حتى بحر اللاذقية ممنوع عليهم: السوريون غرباء في وطنهم
السباحة في مياه البحر المتوسط ممنوعة لبضعة أشهر، لأنهم يعملون على توسعة ميناء اللاذقية
14 يوليو 2020
عمان- بينما كان في طريقه إلى ساحل اللاذقية، بداية حزيران/يونيو الماضي، أوقف جنود روس الشاب أحمد، ثم طلبوا منه الرجوع من حيث أتى، بعد إخباره أن السباحة في مياه البحر المتوسط ممنوعة لبضعة أشهر، لأنهم يعملون على توسعة ميناء اللاذقية.
وقد كان ذلك تذكيراً جديداً لأحمد بأن البلد الذي يعيش فيه أبعد ما يكون عن سوريا التي عرفها في طفولته، حد أنه “يتملكني إحساسٌ بأنه لم يعد هناك شيء اسمه سوريا”، كما قال لـ”سوريا على طول”.
ويشعر أحمد، الذي ما يزال أعزباً في أواسط العشرينات من عمره، وقد نشأ وترعرع في محافظة اللاذقية الساحلية، أنه منبوذ من طرفي الصراع في سوريا. إذ سعى بأقصى ما يستطيع إلى النأي بنفسه عن السياسة على مدى سنوات الحرب الأهلية التسع الماضية، لكن ليجد نفسه، بالمحصلة، غريباً حتى داخل مجتمعه؛ إذ لا يستطيع الثقة بأحد فيه، بينما فرصته للسفر إلى الخارج ضئيلة جداً حالياً.
ورغم أنه ابن محافظة اللاذقية، مسقط رأس حافظ الأسد، البعثي الذي حكم سوريا أطول مدة في تاريخها الحديث، فإن أحمد لم يستفد من الامتيازات التي يستخدمها النظام في علاقته بالطائفة العلوية. على العكس؛ إذ تم فصل والده المهندس بعد رفضه طلباً لمسؤولٍ في النظام بتوقيع وثائق تشير إلى إنجاز مشروعٍ لم يكن له وجود في الواقع. وقد حاول والد أحمد رفع قضية ضد الشركة المعنيَة، لكن القاضي رفض النظر في الأمر حين علم باسم المسؤول المعني بالتقاضي.
بعد ذلك أصبح الوالد، حكماً، على القائمة السوداء بحيث يُحظَر عليه العمل في الهندسة. وقد أمضى معظم حياته، التي كان أحمد شاهداً عليها، سائق سيارة تكسي، إضافة إلى أعمال أخرى بين الحين والآخر.
فوق ذلك، عندما علم أقارب العائلة بما فعل الوالد، وكيف أنه أثار حنق النظام وسخطه، بدأوا بتجنب العائلة. وكما يذكر أحمد، فقد قابل أقاربه “خمس مرات في حياتي”.
وفوق قسوة رؤية أبيه يعيش منبوذاً في مجتمعه، كان على أحمد مشاهدة أقرانه في المدرسة “من أبناء الموالين للنظام، وهم يحيون حياةً سعيدة بفضل السرقات، بينما نعيش نحن حياة صعبة”، كما قال.
لكنه مع ذلك لا يضمر السوء لأقرانه، فعذرهم كما يرى هو أن “الناس باتوا يخشون على أنفسهم وأهلهم، لاسيما وقد رأوا ما حلّ بالنزيهين”.
حين بدأت الثورة في العام 2011، حاول أحمد وعائلته مغادرة سوريا، كما روى، غير أن الحكومة رفضت منحهم جوازات السفر. لكن ذلك لم يثنهم عن محاولة السفر إلى تركيا، لكن فصائل المعارضة منعتهم من العبور بدعوى أنهم علويون.
“غاية القسوة أن تعيش في هذا الجحيم”، بوصف أحمد. فإذا “انتقدت أحد الأطراف المتقاتلة، ستُعتبر خائناً [ويمكن أن] تُقتَل. وربما هذا هو الأمر الوحيد الذي يتفق عليه المعارضة والنظام”،.
