تحسن “غير حقيقي” لليرة السورية: السوق بيد المضاربين وسط غياب الدولة
تشهد الأسواق السورية حالة من عدم الاستقرار في أسعار السلع الأساسية، بسبب التأرجح الحاد في سعر صرف الليرة السورية أمام العملات الأجنبية في السوق الموازية، بشكل لا يعكس القيمة الحقيقية لها، وسط غياب دور مصرف سوريا المركزي في ضبط أسعار الصرف
12 فبراير 2025
باريس- تشهد الأسواق السورية حالة من عدم الاستقرار في أسعار السلع الأساسية، بسبب التأرجح الحاد في سعر صرف الليرة السورية أمام العملات الأجنبية في السوق الموازية (السوداء)، بشكل لا يعكس القيمة الحقيقية لها، وسط غياب دور مصرف سوريا المركزي في ضبط أسعار الصرف.
“الوضع يزداد سوءاً. تقلص حجم رغيف الخبز وارتفع سعره”، قالت أم وائل سليم، المقيمة في جنوب العاصمة دمشق، لـ”سوريا على طول”، مشيرة إلى أن وزن الربطة انخفض من 1500 غرام إلى 1150 غرام، بينما ارتفع سعرها في السوق السوداء من ثلاثة آلاف (0.20 دولاراً أميركياً) قبل سقوط النظام في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، إلى أربعة آلاف ليرة (بين 0.40 و 0.54 دولاراً بحسب سعر الصرف الذي يتراوح بين 7500 و10000 ليرة).
اتخذت إدارة البنك المركزي الحالية سياسة مغايرة عن تلك المتبعة في عهد نظام الأسد، عندما حاولت إلغاء الفجوة بين سعر الصرف الرسمي لليرة وسعرها في السوق السوداء، ولكنها ثبتت سعر الصرف الرسمي في النشرة الرسمية عند 13,200 ليرة للدولار، في الوقت الذي سجلت في السوق السوداء 7,200 ليرة للدولار، في الرابع من شباط/ فبراير الحالي، ما انعكس سلباً على الأسواق رغم ارتفاع قيمة الليرة السورية.
سياسات غير مفهومة
يبلغ سعر صرف الليرة السورية في السوق السوداء، اليوم، 10,200 ليرة للدولار الواحد، بينما سعرها مثبت في البنك المركزي عند حدود 13,200 ليرة تقريباً. كان من المفترض أن “ينعكس تثبيت السعر والسماح بتداول العملات الأجنبية وإلغاء القوانين والمراسيم التي كانت تجرم التعامل بالدولار بشكل إيجابي على السوق”، لكن السياسة النقدية “غير الواضحة” أعطت نتائج عكسية، كما أوضحت وزيرة الاقتصاد السورية السابقة، لمياء عاصي، لـ”سوريا على طول”.
ومن جهته، وصف الدكتور رفعت عامر، أكاديمي وباحث اقتصادي سوري مقيم في السويد، السياسات النقدية الحالية للبنك المركزي بـ”العجيبة وغير المفهومة”، معتبراً أن التذبذب الحاد في سعر الصرف من دون تدخل حكومي “مؤذٍ للمنتج والمستهلك معاً”، ناهيك عن أنه “لا يحفز في جذب الاستثمارات، ولا يخدم إلا فئة المضاربين بالعملات على حساب غالبية الشعب السوري الفقير”، كما قال لـ”سوريا على طول”.
وأضاف عامر: “سياسة حبس السيولة [من الليرة] التي ينتهجها البنك المركزي، وفرض قيود على سحب الأموال من البنوك، وعدم تدخله في ضبط سعر الصرف ووقف المضاربات غير القانونية، عززت عمليات المضاربة”، وهذا أدى إلى “إلحاق خسائر بالسوريين الذين يعتمدون في الغالب على الحوالات المالية من أبنائهم المغتربين في الخارج”.
عندما انخفضت قيمة الليرة من 13,200 ليرة للدولار بحسب سعر البنك المركزي إلى 7,500 ليرة للدولار في السوق الموازية ومحلات الصيرفة “خسرت الحوالة قرابة 40 بالمئة من قيمتها”، بحسب عامر.
وقالت عاصي: “لا يمكن تفسير انخفاض سعر صرف الدولار إلى 7,500 ومن ثم يعود إلى حدود 10,000 ليرة خلال ثلاثة أيام سوى استغلال المضاربين لعملية حبس السيولة، مستخدمين المواقع الالكترونية التي يديرونها لتحديد سعر الصرف المناسب لهم”.
تشهد البلاد “عملية احتباس للسيولة، نتيجة خلل في قبض الرواتب الشهرية لأعداد كبيرة من الموظفين وكذلك عدم تزويد البنوك العاملة العامة والخاصة بالسيولة اللازمة لها”، ما أدى إلى “تنشيط التذبذب في سعر الصرف والمضاربة على سعر العملة المحلية، مسبباً فروقات في أسعار العملات الأجنبية بين السوق الموازي وبين السعر الرسمي المعلن”، بحسب عاصي.
إضافة إلى ذلك، يقرأ الصرافون أو المضاربون الانفتاح السياسي للإدارة السورية الجديدة، برئاسة أحمد الشرع، على أنه “تحسن”، وبالتالي “تحسنت الليرة عند زيارته للسعودية، ومن ثم انخفضت بعد عودته”، كما قال صاحب شركة صرافة لها فروع في عدة محافظات سورية لـ”سوريا على طول”، مشيراً إلى أن “السوق بيد المضاربين”، بينما “تكتفي الدولة بحبس الليرة السورية”.

