تكاليف باهظة لتحويل الأموال ورشاوي وفساد يتغلغل اقتصاد الحرب بسوريا
لم يعد باستطاعة منظمات الإغاثة الدولية تمويل أكثر من عشرة […]
29 يوليو 2017
لم يعد باستطاعة منظمات الإغاثة الدولية تمويل أكثر من عشرة مستشفيات ومراكز طبية في غوطة دمشق الشرقية بسبب الاقتتال الثوري الذي يشل عمليات تحويل الأموال إلى هذا الجيب الثوري المحاصر.
فالنقود التي تدخل كمساعدات للغوطة الشرقية لابد وأن تمر أولاً عبر الفصيل الثوري الإسلامي الأكبر في المنطقة من خلال المعبر المتبقي الوحيد الذي يفضي إلى المنطقة المطوقة التي تأوي 400 ألف نسمة.
ولكن منذ ما يقارب الستة أسابيع، منع جيش الإسلام تدفق النقود إلى الأراضي التي تحكمها الفصائل المنافسة، وبات يعتقل التجار ويصادر أموالهم في محاولة لاستنزاف خصومه من التمويل، وفق ما قال خمسة من مسؤولي الإغاثة والعاملين في المجال الطبي لسوريا على طول. وبالنتيجة حصار اقتصادي شبه كلي لنصف الغوطة الشرقية، التي تطوقها قوات النظام منذ عام 2014.
“نعاني منذ شهر ونصف تقريبا، رغم وجود الأموال، من عدم وجود طريق لتحويلها” إلى المراكز الطبية، وفق ما قال فؤاد أبو حطب، لسوريا على طول وهو المدير التنفيذي لمنظمة سراج للتنمية والرعاية الصحية، مقرها تركيا، وتمول سبعة مراكز طبية في الغوطة الشرقية. “حيث قام جيش الإسلام بتوقيف التجار الذين كنا نحوّل الأموال إلى الغوطة عن طريقهم(…)ولم نعد نستطيع التحويل إلى القطاع”.
يرتكز جيش الإسلام وهو الفصيل المسيطر في دوما، المدينة الأكبر في الغوطة الشرقية. ويتحكم الفصيل الإسلامي الذي تدعمه السعودية بمعظم الأراضي في المنطقة التي يسيطر عليها الثوار والتي تبلغ مساحتها 75كيلو متراً مربعا تقريباً، ويحكم الأجزاء الشمالية والشرقية فيها بالإضافة إلى معبر الوافدين، المنفذ المتبقي الأخير في الغوطة الشرقية من وإلى مناطق النظام.
وفي الطرف الآخر من “صراع السلطة”، يتربع فيلق الرحمن، فصيل تابع للجيش السوري الحر، بالإضافة إلى التحالف الإسلامي لهيئة تحرير الشام، ويسيطر الفيلق على ما تبقى من مناطق الغوطة الشرقية، والتي يشار إليها أيضاً باسم “القطاع الأوسط”. ويختلف حليفا القطاع الأوسط إلى حد كبير بتوجههما الفكري، إلا أنهما يبقيان خطا رفيعا من الشراكة بينهما ليكونا بمثابة ثقل موازن لجيش الإسلام.
أوراق نقدية أثناء عدها بواسطة ألة بمصرف في دمشق. حقوق نشر الصورة لـ Anwar Amro/AFP
وبعد مقتل زهران علوش، قائد جيش الإسلام ورأس السلطة في الجيب المحاصر، بغارة جوية جوية في 25كانون الأول عام 2015، هرعت الفصائل الثورية المنافسة في الغوطة الشرقية إلى خلق إقطاعياتهم الخاصة في ظل الفراغ في السلطة الذي أعقب غيابه.
وفي أواخر نيسان هذا العام، بلغ الصراع بين التكتلين الثوريين أوجه؛ جيش الإسلام من جهة والفيلق والهيئة من جهة أخرى، واشتعلت حرب دموية أهلية عبر بلدات وقرى الغوطة الشرقية. وبدأ النزاع حين هاجم جيش الإسلام مقرات الهيئة ومن ثم دعا إلى حملة لاستئصال جبهة النصرة من الغوطة الشرقية، بالإشارة إلى المجموعة التابعة للقاعدة سابقاً والتي تشكل العمود الفقري للهيئة.
