7 دقائق قراءة

تجميد التمويل الأمريكي يعطل المساعدات العالمية ويشل المجتمع المدني السوري

مع قيام إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بخفض المساعدات الخارجية، يجد المجتمع المدني السوري نفسه في مواجهة أزمة حادة بوقتٍ هو بأمس الحاجة إلى الدعم


6 فبراير 2025

مرسيليا- في 20 كانون الثاني/ يناير، أصدر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أمراً تنفيذياً بتجميد المساعدات الخارجية لمدة 90 يوما في انتظار مراجعتها، ما أحدث فوضى في منظومة المساعدات الدولية، حيث تعد الولايات المتحدة أكبر مانح للمساعدات الخارجية في العالم، إذ أنفقت 68 مليار دولار العام الماضي.

ويوم السبت، توقف موقع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) عن العمل، وهي الجهة الحكومية المسؤولة عن المساعدات الإنسانية. وكشف ثلاثة مسؤولين أميركيين لشبكة CBS News، يوم الإثنين، أنه من المقرر دمج الوكالة في وزارة الخارجية.

ورغم أن المساعدات الخارجية لا تشكل سوى أقل من واحد بالمئة من إجمالي الإنفاق الحكومي للولايات المتحدة، إلا أن ترامب ومستشاره الملياردير، إيلون ماسك، جعلا الوكالة الدولية هدفاً رئيسياً لما وصفاه محاولة تقليص الهدر الحكومي.

ونشر ماسك تغريدة على منصة X (تويتر سابقاً)، يوم الأحد، قال فيها: “USAID منظمة إجرامية. حان وقت إنهائها”، وبعد يوم واحد وصفها الرئيس الأميركي بأنها “مؤسسة يديرها متطرفون يساريون”.

سوريا من بين الدول الأكثر تضرراً بانقطاع تدفق المساعدات العالمية، خاصة أن 90 بالمئة من سكانها يحتاجون إلى دعم إنساني، وهي ثاني أسوأ أزمة إنسانية في العالم بعد السودان.

وفي حين أعلن وزير خارجية الولايات المتحدة، ماركو روبيو، في 29 كانون الثاني/ يناير، عن استثناء يشمل “المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة”، فإن التجميد أدى ترك المنظمات العاملة على الأرض في حالة فوضى، ما عطّل توفير الغذاء والمياه والرعاية الصحية لملايين الأشخاص.

تعاني منظمات الإغاثة من وضع سيء، لدرجة أن بعض المنظمات الدولية الكبرى بدأت بالفعل بتسريح عدد كبير من موظفيها، فيما شارفت منظمات أخرى على الإفلاس، كما ذكرت مصادر إنسانية لـ”سوريا على طول”.

أما بالنسبة للمساعدات التي لا تندرج تحت بند “المساعدات المنقذة للحياة”، فلم يتم الإعلان بعد عن معايير المراجعة التي ستحدد ما إذا كان يتماشى مع السياسة الخارجية لواشنطن، ولكن برامج المجتمع المدني توقفت تماماً. ففي سوريا، وجدت منظمات إعلامية وحقوقية وأخرى معنية بحقوق المرأة والعدالة نفسها في حالة فوضى، في الوقت الذي تشتد الحاجة إليها، بعد قرابة شهرين من سقوط نظام بشار الأسد.

المنظمات الإنسانية

في عام 2024، أي قبل التجميد، شكلت الولايات المتحدة ربع التمويل الإنساني في سوريا، أي ما يقارب 400 مليون دولار أميركي، ومع ذلك ”كان إجمالي التمويل نفسه للعام الماضي أقل بكثير مما هو مطلوب، ما يعني أننا نعاني بالفعل من نقص في التمويل“، كما قال د.محمد كتوب، الخبير في مجال المناصرة للاستجابة الإنسانية لـ”سوريا على طول”.

وحتى الشهر الماضي، ظلت خطة الاستجابة الإنسانية لسوريا، لعام 2024، التابعة للأمم المتحدة تعاني من نقص حاد في التمويل، إذ لم يتم تأمين سوى 34.5 بالمئة من المبلغ المطلوب البالغ 4.1 مليار دولار.

