ثلاثة أشهر على حادثة بشري: 300 عائلة سورية ما تزال تدفع ثمن جريمة شخص واحد
أنا لا أعرف الشخص الذي ارتكب الجريمة، لكن كان على كل العائلات السورية تحمل وزر عمل شخص واحد. كيف هي جريمتنا نحن
1 مارس 2021
البداوي ـــ خلال الحرب المندلعة في سوريا منذ عقد، عانت نورا التهجير عشر مرات. إذ فرت اللاجئة ذات الاثنتين والأربعين سنة مرات عدة من الموت والقنابل التي تنهال على مسمعٍ منها من خلال التنقل بين إدلب، المحافظة التي مكثت فيها وزوجها المختفي حالياً، ودمشق، مسقط رأسها. “في إدلب، أقمنا لثلاث سنوات تحت القصف. نمنا في العراء تحت أشجار الزيتون، لا نعلم ماذا ينتظرنا”، كما قالت.
منذ سنة ونصف السنة، لجأت نورا إلى لبنان لتلتحق بولديها الشابين في بلدة بشري ذات الطبيعة الجبلية الخلابة شمال البلاد. “صرت أستطيع النوم وأن أنعم بالراحة النفسية. في سوريا كنا نخشى دائماً إن نمنا أن لا نستيقظ”، وفق ما ذكرت نورا التي أصبحت تعمل مربية أطفال لدى جيرانها في البلدة ذات المناخ “اللطيف” على حد وصفها.
لكن منذ ثلاثة أشهر، وتحديداً في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، تواردت أنباء عن قيام المواطن السوري م. ح. بقتل جوزيف طوق، اللبناني من قرية بشري. وقد اعترف م. ح. بجريمته أمام قوى الأمن الداخلي التي وجدت معه أيضاً مسدساً يقتنيه بشكل غير قانوني.
مع انتشار الخبر في البلدة، هاجمت مجموعة من الأشخاص منازل السوريين ونهبوها، ما اضطر 1,592 سوريا للفرار بين ليلة وضحاها، فيما استدعت حالة 13 سورياً تدخلاً طبياً تولت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تغطية تكاليفها، بحسب ما ذكرت الأخيرة لـ”سوريا على طول”.
“أنا لا أعرف الشخص الذي ارتكب الجريمة، لكن كان على كل العائلات السورية تحمل وزر عمل شخص واحد. كيف هي جريمتنا نحن؟” تساءلت نورا.
وبشري هي مسقط رأس سمير جعجع، زعيم حزب القوات اللبنانية المعروف بمواقفه المناهضة للاجئين والأسد أيضاً. وكانت بلدية بشري -كما غيرها من بلديات لبنانية- أقرت في العام 2014 حظر تجول على اللاجئين السوريين. كما شهدت في العام 2017 احتجاجات تطالب بطردهم.
وتلقى لبنان الذي يضم أكبر نسبة من اللاجئين في العالم قياساً إلى عدد السكان دعماً بمقدار 991.3 مليون دولار بموجب خطة لبنان للاستجابة لأزمة اللجوء. لكن هذا المبلغ لا يشكل سوى 34% من التمويل المطلوب وهو 2,656.5 مليون دولار.
بعد مقتل طوق في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، طالب رئيس بلدية بشري جميع السوريين “الموجودين بشكل غير قانوني” في البلدة بالرحيل منها. ويقيم 96% من السوريين بشكل غير قانوني في لبنان. لأنّ “الحصول على الإقامة بالنسبة للاجئين السوريين صعب لدرجة لا يمكن تصديقها”، بحسب نادية هاردمان، الباحثة في قسم حقوق اللاجئين والمهاجرين في منظمة هيومن رايتس ووتش، و”هو ليس سوى مثال آخر عن البيئة القاهرة” التي يعيش فيها هؤلاء اللاجئون.
ولفتت هاردمان إلى أنه:
“لا ينبغي أن تؤثر تصرفات لاجئٍ واحد على المجتمع بأكمله. إن فكرة استئصالهم بعد ما قاسوه أصلاً من معاناة وصدمات كهذه كونهم لاجئين لا يمكن قبولها”.
بين ليلة وضحاها انقلبت حياتهن
صباح يوم مشرق في شباط/ فبراير الماضي، جلست نورا وسارة وفاطمة يتناقشن فيما يشربن القهوة بشأن كيف قلبت جريمة بشري حياتهن رأساً على عقب. النساء الثلاث مسجلات في مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ويقمن حالياً في مخيم البداوي، على بعد خمسة كيلومترات إلى الشمال من طرابلس.
كانت فاطمة، كما استذكرت، في منزلها يوم الحادث، حينما أخبرها أحدهم أن سورياً قتل لبنانياً. “اعتقدنا أنّه لا شأن لنا بالأمر، لكن سرعان ما أخبرنا جيراننا بأن علينا الخروج من المنزل فوراً لأن هناك مجموعة تبحث عن السوريين وتعتدي عليهم”. فما كان من السيدة ذات السبعة والعشرين عاما إلا أن سارعت وزوجها وابنها وشقيقة زوجها إلى الرحيل عن بشري بعد تسع سنواتٍ أمضوها هناك.
نورا أيضاً كانت في منزلها حين سمعت صوتاً مختلفاً لأجراس الكنائس؛ ثم ما لبثت أن سمعت طرقاً على الباب. “اقتحموا المنزل. لكني اختبأت وأسكتُ أطفالي وأطفأت الضوء حتى لا يجدونا”، كما روت. في السابعة مساء، استقلت وأطفالها على عجل شاحنة صغيرة، وحاولوا دخول قرى عدة، “لكنهم كانوا يمنعوننا. قالوا إنهم لا يستطيعون ضمان سلامتنا”. ولينتهي بهم المطاف في مدينة طرابلس عند الساعة الثانية فجراً.