وخلّفت شهور الاقتتال المستمر منذ ذلك الحين عشرات القتلى من الطرفين وأدت إلى شلل الحركة التجارية والإنسانية والطبية في كل أنحاء الغوطة الشرقية. وقُسِمت الغوطة الشرقية إلى نصفين من خلال عشرات الحواجز والسواتر التي تم إنشاؤها هناك مؤخراً. ولم يعد أمام أولئك الأهالي المحتجزين في القطاع الأوسط سبيلاً للوصول إلى معبر الوافدين وبالتالي تعذر وصولهم للمصادر الخارجية، ومن ضمنها السيولة.
ورغم أن الاقتتال البري بين الثوار هدأ الآن مقارنة بالأسابيع الماضية، إلا أن العبء الاقتصادي للعداوة ما زال مستمراً.
وقُطعِت المستشفيات والعيادات والمراكز الطبية المتخصصة في القطاع الأوسط بالغوطة الشرقية إلى حد كبير عن داعميها الدوليين. وتكاد هذه المنشآت الطبية تفرغ من تمويلها بعد أن استنزفت رصيدها النقدي المحدود خلال شهر ونصف تقريباً في تأمين الوقود للمولدات لإجراء العمليات ودفع الرواتب للأطباء والممرضين وشراء الأدوية من السوق السوداء التي ترتفع أسعارها باستمرار.
وفي حال استمر جيش الإسلام بمنع وصول المساعدات الدولية النقدية للقطاع الأوسط في الغوطة الشرقية، سيواجه عشرات آلاف المرضى خطر الحرمان من العناية الطبية، وفق ما قال طبيبان محليان لسوريا على طول.
تكاليف تحويل الأموال
التفت منظمات الإغاثة التي تتخذ من تركيا مقراً لها على الحصار الذي يفرضه نظام الأسد في الغوطة الشرقية واستمرت بتمويل المستشفيات المحلية لأكثر من ثلاث سنوات من خلال خوض شبكة معقدة من مكاتب الصرافة والمهربين والأنفاق.
وسارت العملية بشكل تقليدي على هذا النحو: منظمات الإغاثة الدولية ترسل تمويلها إلى مكاتب الصرافة في دمشق. وبعمولة صغيرة تبلغ قرابة 3000 ليرة سورية (5,80$ تقريباً) يقوم المهربون بنقل السيولة من العاصمة إلى الغوطة الشرقية عبر الأنفاق التي تصل الضواحي بالعالم الخارجي. وكانت الأنفاق تزود الجيب الثوري بالإضافة إلى النقود، بكل شيء من الخبز وحليب الأطفال إلى الأدوية والسجائر، وظلت تقوم بدورها هذا منذ بداية الحصار الذي طبقته الحكومة في عام 2012.
ولكن في شباط الماضي، أحكم النظام قبضته على الغوطة الشرقية. ولم تعد القوات الحكومية تغض الطرف حيال أنفاق التهريب وبدأت بجهود ممنهجة لتعطيل خطوط الإمداد في الغوطة الشرقية من خلال حملة عسكرية. وفي أذار، أغلق النظام الأنفاق و المعبر المتبقي الآخير للغوطة الشرقية، وحال دون دخول الأموال والطعام والإمدادات إلى الضواحي.
مقاتلو جيش الإسلام خارج دوما، أيلول 2016، حقوق نشر الصورة لـ Sameer Al-Doumy/AFP.
وحلقت الأسعار على مدى أسابيع. واستنزف الحصار الخانق الجيب الثوري من الوقود والدواء والسيولة المالية. وبدأت الغوطة الشرقية تنفد من النقود.