ورغم إعفاء المساعدات المنقذة للحياة، إلا أن تجميد التمويل أجبر العديد من المنظمات الإنسانية العاملة في سوريا “على تعليق أو تقليص الخدمات الأساسية، بما في ذلك المساعدات الغذائية والرعاية الصحية وبرامج سبل العيش“، كما قال حسن جنيدي، المستشار المستقل لمنظمات الإغاثة السورية لـ”سوريا على طول” يوم الثلاثاء، مشيراً إلى أنه “تم إبطاء أو تعليق العديد من تدخلاتنا المخطط لها، ما أثر على المجتمعات الضعيفة التي تعتمد على دعمنا“.

وقد تأثرت معظم المنظمات الإغاثية السورية الكبيرة، بما في ذلك منظمة شفق وهيئة الإغاثة الإنسانية وتكافل الشام

“خلق تجميد التمويل بيئة من عدم اليقين، ما أثر على كل من المستفيدين المباشرين من المساعدات والشركاء المنفذين، واضطرت بعض المنظمات إلى تخفيض عدد الموظفين أو وقف مشاريع التنمية طويلة الأجل بسبب فجوة التمويل”، بحسب جنيدي.

التواصل بين الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وشركائها نادراً أو غير موجود. وفي ظل غياب توجيهات واضحة، قررت بعض المنظمات وقف عملياتها بناءً على مذكرة مسربة إلى موظفي الوكالة تطلب منها إصدار أوامر فورية بوقف العمل إلى حين وصول المزيد من التوجيهات إليها.

“تلقينا بريداً إلكترونياً يفيد بأن بعض القطاعات المنقذة للحياة سيتم استئنافها، ولكن حتى الآن لم يتضح الوضع بشكل كافٍ”، ولهذا السبب “قررت بعض المنظمات غير الحكومية إيقاف كل شيء مؤقتاً لتجنب أي نفقات غير مسموح بها”، وفقاً لجنيدي.

يأتي هذا التجميد في ظل فصل الشتاء، حيث يزداد الطلب على المأوى ومواد التدفئة والمساعدات الغذائية، وبعد أقل من شهرين من سقوط النظام السوري الذي أثر على تقديم الخدمات.

“تحتاج سوريا في المرحلة الحالية إلى استعادة الخدمات، وهذا لا يعني أننا لسنا بحاجة إلى استجابة طارئة، – نحن نحتاجها على الأقل لمدة عام أو عامين – ولكن أيضاً نحن بحاجة إلى البدء في المزيد من تدخلات التعافي المبكر والاستقرار”، إضافة إلى “برامج العدالة الانتقالية والمساءلة”، بحسب كتوب، محذراً من أن تبقى البلاد معتمدة على المساعدات.

يركز التعافي المبكر على استعادة الخدمات الأساسية، بينما ينطوي تحقيق الاستقرار على إعادة تأهيل البنية التحتية واسعة النطاق وتعزيز الحكم الرشيد ودعم سبل العيش.

لا تشير لغة الإعفاء الأميركي إلى أي مؤشر على استئناف البرامج غير الإنسانية، بحسب كتوب، ولكن “نأمل أن نسمع أخباراً مختلفة بعد 90 يوماً، ولكنني لست متفائلا حتى الآن”.

المنظمات الحقوقية

منظمة “النساء الآن من أجل التنمية”، وهي منظمة نسوية سورية تأسست عام 2012، هي إحدى المنظمات الحقوقية المتضررة. تدعم المنظمة البحث عن الأشخاص المفقودين، وتقدم الدعم النفسي والاجتماعي للناجين من الاعتقال، وتمّول المبادرات النسائية المحلية، وتدعم ضحايا العنف الجندري القائم على النوع الاجتماعي، إلى جانب أنشطة أخرى.

أحد برامجها الأكثر تأثراً بتجميد التمويل هو الدعم الذي تقدمه لست مجموعات تركز على الاختفاء القسري، وتشمل هذه المجموعات: رابطة عائلات قيصر، وعائلات من أجل الحرية، ورابطة المعتقلين والمفقودين في سجن صيدنايا، ومسار، علماً أن العديد من هذه المجموعات ليس لديها تمويل غير الذي تحصل عليه من “النساء الآن”.