ملاذ العالم الرقمي
بعد رفضه المشاركة فيما يعتبره استغلال أقرانه لمنظومة فاسدة، وتعرضه للاكتئاب نتيجة تقاسم قوى أجنبية لوطنه، التجأ أحمد إلى العالم الافتراضي، لإنشاء صداقات يستطيع فيها التعبير عن ذاته بأمان.
وفي أي وقت، يستطيع أحمد التواصل مع أصدقاء في جنوب أفريقيا والولايات المتحدة ونيجيريا وعدة بلدان أوروبية. وقد التقى معظم هؤلاء الأصدقاء من خلال الانضمام إلى مجموعات ودورات لتعلم اللغة عبر الانترنت.
وفيما تتناول المناقشات والصور التي يشاركها الأصدقاء مع أحمد أموراً عادية نسبياً، من قبيل الخروج في نزهات، أو الذهاب إلى السينما، أو تناول عشاء في مطعم، فإن هذه الحياة الاعتيادية الطبيعية هي التي يحن لها أحمد ويتوق. وبحيث تعطيه تلك الصور والأحاديث “أملاً بأني قد أحيا حياة طبيعية وهادئة من دون خوف من أن أقتل”، كما قال.
كما أصبحت المراسلات عبر الانترنت متنفساً له. إذ يخشى أن يتفوه أمام الجار الخطأ بشكوى لا يُلقي لها بالاً عن الأوضاع المعيشية الراهنة، فيوقعه ذلك في مساءلة من قبل مسؤولي المخابرات، وربما يكون الموت إحدى عواقبها.
“هؤلاء الأصدقاء يشجعونني على مواجهة الصعاب في سوريا”، كما قال. و”من المفارقات أن يهتم الأصدقاء الأجانب بحياتي ويحاولوا مساعدتي، بينما إخوتي في الوطن يهددوني ويحاولون سلب كل ما أملكه!”.
مع ذلك، غالباً ما تنقطع الانترنت دونما إنذار، بحيث لا يعود ثمة مهرب من الوضع الرهيب الذي يعيشه أحمد وعائلته.
ويعمل أحمد إحدى عشرة ساعة يومياً، مدرساً خصوصياَ للغة الإنجليزية ومترجماً، إذ لم يتمكن من الحصول على عمل ثابت بسبب عدم تأديته الخدمة العسكرية الإلزامية. وبعد ساعات عمل مُضنية، يجلس لحساب قائمة طويلة من التكاليف لتغطية الاحتياجات الأساسية لعائلته، مراقباً بقلق في الوقت ذاته انهيار الليرة السورية، إذ فقد دخله المتواضع 40%من قيمته خلال الأسابيع القليلة الماضية.
فوق ذلك، يقلقه حال طلبته؛ لأنهم، كما أوضح، “لا يستطيعون التركيز على دروسهم مطلقاً وفي ظل الوضع الحالي”.
وكانت قد انقطعت طالبة مميزة لديه، تبلغ من العمر تسعة أعوام، عن حضور الدروس خلال الأسبوع الماضي. وقد “حاولت الاتصال هاتفياً بوالديها، لكنهم تجاهلوا اتصالاتي، لأنَ ليس بمقدورهم دفع أجري”، كما قال. معتبراً أن هذا أمر مُخز، لأني كنت سأستمر في تدريسها؛ وأعلم أنهم سيدفعون لي حين يتمكنون من ذلك”.
“هي لا تحب الدراسة على الإطلاق، ولا تقوم بواجباتها الدراسية أبداً. لكن حين تراني حزيناً، تبكي وتطلب مني أن أكون سعيداً مثلها. هي تحب الحياة، وهي سعيدة دائماً”.
برغم الظروف المعيشية المتدهورة، يحاول أحمد أن يظل متفائلاً: “مساء الخير”، هذه كان بداية رسالته لي قبل مصادفته الجنود الروس بأيام، “هل تريد رؤية الشاطئ اليوم؟”.
تم نشر أصل هذا التقرير باللغة الإنجليزية، وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور