6 دقائق قراءة

“حراقات النفط” شمال غرب سوريا: تفتك بالزراعة وتهدد البيئة (صور+فيديو)

غالباً ما يتم التغاضي عن الآثار البيئية المدمرة لـ"حراقات النفط" في قرية ترحين بريف حلب الشمالي، رغم ما تتسبب به من تهديد للسوريين على بعد كيلومترات من مواقعها، وتأثير على الزراعة والبيئة


10 يونيو 2022

باريس، الباب- يشير المزارع أحمد سعيد بيده إلى أرض زراعية قريبة من مصافي تكرير النفط البدائية (الحراقات)، في قرية ترحين بريف حلب الشمالي، قائلاً: “إذهب وانظر كيف تحول لون الأرض إلى أسود. الإنسان يموت من دخان الحراقات، فكيف بالزرع؟!”.

تعد قرية ترحين بمنطقة الباب، الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية، المركز الرئيس لتجمع “الحراقات” في شمال غرب سوريا، إذ يوجد فيها 400 حراقة، 100 منها تعمل حالياً، بحسب عضو في المجلس المحلي لبلدة قباسين، التي تتبع ترحين لها.

ومع أن “الحراقات” تؤمن فرصة عمل “لحوالي 1000 عامل”، وتزود سكان شمال غرب سوريا بمادة المازوت المستخدمة للتدفئة والطهي، إلا أنها تشكل خطراً كبيراً على العاملين والمستهلكين، كون “المشتقات المستخرجة خطرة جداً، وفيها نسبة كبيرة من الغاز، ما يؤدي لانفجارات واندلاع حرائق”، وفقاً للمتطوع في الدفاع المدني حسن محمد، مشيراً في حديثه لـ”سوريا على طول” إلى اندلاع 35 حريقاً في “الحراقات” منذ مطلع العام الحالي.

[irp posts=”44714″ name=”العمل السام: حراقات النفط” شمال غرب سوريا مهنة الموت في سبيل الحياة”]

في هذا المشهد القاتم، حيث تتصدر معاناة عمال المصافي وعائلاتهم المشهد، غالباً ما يتم التغاضي عن الآثار البيئية المدمرة لـ”الحراقات”، التي تهدد السوريين على بعد كيلومترات من مواقعها، وكذلك الأجيال القادمة.

“الحراقات” في قرية ترحين محاطة بالأراضي المزروعة بأشجار الزيتون، وقد تم قطع الكثير منها وحلّت مكانها المصافي البدائية، 12/ 5/ 2022، (سعد علوان، منظمة بنفسج)

تلوث لا حدود له

قبل انتشار “الحراقات” في ترحين كانت الأراضي الزراعية في القرية “تعطي إنتاجاً جيداً من الزيتون والمحاصيل الأخرى”، كما قال المزارع أحمد سعيد لـ”سوريا على طول”، الذي ورث الزراعة عن أبيه ونشأ على العمل فيه، لكن “عمل الحراقات في المنطقة ألحق بنا ضرراً كبيراً”، إذ كانت أرضه “تعطي خمسة آلاف شوال [كيس] في الموسم، ويزن الشوال 100 كيلوغرام تقريباً، أما حالياً تنتج بين 200 و300 شوال فقط”، أما الأرض المزروعة بالحنطة، ومساحتها أربعة هكتارات “أصابها الجفاف ولم أجني منها شيئاً”، بحسب سعيد، مشيراً إلى أنها كانت تعطيه 35 شوالاً (كيساً).

جزء من المقابلة الصوتية التي أجرتها “سوريا على طول” و”بنفسج” مع المزارع أحمد سعيد

مركبة محلية الصنع (حلفاوية) تسير في الأراضي الزراعية بقرية ترحين، ويبدو في الصورة الدخان المتصاعد من “حراقات” النفط القريبة، 12/ 5/ 2022، (سعد علوان، منظمة بنفسج)

مع تدني محصول الزيتون في أرضه، البالغة مساحتها تسعة هكتارات، بدأ سعيد بقطع الأشجار وبيعها حطباً للتدفئة، “من أصل ثلاثة آلاف شجرة لم يبقى إلا 300″، بحسب قوله، شاكياً حجم ضرر الغاز المنبعث من الحراقات “على الأشجار”، وأضاف: “لو وضعت سيارة بالقرب من الحراقات لفقدتَ طلاءها، فكيف للشجر أن يتحمل؟!”.

تأكيداً على ذلك، قال أحمد العبد الله، صاحب إحدى “الحراقات” في قرية ترحين لـ”سوريا على طول”، بأنه “لا يمكن لأحد العيش بالقرب من الحراقات إلا البشر”، وأضاف: “لن ترى هنا قطة تمشي، أو عصفوراً يطير في سماء الحراقات بسبب الغازات الموجودة في الجو”.

واشتكى عدد من عمال الحراقات وأصحابها لـ”سوريا على طول” من تلوث الهواء بسبب الغازات المنبعثة، لدرجة أن بعضهم “يذهب بعيداً عن الحراقات لاستنشاق بعض الأوكسجين”، بحسب العبد الله، مشيراً إلى “تسجيل حالات اختناق بين العمال، ومنهم من تأذّت عينيه من الغازات”.

[irp posts=”44744″ name=” أخطر من الجبهات”: عمال “حراقات النفط” مدفوعون بالفقر (صور)”]

عامل يقف وسط دخان كثيف في إحدى الحراقات بقرية ترحين في ريف حلب الشمالي،12/ 5/ 2022 (سعد علوان، منظمة بنفسج)

ينقل الدخان المنبعث من “الحراقات” مجموعة واسعة من المواد الكيميائية السامة في الهواء، ويتعرض العاملون بشكل مباشر لمواد مسرطنة، من قبيل: الرصاص، حمض الكبريتيك، الهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات، ومواد أخرى تسبب الدوار وتهيج العين وتلف الكبد والكلى.

تؤثر الملوثات على السكان الذين يبعدون كيلومترات عن أماكن وجود “الحراقات”، حيث ينقل الهواء غازات ثاني أكسيد النيتروجين، وثاني أكسيد الكبريت، وهما يسببان الربو، ويؤديان إلى تفاقم مشاكل الجهاز التنفسي، وتعد هذه الملوثات أحد الأسباب الرئيسية للوفيات المرتبطة بتلوث الهواء في جميع أنحاء العالم، وفقاً لوكالة حماية البيئة الأميركية.

وفي هذا السياق، شدد ويم زويجننبرغ، رئيس مشروعٍ يُعنى بالتركيز على الصراع والقضايا البيئية في منظمة باكس للسلام الهولندية غير الحكومية (PAX) على أن تلوث الهواء يعد مصدراً رئيسياً للمخاطر الصحية والبيئية حتى بالنسبة لأولئك “الذين يعيشون في اتجاه الريح”، محذراً من أن “التعرض طويل الأمد قد يؤدي إلى مشاكل في الجهاز التنفسي والكلى”.

صورة تظهر خيام نازحين في قرية ترحين بريف حلب الشمالي، وتبدو أعمدة الدخان المنبعثة من الحراقات، 12/ 5/ 2022، (سعد علوان، منظمة بنفسج)

الأرض تحتضر

يظن أحمد العبد الله، صاحب إحدى الحرّاقات، أن تأثيرها على الأراضي الزراعية محدود، ويصيب “القشرة الخارجية للأرض”، وبمجرد انتهاء عمل الحراقة وتفكيكها وإزالة قشرة الأرض “تعود الأرض كما كانت”، لكن صور الأقمار الصناعية منذ عام 2011 حتى اليوم، تظهر تحول الأراضي الزراعية في قرية ترحين إلى أراضٍ جرداء.



