ثلاث سنوات على “غصن الزيتون”: عسكرة عفرين واستمرار الانتهاكات بحق سكانها
في عفرين الحدودية مع تركيا، حيث يتدخل العسكر في أدق تفاصيل حياة المدنيين، وتنتشر الحواجز التابعة لفصائل الجيش الوطني، صارت القاعدة عند المواطن الكردي خصوصاً "اسكت، وارض بالواقع، وحاول أن تتعايش معه".
27 يناير 2021
عمان- في عفرين الحدودية مع تركيا، شمال غرب مدينة حلب، حيث يتدخل العسكر في أدق تفاصيل حياة المدنيين، وتنتشر الحواجز التابعة لفصائل الجيش الوطني (المدعوم من تركيا) على مداخل الحارات والأزقة ومخارجها، اعتاد سكان المدينة الأصليون، لا سيما الأكراد منهم، “على الظلم” كما عبّر أحد أبنائها.
ثلاث سنوات مرت على عملية “غصن الزيتون” التي أطلقتها فصائل المعارضة السورية المدعومة من تركيا، في 20 كانون الثاني/يناير 2018، ضد وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)، الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي، وانتهت في 18 آذار/ مارس من العام ذاته بسيطرة تلك الفصائل على كامل عفرين وريفها. واليوم “اعتدنا على حصاد أرضنا وتقديم حصة للفصائل، وأن لا نغادر منازلنا بعد الثامنة ليلاً”، كما قال علي العفريني (اسم مستعار) لـ”سوريا على طول”. مضيفاً أنه “مهما تحدثنا لن يفيد الكلام، وعند أول مشكلة ستُتهم بأنك مع الحزب [الاتحاد الديمقراطي]، وستُساق إلى مكان مجهول”.
لذلك، صارت القاعدة عند المواطن الكردي خصوصاً، بحسب العفريني الذي طلب عدم الكشف عن اسمه الحقيقي لدواع أمنية: “اسكت، وارض بالواقع، وحاول أن تتعايش معه”.
أكثر من ذلك، فإن عفرين اليوم “أشبه بكعكة مقسمة إلى قطاعات، وكل فصيل يتحكم بقطاعه، سواء بتأجير المنازل والمحال التجارية، أو استثمار أراض زراعية هجرها سكانها الأصليون”، بحسب أحمد السلمان (اسم مستعار)، المهجر من الغوطة الشرقية، وصولاً إلى تولي هذه الفصائل إدارة “المرافق العامة في قطاعاتها، بما في ذلك الحدائق العامة”.
“تخيل أن حديقة عامة مخصصة للمدنيين يسيطر عليها فصيل عسكري، ويتحكم عناصره فيها لدرجة تأسيس كشك [بوفيه] للتسالي يعمل لحساب الفصيل!”، أضاف السلمان لـ”سوريا على طول” بلهجة استنكار.
تدخل الفصائل في مجرى الحياة في عفرين لا يؤثر على المدنيين كأفراد فحسب، بل ينعكس كذلك على عمل المجالس المحلية المعنية بتقديم الخدمات لسكان المدينة، رغم أن هذه المجالس مدعومة من أنقرة أسوة بالفصائل. إذ إن “وجود العسكر داخل المدن من شأنه أن يؤثر على عمل المؤسسات المدنية العاملة في المنطقة، وهو ما يحصل في عفرين حيث يتأثر المجلس بالواقع الأمني المفروض”، كما قال نائب رئيس المجلس المحلي في عفرين، محمد الشيخ رشيد، لـ”سوريا على طول”.
انتهاكات واقتتال داخلي تبرره التفجيرات!
يكاد لا يمرّ شهر على مناطق “غصن الزيتون” من دون وقوع انفجار أو حدوث اقتتال بين الفصائل العسكرية المدعومة من تركيا. ففي مطلع العام الحالي، قتل مدني وأصيب آخرون بجروح جراء انفجار سيارة مفخخة في ناحية جنديرس في ريف عفرين. فيما وثق مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان “مقتل 116 مدنياً وإصابة أكثر من 460 شخصاً، نتيجة متفجرات من مخلفات الحرب واستخدام مجهولين لعبوات ناسفة”، خلال الفترة من 1 كانون الثاني/يناير وحتى 4 أيلول/سبتمبر 2020 .
