ثمناً للمياه: نساء في الحسكة تحت وطأة التحرش والاستغلال
في استبيان شارك به 50 امرأة وفتاة في مدينة الحسكة، شمال شرق سوريا، تعرضت 36 بالمئة من المشاركات لعبارات مزعجة من قبل مزودي المياه، وصلت حدّ "التحرش اللفظي"، كما قالت بعضهنّ.
10 سبتمبر 2024
القامشلي- حتى آذار/ مارس 2023، كانت مروى، 30 عاماً، تتحمل مسؤوليتها في التناوب مع أخواتها على نقل المياه من خزان عام موجود في حي النشوة بمدينة الحسكة، شمال شرق سوريا، إلى منزلها، وهو روتين اسبوعي لم تتخلف عنه إلا بعد تعرضها لحادثة تحرش.
في ذاك الشهر، كانت مروى بصدد نقل مئة لتر من المياه إلى منزلها على دفعتين، وهي الحصة المسموح بنقلها لكل منزل من منازل الحي المحيطة بالخزان، الذي تتكفل منظمة إغاثية دولية بتعبئته. بعد نقل 50 لتراً، عادت إلى طابور النساء، فأخبرها مراقب الدور المكلف من المنظمة بضرورة “إعطاء المجال” لغيرها لأنها أخذت حصتها، فأوضحت له أنها لا تستطيع نقل الكمية دفعة واحدة، كما قالت لـ”سوريا على طول”.
أثناء الانتظار “شعرتُ بأن المراقب يحاول الوقوف على مقربة مني بطريقة غير مريحة، ومن ثم لمس يدي”، قالت مروى، معتبرة ما حدث “تحرشاً جنسياً”، لذلك “تركت المكان وعدت إلى المنزل من دون الحصول على الدفعة الثانية”.
بعد عملية “نبع السلام” العسكرية، التي شنتها تركيا بمشاركة فصائل الجيش الوطني السوري (المعارض) السورية، ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وانتهت بسيطرة القوات المهاجمة على مدينتي رأس العين/سري كانيه في محافظة الحسكة، وتل أبيض في محافظة الرقة، استخدمت أنقرة والفصائل المدعومة منها المياه “كسلاح“، عبر التحكم بضخ المياه من محطة علوك في مدينة رأس العين، التي تغذّي أحياء الحسكة.
وبذلك، أضيفت مهمة جديدة إلى قائمة المهام والواجبات الملقاة على عاتق نساء الحسكة وفتياتها، وهي نقل المياه من الخزانات العامة، التي وزعتها المنظمات الإنسانية في أحياء الحسكة، كأحد الحلول الطارئة لتوفير مياه الشرب المجانية لسكان المدينة.
يربط تقرير صادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA)، في مطلع 2024، بعنوان “لمحة عامة عن العنف المبني على النوع الاجتماعي في سوريا”، حوادث العنف الجنسي المرتفعة بمرافق المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية، بما في ذلك المراحيض ومواقع الاستحمام ونقاط المياه، لكن ندرة المصادر المفتوحة من تقارير أممية ومواد صحفية دفعت معدة التقرير إلى المتابعة الميدانية الحثيثة.
خلال زيارة ميدانية لمعدّة التقرير إلى أربعة أحياء في الحسكة: غويران، النشوة الغربية، المشيرفة، وحي خشمان، التي يعتمد سكانها غالباً على الخزانات العامة في تأمين مياه الشرب، وقابلت نساء وفتيات ينقلنَ المياه على مسافات تتراوح من عشرة أمتار إلى أكثر من مئة متر في بعض الأحياء.
اشتكت النساء التي تم اللقاء بهن من العديد من المواقف التي يتعرضن لها، من قبيل المشاحنات التي تحدث في طوابير الانتظار، وتحديد الكميات المسموح نقلها، إلا أنهنّ تحاشينَ الإشارة عما إذا تعرضن لحوادث تحرش، كما حصل مع مروى.
في المقابل، قالت نساء من حي غويران أنهنّ لا يسمحن للفتيات غير المتزوجات نقل المياه، لأن “النظرات لعنة”، ونقل الفتيات للمياه سيعرضهنّ لسماع كلمات من الرجال في الشارع، كما قالت إحداهنّ لـ”سوريا على طول”.
ومن جهتها، قالت إحدى المستفيدات من مياه الخزانات، تبلغ 19 عاماً، أنها لم تنقل المياه إلا بعد زواجها، “لأنها مهمة النساء المتزوجات”، دون أن توضح الأسباب.
أما في حي خشمان، قالت نساء لمعدّة التقرير أن “النساء والفتيات ينقلن المياه من خزانات الحي إلى بيتوتهنّ لكن بعد التأكد من أن سائق صهريج المياه ومراقب المنظمة غادرا المكان”.
إضافة إلى الزيارات الميدانية، وزعت معدة التقرير استبياناً لأشخاص في مدينة الحسكة، وأتاحت طريقة تواصل مع المستهدفات من الاستبيان حال رغبتهنّ في التواصل مع معدة التقرير، وقد تواصلت العديد من المصادر للحديث عن تجربتهن.
تحرش مراقبين
على بعد ثلاثة كيلومترات من حي النشوة، ينتظر أهالي حي العسكري يوم الإثنين من كل أسبوع، وهو موعد تعبئة الخزانات العامة التي تزود الأهالي بالمياه.
تتناوب ليلى، 28 عاماً، مع أخيها في نقل المياه إلى منزلها، الذي يبعد عشرات الأمتار عن الخزان، لكن في إحدى المرات عندما همّت لمغادرة منزلها صادفت الموظف المراقب أمام الباب، فاقترب منها قائلاً: “هل تسكنين في الحي؟”، فأجابت: “نعم”، فردّ عليها: “سنسحب الخزان ليكون أقرب إلى بيتك!”، كما قالت ليلى لـ”سوريا على طول”.
ضحكت ليلى بتهكم، وواصلت حديثها: “تخيلي لأنني أعجبته يريد أن يقّرب الخزان إلى بيتي حتى لو أبعده عن بيوت كبار السن!”.
عندما شعرت ليلى أن المراقب مستمر في التمادي، تظاهرت بأنها تنادي أخاها، “فأدار الموظف ظهره وابتعد”، وظنّت أن القصة انتهت هنا، لكن بعد أسبوع عندما عادت من عملها وجدت الخزان في مكان قريب من بيتها، معبرة عن استيائها بالقول: “إحساس بشع، والأبشع عندما رأيت الخزان في مكان قريب، ما ذنب الناس؟”.
ومن حينها، تتخذ ليلى احتياطاتها، وتحاول أن تتأخر عن جلب المياه منتظرة “مغادرة مراقب المنظمة”، ولم تخف مخاوفها من أن “يفتعل أخي مشكلة إذا انتبه إلى كلام الموظف”.
تضمن الاستبيان رأي 50 امرأة في الحسكة ومخيمي سري كانيه في حي الطلائع بالحسكة، وواشوكاني في قرية التوينة بريف الحسكة
أجرت معدّة التقرير استبياناً تضمن رأي 50 امرأة وفتاة في مدينة الحسكة ومخيمي سري كانيه وواشوكاني (المتأثرين بأزمة المياه)، تتراوح أعمارهنّ بين 18 و45 عاماً، وبحسب نتائج الاستبيان، فإن 36 بالمئة من المشاركات تعرضنَ لعبارات “مزعجة” من قبل مزودي خدمة المياه.
وقالت ثلاث نازحات من مخيم “واشوكاني”، الذي يقطنه نازحون/ات من مدينة رأس العين (سري كانيه) أنهن تعرضن لـ”تحرش لفظي”، ووجهت إليهن عبارات، من قبيل: “ما تريديني؟”، “أنا معجب”، “عندك رقم هاتف؟”.
تتقاطع نتائج الاستبيان مع نتائج تقييم مخاطر وصول النساء إلى المياه، الذي أجرته منظمة السلام، منظمة محلية مركزها في مدينة الحسكة، إذ شمل تقييمها 120 امرأة وفتاة، تم الوصول إليهنّ عبر فريق التوعية الجوال.
وقد يكون “الاستهتار وغياب الرقابة على العاملين المراقبين هو سبب التحرش وهذا التعامل بحق المستفيدات”، بحسب عائشة، 27 عاماً، وهي معلمة نازحة من مدينة رأس العين (سري كانيه)، لأن “المراقبين العاملين مع المنظمات يطرحون كثيراً من الأسئلة الشخصية على المستفيدات، من قبيل: أنت متزوجة؟ عندك رقم للتواصل؟”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.
قال داوود داوود، المدير التنفيذي لمنظمة السلام في الحسكة: “يوجد استغلال وتحرش بالنساء والفتيات، خاصة المهمشات والضعيفات اقتصادياً”، محذراً من أن الندرة المتزايدة للمياه قد تؤدي إلى “تفاقم هذه المخاطر”.