وقالت رؤى الحموي، مديرة برامج العدالة في منظمة “النساء الآن”، لـ”سوريا على طول”: “لقد توقفت جميع أنشطة دعم بناء القدرات لهذه المجموعات من الضحايا”، مشيرة إلى أن “الدعم النفسي والاجتماعي وإدارة الحالات وأنشطة المناصرة [كلها] توقفت”.

تأسست رابطة عائلات قيصر، في عام 2019، على يد عائلات الضحايا الذين تم التعرف عليهم في “صور قيصر”، التي ضمت أكثر من 50 ألف صورة تُظهر جثث 11 ألف معتقل، تعرض العديد منهم للتعذيب حتى الموت على يد النظام، وتم تهريب هذه الصور من سوريا في عام 2014 بواسطة عسكري منشق أطلق على نفسه اسم “قيصر”.

تتألف المنظمة من 130 عضواً وعضوة، ونمت بسرعة منذ سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ ديسمبر 2024، بحسب بسمة شيخ، مديرة برامج الرابطة، قائلة لـ:سوريا على طول”: “لقد انكسر حاجز الخوف”، لذا تواصلت نحو 300 عائلة مع الرابطة في الشهر الأول من سقوط النظام، للإبلاغ عن أقارب مفقودين لم يتم العثور عليهم من بين المفرج عنهم من سجون الأسد.

إلى جانب التعرف على الضحايا، تقدم الرابطة دعماً نفسياً واجتماعياً لعائلاتهم، وتدعم الإجراءات القضائية الدولية، وتنفذ حملات مناصرة تستهدف المجتمع الدولي والحكومة السورية الجديدة، كما تضغط الرابطة “من أجل تشكيل محاكم خاصة لمحاسبة الجناة”، بحسب شيخ.

منذ أن جمدت الولايات المتحدة التمويل، فقد موظفو رابطة قيصر 70 بالمئة من رواتبهم. ومع ذلك، قرر الموظفون الأساسيون الاستمرار في العمل بشكل تطوعي إلى حد كبير، بغض النظر عن التمويل.

قالت شيخ: “نحن محظوظون لأن فريقنا صغير، وقد قررنا أن نواصل العمل مهما كان، لكن معظم الأشخاص الذين يعملون معنا هم في سوريا أو تركيا، ولا يحصلون على دعم حكومي كما هو الحال في أوروبا”، حيث توجد شبكات الأمان الاجتماعي. ومع ذلك، مع وجود مثل هذا الفريق الصغير، لن يتمكنوا سوى مواصلة التوثيق والمناصرة على نطاق ضيق، بينما تم تعليق أنشطة الرابطة الأخرى، مثل تلك التي تشمل المحامين.

ومن بين برامج “النساء الآن” اخرى التي قد تتأثر، برنامج إدارة الحالات الذي تقدمه المنظمة للمعتقلين المفرج عنهم حديثاً من السجون السورية، بما في ذلك الدعم النفسي والاجتماعي. وفي محاولة لاستمرار الدعم الفوري استخدمت المنظمة أموالها الخاصة لتمويل البرنامج، لكن قد تحتاج إلى إعادة توجيه هذه الأموال لدعم الموظفين الأساسيين، بحسب الحموي.

جاء تجميد التمويل “دون سابق إنذار”، بحسب الحموي، مشيرة إلى أن العديد من أصدقائها “فقدوا وظائفهم على الفور”، لكن “لحسن الحظ حظي، نظراً لأن منظمتنا نسواية وتحاول بالفعل دعم العاملات معها، لم نفقد وظائفنا”، ومع ذلك توقعت الحموي خفض الرواتب.

وقالت الحموي: “الوضع غير واضح الآن، لكننا نحاول إيجاد طرق للحصول على تمويل آخر،” وقد يستغرق تأمين منح جديدة وبدء تنفيذها عدة أشهر، إن لم يكن عاماً كاملاً.

“لدينا الآن الفرصة لنكون داخل سوريا وندعم الناس بطرق مختلفة، ولدينا المزيد من الفرص مع حرية حركة أكبر، ولكن فجأة توقفت الأموال”، بحسب الحموي، لذا جاء تجميد التمويل بالنسبة لمنظمات المجتمع المدني في وقت حساس جداً.