وكانت جنديرس أيضاً شهدت في كانون الأول/ديسمبر الماضي اقتتالاً بين عناصر من حركة نور الدين الزنكي المنضوية ضمن صفوف الجيش الوطني في عفرين وعناصر من مقاتلي الغوطة الشرقية المهجرين، على خلفية اعتقال “الزنكي” مهجراً بعد نزاع حول منزل كان يسكنه الأخير وتعود ملكيته لعائلة مهجرة من جنديرس.
في هذا السياق، لفت سمير حسن (اسم مستعار)، المهجر من الغوطة الشرقية، إلى استمرار فرض الفصائل “إتاوات على المدنيين، والضغط على المستأجرين لإخلاء منازل تقع تحت مناطق نفوذها”. وقد كان حسن استأجر منزلاً من مالكه، لكنه اضطر إلى دفع أجرته “لفصيل جيش الشرقية، والذي ضغط عليّ لاحقاً لإخلاء المنزل رغم عدم انتهاء العقد”، كما روى لـ”سوريا على طول”.
ورغم تشكيل لجنة متخصصة في متابعة شكاوى المدنيين في مناطق “غصن الزيتون” باسم “ردّ المظالم”، تتكون من عدة فصائل عسكرية تابعة للجيش الوطني، واستقبلت في أقل من عشر أيام نحو 300 شكوى، إلا أن “لجنة رد المظالم، وكذلك الشرطة المدنية في عفرين، لم تسهما حتى الآن في منع الانتهاكات، خاصة وأن المدنيين يتخوفون من سلطة الفصائل على هاتين الجهتين” وفق حسن.
هذه المخاوف يؤكدها عنصر في الشرطة المدنية، تحدث إلى “سوريا على طول” شريطة عدم الكشف عن هويته. إذ أقر بأن “دورنا محجّم جداً أمام دور الفصائل العسكرية في عفرين”، بحيث “يقتصر على حلّ المشاكل بين المدنيين”. بل إنه “إذا اعتقلت الشرطة العسكرية [المعنية بمراقبة انتهاكات الفصائل] عنصراً من أحد الفصائل، فإن الفصيل قد يواجه الشرطة العسكرية بالسلاح لإطلاق سراح العنصر”، بحسب المصدر ذاته.
إضافة إلى الانتهاكات بحق ممتلكات سكان عفرين، وثقت منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” خلال الشهرين الأخيرين من العام 2020 فقط، وقوع 231 حالة اعتقال أو اختفاء قسري أو توقيف في مناطق “غصن الزيتون”. وقد طالت عمليات الاعتقال، بحسب المنظمة الحقوقية، 22 امرأة وأربعة أطفال، و 205 رجال.
رداً على ذلك، اعتبر مدير التوجيه المعنوي في الجيش الوطني، حسن الدغيم، عدم وجود “أي مصلحة لأي قوة عسكرية في أن تتخذ من البلدات والمدن مقرات لها”، مبرراً في الوقت نفسه حصول هذا الأمر في حالة عفرين وغيرها من المناطق الواقعة تحت سيطرة الجيش الوطني بنشاط “تنظيمات تحمل أيديولوجيا صراع مستدام”، بحيث “لا يمكن التعويل على جهاز شرطة مدني فقط في المواجهة الشاملة مع تنظيمات تستخدم التفجير وشبكات الاغتيال”.
وإذ أقرّ الدغيم في حديثه إلى “سوريا على طول” بأن “ليس كل ما يفعله الجيش الوطني محلّ رضا” معتبراً أنه “تحدّ يجب مواجهته وتحسين ظروفه”، فإنه أكّد في الوقت ذاته “عمل الجيش الوطني وضمن حدود إمكاناته على محاسبة المتجاوزين ورد الحقوق إلى أصحابها”.