من جانبها، رفضت أخصائية الحماية من الاستغلال، التابعة لإحدى الشبكات الدولية، التي تنفذ برامجها في شمال شرق سوريا، الإجابة عمّا إذا كانت منظمتها تلقت شكاوى بسبب الاستغلال والتحرش الجنسيين المرتبطين بالوصول إلى المياه، لكنها قالت لـ”سوريا على طول”: “عندما يكون الوصول إلى الخدمات محدوداً، يزداد خطر الاستغلال والاعتداء الجنسي”.
استغلال أصحاب الصهاريج
عند الحديث عن “الاستغلال” في سياق الحديث عن أزمة المياه في الحسكة وغيرها من المناطق السورية، يتبادر إلى ذهنك الحديث عن “الاستغلال المادي”، إذ بينما يبلغ سعر تعبئة صهريج المياه، سعة 30 ألف لتر، نحو 25 ألف ليرة سورية (1.70 دولار أميركي، بحسب سعر الصرف في السوق السوداء البالغ 14,650 ليرة للدولار)، يحصل المواطن على خمسة آلاف لتر بمبلغ 35 ألف ليرة (2.4 دولار)، أي ثلاثة أضعاف السعر عمّا كان عليه في صيف 2023.
لكن، العديد من النساء في الحسكة، يجدن أن بعض مزودي المياه من البائعين لا يكتفون بهذا “الاستغلال المادي”، وإنما يصل أحياناً إلى استغلال جنسي وطلب خدمات مقابل تأمين المياه، كما اشتكين لـ”سوريا على طول”.
أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها 64/ 292، الصادر في تموز/ يوليو 2010، أن “الحق في الحصول على مياه شرب مأمونة ونقية والصرف الصحي حق من حقوق الإنسان ولا بدّ منه للتمتع التام بالحياة وبجميع حقوق الإنسان”، وكرّس مجلس حقوق الإنسان هذا الحق في قراره رقم (15/ 9)، موضحاً أن هذا الحقّ “مستمد من الحقّ في مستوى معيشي لائق”.
يبلغ متوسط المبلغ الذي تدفعه عائلات في الحسكة شهرياً لشراء المياه إلى 210 آلاف ليرة (13.35 دولار)، مقابل ستة خزانات سعة خمسة آلاف لتر للخزان الواحد، علماً أن الخزان يلبي احتياجات عائلة مؤلفة من خمسة أشخاص لمدة خمسة أيام تقريباً.
بعد شراء المياه من أحد أصحاب الصهاريج في شباط/ فبراير 2024، بدأت ليلى بتلقي مكالمات، بعد منتصف الليل، من البائع، ولأنها لم تردّ على اتصالاته أرسل رسالة صوتية قال فيها: “لم آخذ منك سوى عشرة آلاف ليرة ثمن الماء. ردّ عليّ”.
نفت ليلى ما قاله البائع، مؤكدة أنها دفعت المبلغ كاملاً، واتصلت به في اليوم التالي لتستفسر منه، فسألها: “أنت من الحي الفلاني؟”، وعندما أخبرته بأنها ليست المرأة التي يسأل عنها “اعتذر قائلاً أنه أخطأ بالرقم”.
واتهمت ليلى البائع بأنه “يستغل حاجة النساء بتقديم المياه مقابل سعر أقل من أجل أن يطلب منهنّ خدمات أخرى”.
وقبل ذلك، اضطرت ليلى إلى تغيير رقم هاتفها بعد أن تعرضت لعدة مضايقات من صاحب أحد الصهاريج، الذي حاول الاتصال بها مراراً من عدة أرقام وطلب اللقاء بها في الخارج، كما قالت.
من جهتها، قالت إحدى السيدات اللواتي شملهنّ استبيان معدة التقرير، أنها تعرضت أيضاً للمضايقات من أحد بائعي المياه، وقد بلغت جرأته في أن يعرض عليها بدل المال “خليهن باخد بحقهن سهرة معك”، أو أن يزورها في منزلها، كما أرسل لها رسائل مسيئة، طالباً صورها، إضافة إلى طلبات جنسية صريحة، على حد قولها.