العديد مثلها، سارعوا للعودة إلى سوريا وتوسيع أنشطتهم في المناطق التي كانت سابقاً تحت سيطرة النظام، حيث كانت هذه الأنشطة نادرة أو غير موجودة بسبب القمع الواسع النطاق للمجتمع المدني والقيود التي فرضها المانحون.

من الضروري جداً الاستمرار في ظل السياق الجديد، فهذه ليست اللحظة المناسبة للتوقف، لأن الحكومة الجديدة قد بدأت بالفعل في تشكيل الحكومة الانتقالية، ودعم العائلات لممارسة الضغط على الحكومة مطلوب الآن”، بحسب الحموي.

“مسار العدالة طويل جداً ولا ينبغي أن يتوقف في أي لحظة”، قالت شيخ، مضيفة: “نريد ضمان أن تضع أي حكومة مشكلة المساءلة كأولوية، لأننا نؤمن بأنه لا يمكن أن تكون هناك عدالة انتقالية من دون ذلك”.

مواجهة المعلومات المضللة

جاء تجميد التمويل في أسوأ وقت بالنسبة لمنصة “تأكد” أيضا، وهي منصة سورية أطلقت في عام 2016، ويُركز على التحقق من المعلومات ويحارب التضليل الإعلامي من جميع الأطراف. تعتمد منصة تأكد على التمويل الأميركي في جزء كبير من أنشطته، بحسب رامي مغاربة، مستشار البرامج والتطوير في المنصة.

وأضاف مغاربة لـ”سوريا على طول”: “تعرضت منصتنا لضغط كبير بسبب الشائعات والمعلومات المضللة والتضليل الإعلامي المنتشر حالياً في سوريا، الذي ظهر بعد سقوط النظام”، موضحاً أن النظام السابق وحليفته إيران نشرا معلومات مضللة بشكل نشط لزعزعة استقرار البلاد.

في تشرين الثاني/ نوفمبر، الشهر الذي سبق سقوط الأسد، وصل عدد متابعي منصة تأكد إلى 30,200 شخص على فيسبوك، وقفز هذا الرقم إلى أكثر من 1.7 مليون شخص في كانون الأول/ ديسمبر. يوميًا، تتلقى المنصة من  200 إلى 300 رسالة على وسائل التواصل الاجتماعي يطلب أصحابها تأكيد تقارير إعلامية أو نفيها.

“فقدان الصوت الصحفي، أو أي صوت مدني، في هذه المرحلة يعني أننا سوف نفقده إلى الأبد”، بحسب مغاربة، مشدداً على ضرورة أن “يكون صوت أي مدني أو شخص يعمل في المجال المدني حاضراً لضمان التوازن ومشاركة جميع الأطراف في سوريا”.

قد يبدو التصدي للمعلومات المضللة أقل وضوحاً أو أهمية من برامج المساعدات المباشر أو الدعم القانوني للمعتقلين المفرج عنهم، لكن هذا لا ينفي أنه “مهم جداً في هذا الوقت، لأن ترك المجال المعلوماتي لطرف واحد يعني أنه سيسيطر على كل شيء”، بحسب مغاربة، قائلاً: “لن يكون هناك أي مساءلة، وسنعود إلى الماضي، حيث كان هناك حزب البعث وعائلة الأسد يسيطرون على سوريا بأكملها دون أية أصوات أخرى”.

مع عدم وضوح مستقبل المساعدات الخارجية الأمريكية، يأمل د.محمد كتوب أن تتدخل دول الخليج لسد الفجوة، بينما يعوّل مغاربة على الاتحاد الأوروبي رغم أنه بطيء في التحرك منذ سقوط الأسد، سواء فيما يتعلق بتخفيف العقوبات أو تقديم تمويل جديد.

“معظم دول الاتحاد الأوروبي لا تزال في مرحلة المراقبة، ولا تتخذ أي إجراءات فعلية”، بحسب مغاربة، متأملاً “أن يكون هناك تغيير في الدور الأوروبي خلال الأشهر الثلاثة المقبلة”.

وقالت الحموي: “لا نعلم ما الذي سيحدث بعد التسعين يوماً. هناك الكثير من الغموض”، لكن على أية حال “عملنا لن يتوقف”.

شارك هذا المقال