من جانبه، اعتبر نوار شعبان، مدير وحدة المعلومات والشؤون العسكرية في مركز عمران للدراسات، ومقره تركيا، أن “الفصائل العسكرية في عفرين تجد في التفجيرات المستمرة مبرراً لاستمرار وجودها”. بالتالي، ورغم المطالبات المستمرة بإخلاء عفرين من الفصائل العسكرية، “فإن أن ذلك لن يتم طالما تشهد المنطقة انفجارات هنا وهناك”، كما أضاف لـ”سوريا على طول”.
غياب الدور التركي
في 20 كانون الثاني/يناير 2018 شاركت 72 طائرة مقاتلة تركية في قصف مواقع تابعة لـ”وحدات حماية الشعب” في عفرين، معلنة بدء عملية “غصن الزيتون” التي شارك فيها أيضاً جنود أتراك على الأرض إلى جانب عناصر من الجيش الوطني.
بعد السيطرة على المنطقة، تراجع الدور التركي المباشر في إدارة مناطق “غصن الزيتون”، ليصبح “وجود الأتراك سيادياً فقط”، بوصف العفريني، إذ يقتصر على التمويل وحضور “منسقين ومستشارين أتراك”، كما قال أحد أعضاء المجلس المحلي في عفرين لـ”سوريا على طول”.
غير أن تراجع حضورها المباشر لا يلغي أن تركيا “مسؤولة قانونياً وسياسياً وأخلاقياً وعسكرياً عن هذه المنطقة، كما يقع على عاتقها أمان الناس في عفرين ورفاههم”، بحسب بسام الأحمد، مدير “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، على اعتبار أنّها “صاحبة القرار الأول والأخير على هذه المناطق”.
لكن فيما “تعدّ تركيا قوة احتلال عسكري، ما يرتّب عليها التزامات تجاه المنطقة”، كما أضاف الأحمد لـ”سوريا على طول”، فإنها “تحاول عدم تحمل مسؤولية ما يجري في عفرين”، و”تطلق يد الفصائل السورية، ومن ثم تقول إن الانتهاكات تقع بين السوريين فيما بينهم”.
في السياق ذاته، رأى شعبان أنه رغم كون الدور التركي في مناطق “غصن الزيتون” أقل مما هو في مناطق “درع الفرات” بريف حلب الشمالي، و”نبع السلام” في شمال شرق سوريا، إلا أن ذلك لا ينفي “وجود محاولات جدّية من الجانب التركي لضبط الأمن في عفرين”، لكن جهود أنقرة في الاخيرة “تقتصر على دعم الأجهزة الأمنية المحلية ومشاريع ضبط الواقع الأمني، من دون مشاركة مباشرة من الأتراك”. مستبعداً في الوقت ذاته “أي تدخل مباشر في المستقبل”، بحكم “كثافة العمليات العسكرية الإرهابية ضد تركيا، ما يدفعها إلى تأمين عناصرها”.
أكراد عفرين بين مواجهتين
في أعقاب انتهاء عملية “غصن الزيتون”، شهدت عفرين عودة دفعات من النازحين إلى منازلهم التي كانوا قد فرّوا هرباً من المعارك. لكن “عودة سكان عفرين توقفت منذ سنتين تقريباً”، بحسب علي العفريني. معللاً ذلك “بكثرة انتهاكات الفصائل بحق المدنيين، وخصوصاً الكرد، وكذلك وقوف الإدارة الذاتية [لشمال وشرق سوريا] ضد [الراغبين في العودة]”.
العفريني، وهو واحد من آلاف النازحين الذين فضّلوا العودة إلى المدينة بعد أيام من انتهاء العملية العسكرية، كان قد اصطدم “بمنع الإدارة الذاتية عودة النازحين إلى عفرين وإغلاقها للطرقات آنذاك”. لكنه اليوم يخشى الخوض في أي حديث فيه انتقاد للفصائل الموجودة في عفرين خشية اتهامه “بالتبعية لحزب الاتحاد الديمقراطي” الذي تعتبره أنقرة امتداداً لحزب العمال الكردستاني التركي المدرج على قائمة الإرهاب التركية.