سارة وأطفالها الخمسة الذين تتراوح أعمارهم ما بين الخامسة والخامسة عشرة غادروا بشري أيضاً في يوم وقوع الجريمة. لكنهم ظلوا يبحثون ليومين عن مأوى، إلى أن بادر زوج فاطمة إلى تقديم العون لهم. وقد أقامت سارة، ذات السادسة والثلاثين عاماً واللاجئة من إدلب، أربع سنوات في بشري مع أطفالها، فيما زوجها ما يزال في سوريا.
في الأيام الأولى بعد حادثة بشري، وقف السوريون أمام مكتب مفوضية شؤون اللاجئين في طرابلس للمطالبة بحل. “تقدمت بشكوى للمفوضية، وقد أخبرونا أنهم سيساعدوننا لكن عليّ الانتظار”، كما ذكرت نورا.
تلقت كل من نورا وفاطمة دعماً مالياً من منظمة التضامن الدولي غير الحكومية، قدره 450,000 ليرة لبنانية. وتلقت نورا أيضاً مبلغاً قداه 450,000 ليرة من المجلس النرويجي للاجئين. كما وفرت منظمة محلية غير حكومية أثاثاً لفاطمة. لكنّ الثلاثة اشتكين من عدم استجابة المفوضية التي ذكرت بدورها أنّ 185 أسرة تلقت مساعدات نقدية طارئة بعد الحادث.
المعركة الشاقة لاستعادة الحياة
كحال كثير من السوريين الذين غادروا بشري، مكثت نورا، بداية، في منزل أقارب لها في طرابلس، ثم قررت الذهاب مع أطفالها إلى مخيم اللاجئين في شمال محافظة عكار. لكنهم لم يمكثوا هناك سوى ليلة واحدة إذ إن “أطفالي كانوا يرتجفون برداً”، كما قالت.
وتقيم نورا الآن في جبل البداوي مع أسرة سارة إضافة إلى أسرة ثالثة، بحيث يقطن 22 شخصاً معاً في منزلٍ يبلغ إيجاره 600 ألف ليرة لبنانية شهرياً. أما فاطمة، فتقيم مع عائلتها في منزل إيجاره 360 ألف ليرة لبنانية شهريا. وقد عرضت المفوضية على النساء الثلاث “سكناً مشتركاً”، كما ذكرن، لكنهن رفضن لأنهنّ لا يستطعن السكن مع غرباء؛ فهذا مخالف للعرف الاجتماعي.
وقد تم توفير “وحدات إيواء” لـ22 عائلة من أصل 338 أسرة متضررة من جريمة بشري. وكان هناك أربع عائلات انتقلت إلى مبان دون المستوى، و”تمت إحالتها إلى إعادة تأهيل الملاجئ والدعم”، وفقاً للمفوضية.
كان زوج فاطمة يعمل في حقول بشري. وهو الآن عامل مياومة في طرابلس. وتتلقى سارة وأطفالها الخمسة 600,000 ليرة لبنانية شهريا من المفوضية، تنفق 400,000 ليرة منها على الإيجار وحده، و”يتبقى 200 ألف ليرة لبنانية لتغطية كامل النفقات الأخرى؛ وهي بالكاد تكفي الخبز”، كما قالت.
“الله وحده يعلم كم استدنت من أقرباء زوجي”، قالت نورا. علماً أن تسعاً من أصل عشر أسر سورية لاجئة إلى لبنان ترزح تحت الدين.
وفيما يعاني نصف العائلات السورية اللاجئة إلى لبنان عموماً من انعدام الأمن الغذائي، تبرز المشكلة بشكل أكبر في حالة الأسر التي تتولى إعالتها نساء، بحيث تصعد نسبة انعدام الأمن الغذائي إلى 68% مقارنة بـ13% في حالة الأسر التي يرأسها رجال. وأوضحت نورا التي اختفى زوجها سوريا وسارة التي ما يزال زوجها هناك أن أطفالهما يعملون في الشوارع، حيث يبيعون المناديل الورقية أو يفتشون في القمامة بحثاً عن العبوات البلاستيكية لبيعها “لنتمكن من شراء الخبز فقط”، كما قالت نورا. وقد ارتفعت نسبة عمالة الأطفال في أوساط اللاجئين السوريين في لبنان من 2.6% إلى 4.4% في العام 2020.
ورغم صعوبات التأقلم مع الحياة في طرابلس بعد الترحيل من بشري، إلا أنه على حد علم النساء الثلاث لم تعد أي عائلة سورية إلى البلدة. لكن وفقاً لبيانات مفوضية شؤون اللاجئين، عاد 13 سوريا في منتصف كانون الأول/ديسمبر الماضي لالتزامهم بعمل هناك، فيما يقيم هناك حالياً ما مجموعه 220 لاجئاً سورياً.
العودة بالنسبة لفاطمة ليست خياراً متاحاً، كما قالت. “لايمكننا الرجوع إلى بشري، نحن نخاف العودة، فلسنا بمأمن هناك”.
*خشية على سلامتهم، طلبت النساء اللاجئات الثلاث اللواتي تحدثن إلى “سوريا على طول” في هذا التقرير إخفاء أسمائهن الحقيقية.
نُشر هذا التقرير أصلاً باللغة الإنجليزية، وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور.