حزن في المدينة وفرح في الصحراء: قصة زواج في مخيم الركبان
فيما غادر نحو 75% من سكان الركبان نتيجة سوء الأوضاع المعيشية والإنسانية، قررت جود العيش في المخيم لأجل زوجها، و"قد أخبرته بأن لا مشكلة عندي في المكان الذي أعيش فيه طالما أنه يجمعني بك".
21 سبتمبر 2020
عمان- طبيعي أن ترتسم ملامح الفرح على محيّا أهالي العروسين في يوم زفافهما، لكن ليس في حالة جود التي كانت مشاعر عائلتها نقيض ذلك في يوم زفافها، فاكتفى والدها بكلمات ما تزال تطرق مسامعها حتى اللحظة، كما قالت لـ”سوريا على طول”: “لن نمنعك، فهذا اختيارك. انتبهي لنفسك، وأتمنى لك الخير والأمان”، لتنطلق بعدها للقاء زوجها.
وكأنها تجدّف عكس أمواج البحر الهائجة، انطلقت جود، في آب/أغسطس الماضي، رفقة امرأتين من سكان مخيم الركبان الصحراوي على الحدود السورية-الأردنية، كانتا تتلقيان العلاج في أحد مشافي مدينة دمشق، على متن شاحنة محملة بالمواد الغذائية للمخيم.
وفيما غادر “الركبان” نحو 75% من سكانه العام الماضي نتيجة وسوء الأوضاع المعيشية والإنسانية هناك، بسبب تشديد القوات الحكومية والروسية الحصار، قررت جود العيش في المخيم لأجل زوجها سعيد، كما قالت، و”قد أخبرته بأن لا مشكلة عندي في المكان الذي أعيش فيه طالما أنه يجمعني بك”.
ورغم اطلاعها على أخبار المخيم خلال وجودها في دمشق، لكن “من رأى ليس كمن سمع”، على حدّ وصف جود، التي شعرت لحظة وصولها إلى المخيم “برهبة” فوق “وعورة الطريق إلى المخيم وخطورتها، إذ لا يمكن الوصول إلى الركبان إلا عبر طرق التهريب”. مستدركة بأن ذلك بدده “اللقاء بسعيد”.
سعيد الحمصي، كان متلهفاً للقاء جود، لكنه لم يخف أنه عاش صراعاً داخلياً خشية أن تشعر زوجته بالندم على قدومها، خصوصاً “أنني عشت أياماً قاسية هنا، وكنت شاهداً على معاناة سكان المخيم عند انقطاع الدواء أو حليب الأطفال، ولا أتمنى أن تعيش جود هذه المعاناة”، كما قال لـ”سوريا على طول”. لذلك “كنت أرسل لها أخبار المخيم يوماً بيوم، وأرفق لها صوراً عن طبيعة الحياة هنا، حتى لا تشعر يوماً بأنني أخفيت عنها شيئاً أو لم أضعها بحقيقة حياتنا هنا”.
قصة الزواج
قبل عام ونصف العام، تعرّف الشاب سعيد، ذو الخمسة والعشرين ربيعاً والنازح من ريف حمص، على عائلة جود وكان على اتصال معهم عبر شبكة الإنترنت. تالياً أرسل أحد أفراد عائلته المقيم خارج “الركبان” لزيارة والد جود التي تصغره بخمس سنوات، في إحدى ضواحي دمشق الخاضعة لسيطرة النظام. “أوكلت إليه طلب يد جود، وعقد القران نيابة عني بعد استفتاء أحد المشايخ بشأن متطلبات ذلك”، كما روى، و”سلّمهم أيضاً المهر المتفق عليه بيننا”.
قصة حب العروسين نبتت في الأرض ونمت، كما في القصة الكردية الشهيرة “ممو زين”. لكن لأنهما لا يريدان لها نهاية مماثلة لنهاية تلك القصة التي أينعت فقط في السماء، أخذ خوفهما يتنامى، خصوصاً عند جود، لأن “أهلي هددوا بفسخ عقد الزواج إذا ما طالت الخطوبة أكثر من ذلك”. ورغم أن “الأمل كان بزواجنا خارج المخيم، فإنه مع عدم تمكن سعيد من مغادرته أفضى إلى قرار زواجنا في الركبان”، بحسب جود.
بداية، رفض أهل جود فكرة الزواج في “الركبان”. إذ “لو كانت الغربة إلى محافظة سورية أخرى، أو بلد خارج سوريا، فإنه لا مشكلة لديهم. أما فكرة المخيم فكانت مرفوضة بالنسبة لهم”، كما أضافت، إلى أن “وافق والدي تلبية لرغبتي”.
