جراح أعصاب من حلب: تراجعنا إصابات لسنا مهيئن لها لا في المراجع الطبية ولا المستشفيات
منذ أول هجوم لقوات الأسد على منشأة طبية في حلب […]
19 يناير 2016
منذ أول هجوم لقوات الأسد على منشأة طبية في حلب في 30 تموز 2012، والذي جاء بعد أسبوع واحد من سيطرة الثوار على مناطق رئيسية في المدينة، وثقت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان 336 غارة جوية على المنشآت الطبية، ومقتل 697 من الكوادر الطبية، وفق تقرير لمنظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان (PHR) بعنوان “حلب مهجورة”.
وحاليا، فإن عشرة فقط من المنشأت الطبية الثلاثة والثلاثين في مدينة حلب ما تزال تؤدي دورها، فيما هاجر 95% من الأطباء، أو اعتقلو أو قتلوا. و ناشدت منظمة (PHR) المجتمع الدولي بالتوقف عن “اللامبالاة”، وفق ما قالت دونا مكاي، المديرة التنفيذية للمنظمة، لـ سامويل كيكي، مراسل سوريا على طول.
وقالت مكاي “ربما لم يسبق لحرب أن تم توثيقها في وقتها الفعلي بأفضل مما توثق به الحرب في سوريا، إذاً فالمسألة ليست لغياب الأدلة أو القصص المروية، وإنماغياب الإرادة السياسية ليس إلا”.
وأضافت أن عدد الغارات التي تطال المتخصصين في مجال الصحة في سوريا “غير مسبوق” في تاريخ الإنسانية بأكمله، موضحة أن القصف المتعمد للبنى التحتية الطبية هو “سلاح في ترسانة الأسد، لخنق المدنيين، بحرمانهم مستلزمات الرعاية الصحية الأساسية، في وقت هم أحوج ما يكونون إليها”.
وفي السياق، قال الدكتور رامي كلزي، أحد أطباء الجراحة العصبية الذين لم يبق منهم سوى هو وزميل له في مدينة حلب، وأحد الشخصيات الطبية الـ24 الذين قابلتهم منظمة ((PHR، في تقريرها عن حلب، لغاردينيا عاشور، مراسلة في سوريا على طول إن “النظام بشكل عام يستهدف المراكز الصحية في أي مكان، لأنه يعرف أنها شريان الحياة، فإن توقفت، توقفت الحياة”.
وولد الدكتور كلزي ونشأ في ثاني أكبر مدينة في سوريا، وهو أحد الأطباء الذين يتراوح عددهم بين 70 و80، الذين ما يزالون يقدمون الرعاية الصحية لنحو 300 ألف مواطن من أهالي حلب الواقعة تحت سيطرة الثوار.
وبعد تخرجه في صيف عام 2009 من كلية الطب البشري بحلب، باشر اختصاص الجراحة العصبية في مشفى الرازي بحلب التابع لمديرية الصحة ووزارة الصحة. وهناك التقى بزوجه وكانت طبيبة في السنة الاولى من اختصاص الغدد الصم.
في أذار 2013، وبعد ثمانية شهور من سيطرة الثوار على المناطق الشمالية والشرقية والجنوبية، بدأ الدكتور كلزي وزوجه، العمل سراً في مشفى الصاخور الميداني، في حي الصاخور شمال شرق مدينة حلب، الواقع تحت سيطرة الثوار. وبعد ستة أشهر من العمل السري في المشفى الميداني اضطر كلاهما لترك الاختصاص في مشفى الرازي، وذلك لأن النظام السوري اكتشف أمرهما وأصبحا مطلوبين للمخابرات السورية، ومهددين بالقتل.
حقوق نشر الصورة لـ أطباء لحقوق الانسان.
وذكر كلزي أن “حي الصاخور من اكثر الأحياء استهدافا بالقصف بسبب المشفى، حيث تعرض المشفى لحوالي 35 محاولة استهداف”.
ونوعية الإصابات التي يعالجها الطبيب، وزملاؤه، لم يصدف لهم وأن قرأوا عنها لا في الكتب أو المراجع التي درسوها، فيمكن لشظية واحدة أن تحدث عشرات الجروح المختلفة في الجسد، وجميعها لا تحتمل التأجيل.
وأضاف الدكتور كلزي “تأتينا الكثير من الأمثلة، شظية تدخل في الوجه وتخرج من الدماغ، فأنت لديك إصابات على كامل هذا المسار، بعظام الفك أو بالأسنان أو باللسان أو بالبلعوم أو بالأنف أو بالعين أو بالدماغ، فهنا يكون لديك إصابات متعددة والمجال الذي معك ضيق جداً لتستطيع إصلاح كل هذه الإصابات مع بعضها”.
وهنا الجزء الأول من مقابلة من جزئين، لسوريا على طول مع الدكتور كلزي، وفيها يسرد حكايته كطبيب جراحة عصبية، على خطوط الجبهة، ولماذا لم يغادر سوريا.
في تقرير نشرته PHR، عن أطباء يقولون عن إصابات وتشوهات خيالية، فماذا يعني أن تكون طبيباً بالحرب، وهل اختبرت هذا الشعور: أنك أمام حالة لم يسبق وأن رأيتها في الكتب ولم يكن هناك أي تدريب يهيئك لها، وماهو أصعب وأقسى ما في عملك؟
أصعب جزء يمر علينا، عندما تحدث المجازر، ويأتينا الكثير من الجرحى، والشهداء، وخاصة العدد الكبير من الأطفال، وللأسف فإنه في أي مجزرة، أكثر من النصف من الشهداء والجرحى هم من الأطفال، والإصابات بشكل عام إصابات خطيرة جداً، فيمكن أن تجد طفلاً جسمه مقسوم إلى نصفين للأسف، أو أن الرأس مفصول عن الجسد، أو بتر بطرف أو عدة أطراف، أو فقدان لأذن أو لعين، أو يمكن تشوهات في الجسد بسبب جروح خطيرة.
حقيقة؛ هذه أصعب اللحظات التي تمر علينا، ليس بسبب التعب، وإنما (الإجهاد العاطفي) فنحن نتعاطف كثيراً مع هذه الإصابات لدى الأطفال.
في الحقيقة بوجود ناس من الخبراء، وخاصة بعد أربع سنوات من العمل في المشافي الميدانية، خاصة من ناحية الجراحة العامة والعظمية والصدرية والوعائية والعصبية، وأنا أتكلم هنا عن الاختصاصات المتوفرة في مشفانا (الصاخور)، ولكن جودة العمل أو عدد التخصصات قد تكون أقل في بقية المشافي.
في البداية كنا نرى إصابات جديدة ولا نعرف كيف نتعامل معها، ولكن لحسن الحظ في بداية الثورة، وفي بداية العمل في المشافي الميدانية، كان هناك مجال أكبر للحركة، ففي عامي 2012و2013 لم يكن هناك شيء اسمه براميل متفجرة، ولم يكن هناك هذا القصف العنيف من الطيران، لذلك كان يأتينا الكثير من الأطباء الأجانب الزوار، وهم خبراء على مستوى جيد من الدول العربية أو الدول الأجنبية، علمونا تقنيات لم نكن نعرفها، وتدربنا على أيديهم إلى حد جيد على الإصابات المعقدة إلى حد ما، ولكن مع ذلك هم أنفسهم عندما قالوا أنهم يرون إصابات لم يسبق وأن رأوها لا بالكتب ولا بالمراجع ولا بالمشافي في البلدان التي يعملون بها، لكن للأسف الواقع يجبرك أن تتعلم.
وما هي هذه الإصابات الخيالية؟
سأحكي لك عن حالة من الأمس، امرأة شابة بالثلاثينيات من عمرها، أصابتها شظية، والشظية لم يكن حجمها كبير جداً، حسب ما رأينا فتحة الدخول، وفتحة الدخول كانت من الوجه الداخلي للفخذ، تقريباً في المنطقة التناسلية، الشظية مرت إلى الحوض، فالبطن وأحدثت أذيات بكل ما يخطر على بالك من أحشاء، مزقت الرحم، والمثانة، والمستقيم، والشريان الأبهر الموجود في البطن وأدت إلى أذية في الأمعاء، أذية واسعة، وأذية في الكليتين، إصابة كهذه لا يمكن أن تري مثلها في الكتب عادة، الكتب تقول لك يمكن أن يكون هناك إصابة أو إصابتين أو ثلاثة كحد أقصى، أكثر من ذلك تقول الكتب هذه إصابة غير متوافقة مع الحياة، لكن في هذه الحالة كان لدينا حوالي عشر إصابات من شظية واحدة، واستطعنا بحمد الله أن نصلح جميع الإصابات، ولكن للأسف وبالنهاية ونتيجة شدة النزف توفيت المريضة، هذه حالة متكررة ويأتينا منها الكثير.
تأتينا الكثير من الأمثلة، شظية تدخل في الوجه وتخرج من الدماغ، فأنت لديك إصابات على كامل هذا المسار، بعظام الفك أو بالأسنان أو باللسان أو بالبلعوم أو بالأنف أو بالعين أو بالدماغ، فهنا يكون لديك إصابات متعددة، والمجال الذي معك ضيق جداً لتستطيع إصلاح كل هذه الإصابات مع بعضها.
فلماذا برأيك استهداف المراكز الطبية في حلب أكثر من غيرها؟
الجواب من قسمين: النظام بشكل عام يستهدف المراكز الصحية في أي مكان، لأنه يعرف أنها شريان الحياة، فإن توقفت؛ توقفت الحياة.
والجزء الثاني، يتبع للخطة الاستراتيجية التي يتبعها النظام، والذي يبدو أنه ركز فيها على حلب أكثر من غيرها لأسباب عديدة، أولها أن مدينة حلب كبيرة وتعدادها السكاني كبير.
وثم أنها مدينة حدودية مع تركيا، وفيها بعض القرى التي تتبع للميليشيات الشيعية، إيران لها وزن أكبر ورغبة أكبر في استعادة حلب أكثر من النظام؛ فتلقائياً استهداف المراكز الصحية في حلب سيكون أكثر من غيرها.
كيف توازن بين الاعتناء بنفسك والاعتناء بالاخرين، هل تشعر أنت بالأمان لتوصله للأخر؟
حضرت الكثير من الغارات، كنت خلالها موجوداً داخل المشفى، والحمد لله لم يصبني ضرر، هذا يعطيني إحساس قوة أكبر. بالنسبة لي أنا شخص مصر على البقاء في الداخل، بالنسبة لغيري يمكن أن يشعر بالخوف والخطر ويكون مبرراً له أن يترك الداخل إلى الحدود وربما إلى خارج سوريا.
نحن نعلم تماماً أننا مستهدفون، وتجارب الاستهداف التي مررنا بها زادتنا قوة.
بالنسبة للتعبير “نشعر بالأمان لنعطيه للأخرين” فلا أعتقد أنه تعبير دقيق، فالأمان ليس كالسعادة إن لم تشعر بها، لا تستطيع منحها للأخر. الأمان أستطيع أن أقدمه للأخرين من خلال المشفى الآمن والمحصن قدر الإمكان، نأخذ بأسباب الاحتياط والأمان قدر الإمكان من تدشين، أو إن كان بالاستطاعة العمل تحت الأرض وللأسف نواجه صعوبات كثيرة في ذلك وأهمها صعوبات الدعم المالي.
ثانياً، أحاول أن أؤمن له كل الخدمات الطبية التي أستطيعها وبالتالي هو سيشعر بالأمان، لأن صحته بين يدي أناس تهتم بها.
ضعنا في صورة يوم روتيني لك، متى تبدأ عملك، أول انطباع تستقبل به يومك؟ وكيف هو دوامك في المشفى؟
نحن دوامنا ما بين 15 و20 يوماً، فهناك من 10 إلى 15 يوم عطلة، ولكن إذا اقتضى الأمر فنحن على أهبة الاستعداد دائماً ويمكن أن نلغي إجازاتنا.
خلال هذه الـ15 يوما وعلى مدى 24ساعة لا يتوقف عملنا إلى آخر الليل، لأنه بشكل عام المجازر مستمرة، وكما تعلم قصف من النظام وقصف من الطيران الروسي، عدا الحالات الروتينية والحالات الجراحية غير الناتجة عن قصف (مثل آلام البطن أو رضوض الرأس أو حوادث السير … إلخ).
في الحالات العادية هناك من كل اختصاص واحد أو اثنين على الأكثر، وهناك اختصاصات ليس بالضرورة أن تكون مغطاة 24 ساعة على مدى30 يوماً، كجراحة التجميل أو حتى الجراحة العظمية أو البولية، فهو ليس اختصاصا منقذا للحياة. نحن في الجراحة العصبية نتناوب 15 * 15 وكذلك الجراحة العامة والوعائية والصدرية أيضاً، علماً أن هذه الاختصاصات الثلاثة يقوم بها طبيب واحد هو طبيب الجراحة العامة، لكن أطباء الجراحة العامة لدينا ماهرين ومتمرسين كما ذكرت لك، فالعدد قليل ولكننا نحاول أن ندير الموضوع على هذا النحو بحسب الإمكانيات الموجودة.
في الحالات العادية لدي في إجازتي (10-15) يوماً فرصة للتنقل، ويمكن أن نخرج سياحة إلى تركيا أو نحضر دورات تدريبية لتطوير الذات والخروج من جو التوتر، ومجرد الجلوس في المنزل يمنحنا الشعور بالراحة، وربما جلسة عامة أو سهرة مع الأطباء خارج جو العمل.
أطول مدة اضطررت أن أعمل بها، بالنسبة لي كانت فترة 21 يوما مستمرة، ولم يكن هناك بديل لي، فاضطررت أن أبقى لأطول وقت ممكن، وكنا نشعر فيها أن هذه المرة، في هذا الشهر بالذات، أن النظام يقوم بالغارات بالطيران أكثر من غير شهور.
كاختصاصي في الجراحة العصبية، جزء من الحالات نستطيع أن نتدبره، وجزء آخر نقوم بتحويله، وبشكل عام إصاباتنا خطيرة وتتسبب بالوفاة، من أجل ذلك، كعمليات جراحة عصبية إسعافية ليس لدينا هذه الكثافة، ولكن بالنسبة لي أنا، فأنا أحب أن أساعد في عمليات الجراحة العامة، وهناك عادة طبيب عظمية واحد أدخل وأساعده، فهما فقط اثنان يتناوبان مع بعضهما، وذلك حين يكون هنالك مجازر وعدد كبير من الإصابات، وأذكر مرة أننا اضطررنا للعمل 40 ساعة متواصلة دون أن ينتبه أحد منا لذلك.
وهذا ربما حدث معي أنا مرة أو اثنتين، ولكن بالنسبة لأطباء الجراحة العامة فهذا يحدث معهم كل شهرين أو ثلاث، أن يمضوا هكذا فترة.
لو اضطرت للخيار بين أن تعالج مريضاً تعتقد أنه ميؤوس من شفائه وبين آخر تعتقد أنه يمكنك فعل شيء حياله، أيهما تختار وكيف هو شعورك أنك مضطر لأن تختار بين حالتين؟
بصراحة هذا ليس جديد علينا. في بريطانيا يتبعون شي اسمه القتل الرحيم. ممكن ان نحاول مع الاصابة الأولى مدة خمس دقائق حتى نرى أنه يوجد إمكانية للنجاة أو لا، لأنه عادة خلال خمس دقائق إذا لم تعمل الوظائف الحيوية يصبح هناك موت دماغي وإن بقي حياً يكون تحت مسمى ميت سريريا (clinically dead) أي يعيش بدون وعي. في هكذا حالات نختار ان ننتقل الى الحالات التي ممكن ان تكون نسبة النجاة فيها اعلى.
هو قرار صعب ونشعر بالحزن الشديد لاننا نضطر ان ناخذ هكذا قرار، ولكن ندخل هنا في ترتيب الاولويات.
إذا انت مع مبدا القتل الرحيم لكن بصعوبة؟
نعم تماما للضرورة القصوى، ومع الاسف الشديد.
مثال في بريطانيا ممكن ان يلجؤوا الى اسلوب القتل الرحيم بمجرد ان المريض أمضى مدة طويلة في العناية المشددة على جهاز تنفس اصطناعي وسيعيش بشكل (إنباتي vegetative) حتى لو لم يكن هنالك ضغط عمل، مثل وجود مريض آخر يجب أن ياخذ مكانه على جهاز التنفس الاصطناعي، أو يوجد فرصة أخرى لمريض آخر وهذا المريض الأول يأخذ فرصته. أما بالنسبة لنا لا نأخذ هكذا قرار إلا إذا كنا مضطرين بنسبة مئة بالمئة.
مثال: لدينا مريض بحاجة الى جهاز تنفس اصطناعي ويوجد لدينا فقط اربع اجهزة او ثلاث اجهزة، فإذا كانت الاجهزة الثلاثة يستخدمها مرضى وأحد هؤلاء المرضى امضى فترة طويلة ونعرف ان نسبة نجاة هذا المريض ضئيلة من الممكن ان نتخذ قرارا بوفاته، بشرط ان نكون قد استنفذنا جميع الخيارات في محاولة انقاذه عن طريق التواصل مع جميع المشافي الاخرى، وليس لديها جهاز تنفس اصطناعي شاغر ومحاولة نقله الى المشافي التركية ولم تستقبله، فبهذه الحلة لم يبقى لدينا اي خيار اخر.
اما اذا كان لدينا اصابتين جديدتين احداهما احتمال نسبة الوفاة فيها 90% فما فوق والاخرى نسبة الوفاة فيها 50 % فما دون، فبهذه الحالة نحاول اجراء عملية انعاش للمريض الاول ذو نسبة 90% وفاة لمدة خمس او ست دقائق واذا لم تنجح فهو متوفي تلقائياً، ولا نعطه وقتا اكبر لانه يوجد مريض اخر ينتظر.