بالإضافة إلى تأثر الغطاء الأخضر في المنطقة، الموضح في صور الأقمار الصناعية، تتلوث أراضي المنطقة ومياهها نتيجة الانسكابات النفطية والنفايات الناتجة عن عملية التكرير البدائية، وقد يؤدي النفط المتسرب إلى الأراضي والغازات والأدخنة المنبعثة بشكل يومي إلى إفراز مواد كيميائية سامة في أراضي المنطقة، حيث تبقى لعقود طويلة، وفي قنوات المياه الجوفية، ما يؤدي إلى تلويث مياه الشرب والاستحمام.

صورة توضح انسكاب النفط من إحدى الحراقات في قرية ترحين على التربة، ما ينذر بتلويث الأرض والمياه الجوفية، 12/ 5/ 2022، (سعد علوان، منظمة بنفسج).

تؤدي الملوثات المنتشرة في الهواء والماء والتربة إلى تدمير الإنتاج الزراعي المحلي، حيث تستقر المواد المنبعثة على النباتات، ما يعيق عملية التمثيل الضوئي الطبيعي من خلال حجب الضوء الذي تتلقاه الأوراق، وأيضاً تؤثر تلك الملوثات على الأزهار وتعيق عملية التلقيح.

حفر تستخدم كموقد تحت خزّانات الحراقات، تظهر الصورة تأثر تربة الأرض وتغيّر لونها، 12/ 5/ 2022، (سعد علوان، منظمة بنفسج)

الحلول الممكنة؟

توجد على المستوى الدولي جهود لإدارة نفايات النفط واستصلاح الأراضي المتضررة، وفي حالة سوريا يمكن رسم مسار إعادة تأهيل الأراضي، بالاعتماد على الدروس المستفادة من نيجيريا، التي تتعامل منذ عقود مع تسرب النفط من الأنابيب في دلتا النيجر، أو العراق، حيث يحاول مشروع الأمم المتحدة هناك استخدام البكتيريا الموجودة بشكل طبيعي في التربة لتطهير التربة المسمومة بسبب الانسكابات النفطية.

وتتمثل إحدى الحلول في العمل خطوة بخطوة من أجل تقليل اعتماد شمال غرب سوريا على “الذهب الأسود” السام، وذلك بدعم مشاريع الاستثمار في حلول الطاقة البديلة، وتفضيل مصادر التدفئة البديلة على الوقود. 

وحمّل ويم زويجننبرغ المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية مسؤولية الحد من التلوث، من خلال “توفير موارد الطاقة المستدامة وخبرات المعالجة”، أما بالنسبة للآثار الصحية الناتجة عن التلوث البيئي، شدد زويجننبرغ على ضرورة “المراقبة الصحية طويلة المدى للسكان المعرضين للمعرض وتقديم المساعدة الطبية لهم”.

طفلة تقف أمام أكياس الفحم المخزنة بجوار خيمة عائلتها في قرية ترحين بريف حلب الشمالي، 12/ 5/ 2022، (سعد علوان، منظمة بنفسج)

لكن من دون الوقوف إلى جانب المتضررين لا يمكن فعل أي شيء، وفقاً للمزارع أحمد سعيد، الذي حاول مع مجموعة من المزارعين في المنطقة “تشكيل لجنة مهمتها التواصل مع الفصائل العسكرية في المنطقة لكن لم يتغير شيء”، معبراً عن حالة “الضعف” الذي يعيشها المزارعون وسكان المنطقة، على عكس “المتنفذين الذين يمكنهم فعل أي شيء” بحسب قوله.

وختم سعيد قوله: “لو كان الحل بالتفاوض مع شخصين أو حتى خمسة أشخاص من أصحاب الحراقات لحاولنا ذلك”، ولكن في ظل وجود أكثر من 400 حراقة “من تفاوض؟!”.

أنتج هذا التقرير بدعمٍ مالي من الاتحاد الأوروبي، لكن المعلومات الواردة فيه لا تعكس بالضرورة آراء الاتحاد الأوروبي.

شارك هذا المقال