صورة مأخوذة من تسجيل مصور يظهر انتشار “بسطات” الصرافة في شوارع دمشق بعد سقوط النظام البائد، 26/ 12/ 2024، (جوليا عوض)
تحسن غير حقيقي!
عاد أبو قاسم السعدي، تاجر ألبسة في ريف درعا الشمالي، إلى الاعتماد على التسعير بحسب سعر الدولار الأميركي، كما كان يفعل أيام حكم نظام الأسد، لأن “التغير في سعر الصرف يختلف من ساعة إلى أخرى، وبالتالي التسعير بحسب الدولار يجنّبنا الخسارة رغم أنه مربك”، كما قال لـ”سوريا على طول”.
وتوقع السعدي أن يزيد سعر البضائع في الفترة المقبلة “نتيجة ارتفاع التكاليف التشغيلية” كما أخبره أصحاب المعامل والمصانع، لأن “مصروف المعمل من الكهرباء يومياً 150 ألف ليرة، أي كانت تساوي عشرة دولارات، بينما تساوي اليوم 15 دولار”.
كان من المفترض أن تنخفض أسعار السلع الأساسية بناء على تحسن الليرة، لكن “الأسعار لم تتغير، لأن تحسن قيمة الليرة غير حقيقي ولا يعكس تحسن الاقتصاد ولم ينتج بسبب جذب الاستثمارات”، بحسب الباحث عامر.
وذهبت عاصي بهذا الاتجاه، مؤكدة أن “ارتفاع وانخفاض الليرة غير حقيقي، سببه عامل المضاربة وحبس السيولة بشكل أساسي”، ناهيك عن “الأجواء السياسية وتمكن عدد كبير من السوريين من العودة للبلد”، لكن “ليس هناك أي تغير في المؤشرات الاقتصادية: التصدير لم يرتفع وكذلك الإنتاج، ولم نشهد أي تدفق للاستثمارات الأجنبية”، وهذا يعني أن “الدولار يجب أن يحافظ على سعره بأحسن الأحوال”.
وحتى يكون سعر صرف العملات الأجنبية حقيقياً، “يجب أن يكون مرناً”، وحتى يكون كذلك يجب أن يحقق مجموعة من الشروط، من قبيل: أن يكون “ناجماً عن توازن العرض والطلب على العملة الأجنبية دون أي تأثيرات أو تدخل من البنك المركزي سواء في جانب العرض أو الطلب”، وكذلك أن يكون المركزي قادراً على “القيام بعمليات بيع وشراء بموجب الأسعار المعلنة، وهذا يستلزم وجود احتياطيات كافية من العملات الصعبة لديه، وأن لا يقوم بلجم السيولة في الأسواق أو التحكم بالمعروض النقدي”، بحسب عاصي.
ويؤثر الوضع الحالي لليرة السورية، بشكل “سلبي” على المواطنين، لأن “التذبذب الشديد بالأسعار يجعل الكثير من التجار يفضلون الاتجار بالعملة بدلاً من البضائع، ما ينعكس سلباً على العملية الإنتاجية والتجارية”، بحسب عاصي، مؤكدة أن “استقرار أسعار الصرف حتى لو كان على أسعار مرتفعة [للدولار] أفضل من التذبذب بالنسبة لكل الأطراف سواء الناس العاديين أو المستثمرين والمنتجين”، أما الآن “لا يمكن الاعتماد على أسعار الصرف الحالية لاتخاذ قرارات استثمارية، كون التحسن الجاري يغلب عليه التذبذب، وهو تحسن قلق غير مستقر ولا مستدام، ولا يستند إلى مؤشرات اقتصادية”.
وبناء على الوضع الحالي، نصحت عاصي المدنيين بـ”الاحتفاظ بمدّخراتهم بأصول متنوعة من معادن ثمينة وعملات أجنبية وعقارات وغيره، للحفاظ على القيمة الحقيقية لتلك المدخرات وتجنب الخسائر المتوقعة عندما يحصل عرض كافٍ لليرة السورية في الأسواق”.
وتوقع الباحث عامر “أن تعود الليرة إلى الانخفاض أمام الدولار، وهي نتيجة طبيعية، لأنه لن يكون هناك تحسن حقيقي لها إلا بعد تحسن الأداء الاقتصادي وتصدير المنتجات السورية، وجذب الاستثمارات، وفك العقوبات عن البنك المركزي”.
دعا عامر، حكومة دمشق إلى اتخاذ مجموعة من الخطوات، من قبيل “رفع كفاءة إدارة السياسات النقدية عبر الاستعانة بالخبراء، ودفع الرواتب والأجور المستحقة للموظفين على الفور، والبدء باستعادة النشاط الصناعي، وفك القيود عن سحب الأموال للمودعين من البنك”، إضافة إلى “إعادة النظر في السياسات الضريبية الفعالة، التي تتمثل في زيادة كبيرة على السلع الكمالية وتخفيضها على السلع الأساسية، ومنع الدكاكين والأفراد من تجارة تصريف العملات وحصر هذا النشاط في مكاتب الصرافة المرخصة”.
وفي حال “بقي الطلب على الليرة كبير، يجب على البنك المركزي اتخاذ قرار طباعة كميات جديدة من العملة السورية تغطي الحاجة إليها، وتعيد التوازن بين العرض والطلب”، بحسب عامر.