تعليقاً على ذلك، أكد أنس أكرم، الذي يعمل صباحاً في توزيع المياه مع إحدى المنظمات، وفي بيع المياه بعد انتهاء دوامه، وجود تجاوزات تتعرض لها النساء، مستنداً على ذلك بما يسمعه من حديث البائعين أثناء تعبئة الصهاريج، إذ لا يتردد بعضهم بالبوح بأنه “يقدم الماء بالمجان لقضاء وقتاً مع زبونة”.
عزت ريما الكليب، محفزة اجتماعية تعمل مع منظمة “بيل – الأمواج المدنية” في مدينة الحسكة أن “استغلال مزودي المياه للنساء ناتجٌ عن عدة عوامل، منها: التمييز الاجتماعي والاقتصادي، والافتقار إلى الرقابة والتشريعات المناسبة”، بينما يربط المدير التنفيذي لمنظمة السلام، داوود داوود، هذه المشكلة بـ”نقص الوعي وهشاشة الوضع الاقتصادي”.
في مواجهة أزمة المياه، نفّذت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا برنامج استجرار المياه من نهر الفرات إلى الحسكة، إذ بدأ الضخ التجريبي في تموز/ يوليو الماضي، ويستفيد منه حالياً أحياء: غويران، الزهور، العزيزية، الطلائع، الصالحية، المفتي، وقسم من حي خشمان، وفقاً لوكالة هاوار التابعة للإدارة الذاتية.
تعليقاً على ذلك، قالت نساء من حي غويران، اللاتي أجريت معهنّ لقاءات لغرض إعداد هذا التقرير، أن المياه من المشروع الجديد وصلت لأيام معدودة في شهر تموز/ يوليو، ومن ثم توقف الضخ. عزت لجنة المتابعة لخط جرّ مياه الفرات انقطاع المياه إلى التعديات التي حصلت على طول 60 كيلومتراً، كما أوضح عضو اللجنة، عدنان خالد، لشبكة آرتا إف أم، مشيراً إلى أنهم رصدوا 15 تعدياً.
خريطة توضح الأحياء المستفيدة من برنامج ضخ مياه نهر الفرات إلى محطة مياه العزيزية حسب موقع وكالة هاوار، مصدر الخريطة: Wikimapia
موانع الشكوى
في أيار/ مايو، عملت عائشة مراقبة توزيع المياه في مخيم “واشوكاني” بعقد لمدة 20 يوماً لدى إحدى المنظمات الدولية، التي تقدم خدمات إغاثية لسكان المخيم، ويقتضي عملها مراقبة ملء مياه الخزانات الموزعة في أحد قطاعات المخيم من سائقي الصهاريج، وانتظار تعبئة كل الخزانات لتعود إلى نقطة تجمع المراقبين والمراقبات.
عند انتهاء عملها في أحد الأيام من ذاك الشهر، استقلت الصهريج الأخير، العائد إلى نقطة التجمع، و”عند ركوبي في السيارة إلى جانب المرافق، أحسست بيده تشد يدي تجاهه. تغاضيت عن ذلك ظناً مني أنه لم يقصد ذلك، لكن قبل نزولي قام بقرص فخذي”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.
تتبع المنظمات العاملة في مجال تزويد المياه بمخيم “واشوكاني” نهجاً يقوم على تدريب المراقبين/ـات والموزعين على سياسات حماية الطفل والنساء، كما يوقع المراقبون على مدونة سلوك بشروط إدارية تفيد باستبعادهم من العمل حال الإخلال بها، وفقاً لعائشة، إضافة إلى أنه يُشترط أن يرافق صاحب صهريج المياه دائماً مرافق ومراقب/ـة من المنظمة للتأكد من ملئ الخزان كاملاً، منعاً لسرقة المياه أو بيعها من قبل صاحب الصهريج المتعاقد مع المنظمة.
روت عائشة لزميلاتها ما حدث معها، لكنهنّ نصحنَها بعدم تقديم شكوى ضد المرافق “حتى لا يخسر المرافق عمله ومصدر رزقه”، فامتثلت لهنّ لأنها خشيت استبعادها، مشيرة إلى أنهنّ “تعرضن لمواقف مشابهة ولم يشتكين”.
ونظراً للواقع الاجتماعي الذي يضع اللوم على الضحية بدلاً من محاسبة المرتكب في مجمل القضايا الخاصة بالنساء، امتنعت عائشة عن إخبار عائلتها بما حدث لها “لأنهم لن يصدقوا أنني لست السبب وراء تصرفه”.