ولكن حيثما وجد الحصار في سوريا، كان هناك سوقاً للتهريب التي تعود بأرباح طائلة على كل من تجار الحروب لدى النظام أو الثوار على حد سواء. وما تزال الملابسات المحيطة بإعادة فتح شريان الحياة الأخير للغوطة الشرقية غامضة، ولكن كل الدلائل تشير إلى الدور الخفي لمحي الدين المنفوش، الشخصية الرئيسية في دهاليز عملية التهريب إلى الغوطة الشرقية.
ومحي الدين المنفوش، هو عرّاب حرب محلي، وشخصية مراوغة تُشتهر بامتلاكها شركة توزيع أغذية وألبان.وتُغرق منتجات المنفوش منطقة دمشق، حيث توزع شركته الأجبان والألبان وغيرها من السلع إلى كل من النظام والمناطق الثورية على حد سواء تحت اسم “المراعي”. وألصق على إعلانات المنفوش شعار كتب باللغة الإنكليزية‘Is all what I want!’ “هو كل الذي أريد”
ووقع المنفوش عقوداً مع كل من النظام والثوار للسماح للمهربين بنقل منتجاتهم إلى الغوطة عبر الحاجز في اتفاقيات جعلت منه رجلاً ثرياً، وأبقت رشاويه المنتظمة لمسؤولي الحكومة التي تبلغ “مئات آلاف الدولارات” معبر الوافدين مفتوحاً، وفق ما قال عضو المجلس المحلي في برزة لسوريا على طول في أذار.
فكل ما يدخل الغوطة الشرقية لابد وأن يمر أولاً على معبر رجل الألبان هذا. وفي أيار، ومع إعادة فتح معبر الوافدين، عادت المساعدات الدولية والأموال للدخول إلى الغوطة الشرقية، ولكن ليس قبل أن تنتزع كل الأطراف رطلها من اللحم.
فمكاتب التحويل المصرفي، ومهربو الأموال، وجنود النظام الواقفون على معبر المنفوش جميعهم يستغلون عنق الزجاجة هذا المؤدي إلى الغوطة الشرقية المحاصرة وذلك بفرض رسومات أعلى لنقل الأموال منذ إعادة افتتاح المعبر. وازدادت تكلفة تحويل الأموال، وفق ما تواردت الأنباء، من خمسة دولارات كحد أقصى لعملية التحويل إلى نسبة تصل 20% قبل أن تصل النقود إلى وجهتها الأخيرة.
وقال د.أحمد البقاعي، مدير مركز”إنقاذ روح” الواقع في كفر بطنا، في القطاع الأوسط والوحيد المتخصص بمعالجة الأمراض الإنتانية، لسوريا على طول، “إن ارتفاع عمولات التحويل بشكل جنوني يعني اقتطاع هذه العمولات من أصل المبالغ المخصصة لدعم مشاريع المؤسسات مما يعني تراجع التشغيل بنسبة العمولة، وهذا ينعكس على الخدمات المقدمة من قبل المؤسسات للمدنيين”.
ومع تفشي الرشوة عند معبر الوافدين، ارتفعت تكاليف تحويل الأموال في كل أنحاء الغوطة الشرقية، ولكن الأزمة كانت في طريقها للتفاقم أكثر في المؤسسات الموجودة في القطاع الأوسط الذي يحكمه فيلق الرحمن وهيئة تحرير الشام.
“القاضي والمحاسب ومُطلِق التهم”
في السابق كانت كل الأموال المحولة التي تدخل الغوطة الشرقية من خلال معبر الوافدين، وجهتها الثانية هي المكتب الاقتصادي في دوما التابع لجيش الإسلام.
ومن هنا، اتخذ جيش الإسلام دور حارس بوابة الغوطة بأكملها. وفقط بمباركته، يمكن أن تصل السيولة المالية إلى الوجهة المقصودة، سواءً كانت مستشفى أو مجلس محلي أو عائلة بعينها.
مبنى مدمر في عين ترما بالقطاع الأوسط في حزيران21،حقوق نشر الصورة لـMsallam Abdalbaset/AFP/Getty Images.
