، فإنه يرى في عملية الاستقواء عبر التجاذبات والاصطفافات الحالية “محاولة [من خصوم الجبهة الشامية] منع تكرار سيناريو تحرير الشام وما قامت به من ابتلاع الفصائل في إدلب”.
حتى إن كانت نية الجبهة الشامية تكرار سيناريو هيئة تحرير الشام في مناطق النفوذ التركي، فإن ذلك صعباً “بسبب توازن الفصائل الموجود في ريف حلب الشمالي، واختلاف الظروف عما كانت عليه في إدلب”، وفقاً للباحث علوان، مشيراً إلى أن التوازن الحاصل بعد تشكيل هيئة ثائرون للتحرير يجعل مشروع الجبهة الشامية الاقتصادي والعسكري والسياسي الذي يتم الحديث عنه “غير ممكن”.
من جهته، ذهب اللواء الحاج علي إلى أبعد من ذلك، معتبراً أن ما يحدث هو إرهاصات “لفك العزلة عن جبهة النصرة [هيئة تحرير الشام] وجعلها جاهزة للاندماج مع الجيش الوطني”، خاصة أن ما فعلته تحرير الشام في إدلب من فرض نفسها وبناء مشروعها “أثبت جدارته أكثر من ترتيبات الجيش الوطني من حيث التنظيم والتخطيط والأيديولوجيا والإقناع”.
ونقل اللواء الحاج علي عن قيادي في فرقة السلطان مراد، أن “الأتراك يريدون معرفة التعداد الحقيقي للطرفين [الفيلق الثالث وفرقة السلطان مراد]”، وقطعوا وعداً “بعدم السماح للجبهة الشامية ابتلاعه [السلطان مراد]”، وهذا مؤشر على أن التجاذبات الأخيرة “هي من صنع المخابرات التركية”.
في كنف تركيا
تتعاظم قوة “وكلاء تركيا شمال غرب سوريا، في مواجهة تيار الإسلاميين”، وفقاً للباحث السياسي السوري المقيم في اسطنبول، وتوقع أن “المعركة مستمرة إلى أن تُكسر شوكة الجبهة الشامية” التي تمثل التيار الإسلامي.
واعتبر الباحث أن “فهيم عيسى، قائد فرقة السلطان مراد وهيئة ثائرون للتحرير هو الوكيل الأول لتركيا في المنطقة، يليه سيف بولاد أبو بكر، قائد فرقة الحمزة ونائب قائد هيئة ثائرون، ومن ثم المعتصم عباس، قائد فرقة المعتصم، ورئيس أركان هيئة ثائرون”.
في المقابل، لم تبدِ الجبهة الشامية “انصياعاً كافياً لأنقرة في العديد من الملفات، لذلك يحاول الأتراك الحدّ من طموحها في المنطقة من دون اندلاع صدام عسكري بين الفصائل”، وفقاً للباحث، وذلك لعدة اعتبارات منها “قوة الجبهة الشامية، والعقيدة القتالية لمقاتليها، ما يعني أن الفصائل الأخرى ستدخل في معركة خاسرة ضدها”، ونظراً لـ”رغبة أنقرة في الحفاظ على هدوء المنطقة حالياً، لا سيما مع المتغيرات الإقليمية المحيطة”.
لذلك، تسعى تركيا إلى “استخدام أدوات مختلفة للضغط على الجبهة الشامية، من قبيل تضييق الخناق عليها مالياً”، إلى جانب “الضغط على الفصائل المتحالفة معها للابتعاد عنها”، بحسب الباحث.
في هذه الأثناء، تبرز الاصطفافات الحالية مساعي فصائل الجيش الوطني في كسب ثقة أنقرة، لاسيما في ظل الحديث عن نية تركيا “تخفيض عدد الفصائل”، وفقاً للخبير العسكري العميد أحمد رحال، لذلك “يحاول كل فصيل أن يثبت أنه الأجدر في البقاء، ولسان حاله: أنا الأقوى والأولى بالدعم التركي”.
ومع كل المؤشرات على وجود دور تركي باصطفافات الفصائل وتجاذبها، نفى الباحث وائل علوان أن يكون تدخل أنقرة مباشراً، وإنما “بعض التوجيهات من باب النقاش والنصح”، لافتاً إلى استمرار الدعم التركي لوزارة الدفاع السورية وفيالقها الثلاثة، بما في ذلك الفيلق الثالث الذي تشكل الجبهة الشامية القوة الأكبر فيه.
اصطفافات غير نهائية
فيما تستمر التجاذبات بين الجبهة الشامية وفصائل الجيش الحر المقربة من تركيا، لا يبدو أن هيئة تحرير الشام، التي تسيطر على محافظة إدلب بعيدة عن المشهد، إذ “حاولت الهيئة الدخول إلى شمال حلب خلال الأحداث الأخيرة المتعلقة بقضية أبو عمشة”، كما قال باحث سياسي سوري، ومسؤول إعلامي سابق في أحد الفصائل العسكرية لـ”سوريا على طول”، مشيراً إلى أن الهيئة “في منافسة غير معلنة مع المشروع الآخر [الجيش الوطني]”.
يعني ذلك أن “الجيش الوطني أمام تحدّ كبير؛ إما إعادة بناء نفسه، مع مراعاة التراتبية العسكرية وصلاحيات المؤسسة القضائية، أو سيكون هناك نموذج بديل، يتمثل بهيئة تحرير الشام التي تبني مؤسسة عسكرية منافسة للجيش الوطني ووزارة الدفاع التابعة للحكومة المؤقتة”، بحسب الباحث.
وفي هذا السياق، قال الباحث علوان أن الاصطفافات الفضائلية بصورتها الحالية “مؤقتة، ولم تأخذ شكلها النهائي”، مرجحاً “استمرار التجاذبات إلى أن يتم إعادة تنظيم الفيالق الثلاثة التابعة للجيش الوطني”.
ما يجري من انشغال الفصائل ببعضها، يعني “زيادة الفوضى والفلتان الأمني في المنطقة”، وفقاً لمحمد الحوراني، الذي عبّر عن تخوفه من أن يدفع المدنيون ضريبة هذه التجاذبات، خاصة “أن المواجهات بين الفصائل أدت إلى وقوع ضحايا في صفوف المدنيين بالرصاص العشوائي”.
الأسوأ من ذلك “تجنيد الفصائل لبعض الزعران من أجل زيادة تعدادها البشري، واستخدامهم في الاقتتالات الداخلية”، بحسب الحوراني. مشدداً على أن هؤلاء “لن يقتصر دورهم على مواجهة الفصيل الخصم، وإنما سيطال المدنيين”.