في تلك الأثناء، عمل سعيد جاهداً لخلق جو استثنائي لعروسه القادمة من المدينة إلى الصحراء، مع بقاء مسعاه، حتماً، رهين ظروف المخيم والمواد المتوفرة فيه. فبنى على أطراف المخيم غرفة طينية بسقف خشبي، مساحتها 4×4 متر مربع، وصنع سريراً خشبياً، واستخدم الأقمشة لتزيين الغرفة، كما قال. وعند قدوم جود، أقام حفل العرس على نطاق محدود للمقربين.
صورة غرفة سعيد وجود الطينية في مخيم الركبان، بعد فرشها وتزيينها
أفراح لا تقتلها الظروف
حتماً تبدو استثناء قصة قدوم جود من دمشق للزواج بسعيد في المخيم الصحراوي الذي يفتقد قاطنوه أبسط الحقوق المعيشية والصحية. لكن هذا لا يعني أن الحياة متوقفة هناك، بل “التزاوج مستمر، والناس في المخيم يقيمون أعراسهم وأفراحهم في محاولة لخلق أجواء تعوضنا عما خسرناه”، كما قال الناشط الإعلامي عماد غالي لـ”سوريا على طول”، من مكان إقامته في “الركبان”.
“نحن مصرون على أن الحياة يجب أن تستمر، سواء كانت هناك حرب أم لا، وبغض النظر عن صعوبة الحياة في المخيم”. مضيفاً: “من تبقى في مخيم الركبان اتخذوا قراراً بعدم العودة إلى مدنهم طالما النظام السوري يقتل ويعتقل بدعم روسي وإيراني. لكننا في الوقت نفسه قررنا أن نعيش في هذه الصحراء ونعمرها”. واليوم، بحسب غالي، “هناك من يتزوج، ومن يبني بيتاً من طوب، ومن يزرع”.
ولأن المجلس المحلي للمخيم متوقف عن العمل، لعدم وجود إمكانات مالية، فإنه لا يوجد إحصاء لعدد حالات الزواج في “الركبان”، كما قال رئيس المجلس أبو أحمد درباس لـ”سوريا على طول”. لكن “شهرياً هناك حالة زواج واحدة على الأقل. وفي بعض الأحيان قد يشهد المخيم عرساً أو أكثر في ِأسبوع واحد”، كما أضاف.
أيضاً، وفي مؤشر آخر على إرادة استمرار الحياة رغم قسوة الصحراء، شهدت نقطة تدمر الطبية التابعة لمجلس عشائر تدمر والبادية السورية في المخيم، انجاب سبع سيدات خلال 48 ساعة هذا الشهر، بإمكانات بسيطة وضمن المتاح في المخيم الذي تزداد أوضاعه صعوبة.
فإلى جانب الحصار المفروض من قبل القوات الحكومية والروسية على “الركبان”، تسببت التدابير الاحترازية لمواجهة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) في إغلاق النقطة الطبية التابعة لمنظمة “اليونيسيف”، على الجانب الأردني من الحدود، في آذار/مارس الماضي، وهي النقطة الطبية الوحيدة التي تخدم مخيم الركبان الذي لا قيم فيه أي طبيب.
كذلك، تأثر المخيم بسوء الأوضاع الاقتصادية في سوريا عموماً. إذ انعكس تدهور قيمة الليرة السورية على أسعار المواد الأساسية التي تصل إلى المخيم تهريباً من مناطق النظام. إذ “تبلغ سعر ربطة الخبز 1000 ليرة سورية [0.45 دولار بحسب سعر الصرف اليوم 2190 ليرة للدولار]، وكيلو الرز 1500 ليرة [0.70 دولار]، وكيلو السكر 1200 ليرة [0.55 دولار]”، كما قال لـ”سوريا على طول” خضر أبو محمد، العامل في أحد النقاط الإغاثية المحلية في المخيم. لافتاً إلى أن “المواد متوفرة هذه الأيام بكميات متفاوتة وتدخل عبر طرق التهريب”.
ومع إصرارهم على مقاومة الظروف القاسية حالياً، يظل الأمل يحدو سكان المخيم، بمن فيهم جود التي أصبحت من قاطنيه، بأن “لا تبقى الظروف على ما هي عليه الآن. وأتوقع أننا سنرجع إلى أرضنا ونكمل حياتنا بالطريقة التي نحبها”، كما قالت.