على عكس عائشة، تقدمت سلمى، 21 عاماً، بشكوى ضد أحد الأشخاص المسؤولين عن تعبئة المياه في مخيم سري كانيه بحي الطلائع في مدينة الحسكة، في الصيف الماضي، وقد “استجابت المنظمة المسؤولة وطردت الشخص من عمله ووظّفت مكانه شخص آخر”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.
تلقت سلمى “الكثير من الكلمات المسيئة من بائعي المياه في المخيم”، لكن في إحدى المرات “كنت أقوم بأعمال المنزل من دون ارتداء الحجاب، ففوجئت بأحد الأشخاص المسؤولين عن تعبئة المياه يسترق النظرات أثناء وجوده فوق سطح مطبخي”، في إشارة إلى الموظف “المطرود”، الذي اشتكت عليه.
“ثقافة الشكوى غير موجودة لدى النساء في المخيم، إلا أنني نتيجة اختلاطي من خلال التدريبات مع المنظمات، أعلم أنه من حقي تقديم شكوى على مقدم الخدمة في حال ارتكب إزعاجاً بحق المستفيدات”، بحسب سلمى.
لكن “اسم الشكوى بحد ذاته يخيفني”، قالت مروى، متسائلة: “ماذا لو اشتكيت وقطعوا الخدمة عن الحي؟ لا نملك القدرة في البيت على شراء المياه بشكل دوري”.
في 22 آب/ أغسطس، تواصلت معدّة التقرير، عبر الإيميل، مع المديرة الإقليمية للمنظمة التي قالت مروى أنها تعرضت للتحرش من قبل مراقبها، بهدف معرفة مدى موائمة آليات الشكاوى لديها للواقع الاجتماعي في مدينة الحسكة وآليات حماية النساء اللواتي تقدمن الشكاوى وآليات التدريب لمقدمي الخدمة، لكن المنظمة لم تردّ على البريد حتى لحظة نشر هذا التقرير.
بعد ذلك، علمت معدّة التقرير من مصدر داخلي في المنظمة أن الأخيرة ترفض أي ادعاء بارتكاب أحد مراقبيها الاستغلال الجنسي أو التحرش بالمستفيداتِ.
قالت أخصائية الحماية من الاستغلال، التابعة لإحدى الشبكات الدولية، في المقابلة التي أجريت معها عبر تطبيق ZOOM، أن شبكتها تدعو منذ العام الماضي إلى استخدام مسارات إحالة الشكوى بين مقدمي الخدمة من المنظمات المنضمة إلى الشبكة على أساس “آلية الشكوى المجتمعية”، بالاعتماد على المنظمات المحلية العاملة في المنطقة.
وأضافت الأخصائية: “في حين تعمل الشبكة على دعم المنظمات الإنسانية ونقاط الاتصال المعنية بالحماية من الاستغلال، الابتزاز والتحرش الجنسي، لضمان وجود شكاوى داخلية وإجراءات تحقيق فعالة ملتزمة بالمبادئ العالمية، فإنها ليست مسؤولة عن الشكاوى ولا تحقق فيها”، مشيرة إلى أن التحقيق “مسؤولية المنظمة أو الكيان الإنساني الذي يوظف مرتكب الجريمة المزعوم، وبالتالي فهي مسؤولة عن هذه الأفعال”.
خلال المقابلات الميدانية التي أجرتها معدة التقرير مع نساء في الأحياء التي يعتمد سكانها على مياه الخزانات العامة المدعومة من المنظمات، قالت كل النساء اللاتي تحدثن أنهن لا يعلمن من هي الجهة التي تتلقى الشكاوى في حال تعرضهنّ لمضايقات، وأنهنّ لم يتلقين من أي جهة معلومات تفيد بكيفية تقديم الشكوى.
واللافت أيضاً، أن رقم الشكاوى المخصص من بعض المنظمات ليس معمماً، وغير مثبت على خزانات المياه الموزعة في الأحياء. قالت إحدى السيدات في حي خشمان أنها قد تشتكي لصاحب البيت الذي وُضع الخزان أمام منزله.
وفيما أبدت 30 مشاركة في الاستبيان رغبتهنّ بتقديم شكاوى، أضافت ثمانية منهنّ ملاحظات تشير إلى ترددهن، من قبيل: “هناك من سيمنعني”، “لا أعرف الجهات المسؤولة عن الشكاوى”، “لا توجد استجابة سريعة للشكاوى”، “هناك عوامل اجتماعية تمنعني”، “لا أعرف مكان الشكاوى”، “العادات والتقاليد ستمنعني”، “ضعف الشخصية والوضع المادي السيئ عائق”، “الخوف من الأهل والعادات والتقاليد”.
وتتقاطع ملاحظات المشاركات الثماني مع آراء المشاركات اللاتي أجبن بأنهنّ لن يقدمن شكوى، إذ تركز جزء من إجاباتهنّ على العوامل الاجتماعية والخوف من الأهل أو الزوج، بينما عزت أخريات سبب عدم تقديم الشكوى إلى عدم ثقتهنّ بأن الجهات المعنية ستحاسب المرتكبين، ناهيك عن أن “هناك خوف من حدوث مشكلة كون أصحاب الصهاريج هم من أهل البلد”، بحسب إحداهنّ.
“لا تتبع كل المنظمات التي تقدم خدمة المياه نهجاً يقوم على رفع الوعي بآليات التبليغ والشكاوى، ولا يكون تعميم الحماية متبعاً لديهم” قال المدير التنفيذي لمنظمة السلام، داوود داوود، فيما تجد ريما الكليب أن “النساء قد يفتقرنَ إلى الوعي بكيفية استخدام آليات الشكاوى المتاحة، أو قد لا يكنّ على دراية بحقوقهن”.
تتمثل جهود المنظمات المدنية والحكومية لحماية النساء في “توفير نقاط مياه أقرب، توزيع المياه عبر صهاريج، وتوعية المجتمع”، بحسب داوود، لافتاً إلى أنه “لا يزال هناك نقص في التمويل والموارد لتوسيع نطاق هذه التدخلات بما يكفي لتغطية جميع المناطق المعرضة للمخاطر”.
تعليقاً على ذلك، قال بسام الأحمد، المدير التنفيذي لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، أن “تقديم الاستجابة الطارئة في الخدمات الأساسية لا ينفي ضرورة تزامنها مع تعميم الحماية لمنع التحرش والاستغلال”، وأضاف: “لا ينبغي تبرير ارتكاب المخالفات بمدى شدة حاجة الناس في الحصول السكان على الخدمة”.
وعزا الأحمد ظهور هذه الحالات إلى “غياب أطر قانونية واضحة وآليات الشكاوى والمحاسبة ضد مرتكب الفعل في إطار تعزيز الإنصاف والعدالة”، معتبراً أن “السلطات المحلية هي المسؤولة المباشرة عن حماية النساء”.
ويعاقب قانون العقوبات الصادر عن المجلس العام في الإدارة الذاتية، في أيار/ مايو 2023 مرتكبي جريمة التحرش الجنسي بالسجن من ستة أشهر إلى سنتين، وبغرامة 500 ألف ليرة سورية، كما جاء في المادة 308 منه.
أما العقوبة بحسب قانون العقوبات السوري أخف، إذ تتمثل بالحبس التكديري لمدة ثلاثة أيام أو غرامة لا تتجاوز 75 ليرة سورية، أو بالعقوبتين معاً، كما جاء في المادة 508، وهي عقوبات “مخففة جداً بالنسبة لحالات التحرش الجنسي (اللفظي أو الجسدي) ولا تتناسب مع جسامة الفعل”، بحسب الأحمد.
وشدد الأحمد على ضرورة “إجراء حملات توعية للأهالي بمختلف الوسائل المتاحة، ولا سيما النساء، من خلال وسائل الإعلام وورشات عمل وغير ذلك”. وكذلك، أن “تجتمع الجهة المسؤولة عن المياه في الادارة الذاتية مع كافة أصحاب الصهاريج وموزعي المياه وتعطيهم التعليمات اللازمة بهذا الخصوص”، وتهددهم بـ”سحب تراخيصهم في حال وجود مخالفات من هذا النوع”.
ومن الضروري أيضاً، وضع رقم شكاوى في مكان واضح ومقروء على كل صهريج، وإلزام صاحب الصهريج بذلك، وأن يخصص موظف لتلقي الشكاوى وإحالتها إلى الجهات المختصة، بحسب الأحمد.
وبما أن بعض المنظمات تخصص موارد لحماية النساء وبعضها الآخر لا تفعل، فإنه من الضروري “المناصرة مع المانحين، للتأكيد على المنظمات الانسانية ومنظمات المجتمع المدني على وجه الخصوص، تخصيص موارد كافية للحماية من الاستغلال، الابتزاز والتحرش الجنسي”، بحسب أخصائية الحماية.
تم إعداد هذا التقرير بالتعاون بين “سوريا على طول” و “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” ضمن برنامج “صوتنا”.