وقد اتهم عضو في رابطة المستقلين الكرد، طلب عدم الكشف عن هويته، الإدارة الذاتية “بمنع أهالي عفرين في المخيمات من العودة إلى منازلهم”، مشدداً في حديثه إلى “سوريا على طول” على ضرورة “عدم حصر ملف نازحي عفرين بانتهاكات الفصائل الموجودة أصلاً”.
لكن “”حتى لو سمحت الإدارة الذاتية للمدنيين بالعودة إلى عفرين، فهل ستكون حياتهم آمنة في ظل الانفلات الأمني هناك؟”، كان رد شيرفان أحمد (اسم مستعار)، المهجر من عفرين إلى محافظة الحسكة. مضيفاً لـ”سوريا على طول”: “ألم يكن نزوح آلاف المدنيين من عفرين خوفاً من الانتهاكات؟ نعم خرجوا خوفاً مما يجري الآن”.
وقد اعتذر د. عبد الحكيم بشار، نائب رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وعضو المجلس الوطني الكردي، عن الإدلاء بأي تصريحات بخصوص عفرين، موضحاً أن “هناك جهوداً لحل مشكلات عفرين من خلال الائتلاف والحوار الداخلي”.
وكان الائتلاف الوطني والمجلس الوطني الكردي وقعا، في كانون الثاني/يناير 2020، بمدينة اسطنبول، وثيقة “الآلية الإنسانية” التي تنصّ على فتح ممرات آمنة أمام عودة نازحي مدينة رأس العين في محافظة الحسكة، وتل أبيض في محافظة الرقة، وعفرين في محافظة حلب، بهدف ضمان وصول النازحين، بمن فيهم الأكراد، إلى ديارهم لمنع التغيير الديمغرافي. لكن هذه الاتفاقية، بحسب فيصل يوسف، عضو هيئة رئاسة المجلس الوطني الكردي، والمنسق العام لحركة الإصلاح الكردي “بقيت من دون تنفيذ بسبب ممارسات بعض المجموعات المسلحة التي دخلت تلك المناطق مع الجيش التركي وعدم انصياعها لقيادة الائتلاف”.
وحذّر يوسف، في حديثه لـ”سوريا على طول” من أن ما يجري في عفرين “تغيير ديموغرافي وإفراغ المنطقة من سكانها الأصليين”. مشيراً إلى أن “معظم سكان عفرين هم أكراد، وثمة مواقف عدائية من قبل هذه المجموعات المسيطرة [فصائل المعارضة] تجاه الكرد”.
ويتراوح عدد سكان مدينة عفرين والمناطق التابعة لها بين 400 إلى 500 ألف نسمة، بحسب أرقام تقديرية حصلت “سوريا على طول” عليها من المجلس المحلي للمدينة، لكن فيما كان الأكراد يشكلون أغلبية سكانها، بحسب منظمة حقوق الإنسان في عفرين، وهي منظمة محلية ترصد التطورات في المنطقة، فإن “نسبة الكرد اليوم في عفرين لا تتجاوز 35% مقابل 65% استقدمهم الأتراك من الغوطة وحمص وإدلب”، بحسب المنظمة.
ولعل المفارقة أن المهجرين المقيمين في عفرين قد يقدمون على اتخاذ “مواقف جريئة ضد الفصائل وداعمة للأكراد” في المقابل “يكتفي الكردي بالصمت”، كما قال علي العفريني، إذ “ضرر الحديث عن الانتهاكات أكبر من نفعها”. متسائلاً بتهكّم ومرارة: “تخيّل لو أن كردياً شارك في التظاهرات التي ينظمها مهجرون في عفرين ضد الفصائل والمجالس المحلية، ماذا سيحدث له؟”.