ولم يستغرق الأمر طويلاً قبل أن يستغل جيش الإسلام نفوذه في هذا الموقع. وفي19حزيران، اعتقل خمسة تجار كانوا ينقلون الغذاء والنقود للقطاع الأوسط في الغوطة الشرقية، واحتجزهم لأسبوعين.
وذكر حمزة بيرقدار، المتحدث باسم هيئة أركان جيش الإسلام، لسوريا على طول “تبين أنهم يتاجرون بأقوات الناس ويمولون جبهة النصرة”. ولذا فإن جيش الإسلام أصبح يحظر على الدوام الأموال المحولة إلى المنشآت الطبية في القطاع الأوسط، بذريعة وصولها إلى جبهة النصرة.
ورداً على ذلك قال د.أحمد البقاعي، مدير مركز معالجة الأمراض الإنتانية، لسوريا على طول “هذا الكلام عار عن الصحة”، وأوضح أن الحصار الاقتصادي الذي يفرضه جيش الإسلام على القطاع الأوسط يؤثر على المنشآت الطبية والفصائل المحلية. وبالتالي فإن مركز البقاعي، والذي هو في خضمم معالجة وباء الحصبة المتفشي من شهور، “مهدد بالإغلاق رغم أنه ممتلئ بالمرضى بكامل أسرّته وغرفه”.
تحدثت سوريا على طول مع ممثلين من ثلاثة منشآت طبية في الغوطة الشرقية ومنظمتين إنسانيتين دوليتين في تركيا، وجميعهم أكدوا أن هناك عجز شبه كلي بتحويل الأموال إلى القطاع الأوسط نتيجة تكاليف التحويل المفرطة في غلائها والحصار الاقتصادي الذي يفرضه جيش الإسلام.
وفي إحدى المرات، صادر جيش الإسلام، وفق ما تواردت الأنباء، قرابة 200,000$ من المساعدات النقدية المخصصة لمشفى واحد في القطاع الاوسط بالغوطة الشرقية، وفق ما صرح مصدر طبي في المستشفى.
وأضاف نفس المصدر لسوريا على طول “كانت الأموال ستذهب لمعالجة الأهالي المدنيين ولمشاريع مدنية بحتة لاعلاقة لها بتمويل أي فصيل عسكري متشدد أو غيره، فجيش الإسلام تحت شماعة المتشددين يقوم بالاعتقال ومصادرة الأموال، ويأخذ دور القاضي والمحاسب ومطلق التهم”.
وأكد جيش الإسلام اعتقال عدة أفراد يحاولون التوجه إلى القطاع الأوسط خلال الأسابيع القليلة الماضية، ولكنه أنكر بتعنت إعاقة حركة السيولة المالية للمنظمات الإنسانية.
ولكن وبينما يتبادل الأطباء والثوار الاتهامات فيما بينهما، تتراجع الخدمات الطبية المقدمة لعشرات ألاف الأهالي في القطاع الأوسط بالغوطة الشرقية وانخفضت عن ذي قبل. فما زالت المنشآت الطبية تزيد في تقنيين الدواء وحليب الأطفال والوقود نتيجة العجز المهلك في التمويل، وفق ما قال الدكتور اسماعيل الخطيب، مسؤول عن مركز الحكيم ودار الشفاء الطبيين في القطاع الأوسط حيث يتلقى المركزان الدعم من المؤسسة الدولية للتنمية الاجتماعية ومقرها تركيا، لسوريا على طول.
وهذه ليست المرة الأولى التي يجتاح فيها الصراع الداخلي الغوطة الشرقية، وفق ما يستذكر البقاعي، اختصاصي في الأمراض الإنتانية. فقبل سنة واحدة تماماً من اليوم الذي اندلعت به الاشتباكات الحالية، رفعت الفصائل الثورية السلاح بوجه بعضها الآخر وظلت تتناحر لأسبوعين مابين نيسان وأيار عام 2016.
وختم “على الرغم من أنه خلال السنوات الماضية كان تحييد العمل الطبي والقائمين عليه عن أي نزاع هو الموجه في البوصلة الثورية”.
ترجمة: فاطمة عاشور