كانت أم مرح، الحامل بطفلها الثاني، في منزلها في مضايا المحاصرة قبل أسبوعين حين انتابها إحساس بأنها ليست على مايرام، وأنها ستفقد برعم أمل حملته منذ ثلاثة شهور.
وسردت أم مرح، لسوريا على طول، “كنت أقوم بواجباتي المنزلية ومنذ الصباح وأنا أشعر بوهن شديد وقابلية للتقيؤ، فجأة وأنا أعمل أصابني الدوار ووقعت أرضاً ولم أعد أحس بشيء”.
وهرع زوج أم مرح بها إلى العيادة الطبية النسائية الوحيدة في البلدة التي يبلغ تعدادها السكاني 40 ألفاً، وفي العيادة طبيبة نسائية بمفردها، ولم تكن قد تخرجت بعد من جامعة الطب حين بدأت الثورة في عام 2011.
وقالت أم مرح “بعد أن استيقظت من دواري أخبرتني الطبيبة بأني فقدت طفلي وهو في الشهر الثالث، وأن جسدي ونفسيتي متعبة جداً وهذا لايسمح ببناء جنين سليم فلم تتوفر له الظروف الملائمة من غذاء كاف وراحة جسدية ونفسية”.
وتابعت “شعرت بأني فقدت جزءاً مني”.
أم مرح واحدة من عشرات النساء في مضايا اللواتي أجهضن في الشهور الأخيرة بسبب سوء التغذية ووطأة الحرب والحصار، كما بيّن لسوريا على طول الطبيب محمد درويش، واحد من الأطباء المتخصصين القلة الذين بقوا في البلدة.
وقال درويش لسوريا على طول “كانت أولى حالات الإجهاض التي شهدتها البلدة منذ اشتداد الحصار في نهايات شهر 12 وبداية الشهر الأول من العام الحالي، وبلغ عددها حتى الآن 30 حالة”.
وأشار درويش والذي يعمل في مشفى مضايا الميداني، وكان يدرس طب الأسنان حين بدأت الثورة، إلى أنه “خلال شهر تموز هذا فقط استقبلنا أكبر عدد من الحالات مقارنة بالأشهر السابقة وبلغ عددها 6 حالات والعدد مرشح للارتفاع”.
“لوحة غير مسماة”. حقوق نشر الصورة لـ أنس سلامة والذاكرة الإبداعية
وعزا درويش الإرتفاع في حالات الإجهاض في شهر تموز الحالي إلى “تأثير سوء التغذية الملازم لسكان البلدة منذ أشهر، ونوعية الغذاء ومحدويته بالإضافة إلى الضغوط النفسية التي فرضتها الحرب والحصار”.
وطوقت قوات النظام وحليفه حزب الله بلدة مضايا، والتي تبعد 40 كم شمال شرق دمشق في تموز الماضي، خلال معركتها للسيطرة على الزبداني المجاورة التي يسيطر عليها الثوار، وهي البوابة إلى ممرات التهريب الرئيسية عبر جبال القلمون من وإلى لبنان.
ومنذ الصيف الماضي، وسكان مضايا البالغ عددهم 40 ألفا وأهالي بلدة بقين المجاورة من ضمن ما يقدر بمليون شخص يقبعون في سجن، حصار كلي، في سورية، وفق ما ذكرت “السيج ووتش” منظمة رصد الحصار.
في كانون الأول عام 2015، أدى الحصار الخانق لمضايا، المعزز بآلاف الألغام البرية المزروعة حوالي البلدة من قبل حزب الله، إلى المجاعة، وكان الأهالي الذين لا يفصلهم عن دمشق سوى مشوار ساعة يقتاتون الأعشاب وأوراق النباتات والشجر.
ورغم موجة الغضب الدولي وإدخال عدة مساعدات، إلا أنه تم تسجيل 86 حالة وفاة متعلقة بالحصار بحلول أيار 2016، وفق ما صرحت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان والجمعية الطبية السورية الأميركية في تقرير مشترك في بداية هذا الشهر.
وفي سورية “يؤثر الحصار على النساء بشدة وإجحاف أكبر”، وفق تقرير لرابطة النسائية الدولية للسلام والحرية، في عام 2016.
“فبينما تقوم النساء بالعمل الأكبر لإيجاد وتحضير الطعام على ندرته، فهن أخر من يأكل وأقل من يأكل”.
وتؤثر قلة الغذاء المتوفر والرعاية الطبية في البلدات التي ترزخ تحت الحصار على النساء ولا سيما الحوامل، بقسوة فأجسادهن لا تحتمل جهدا إضافيا.
وقال درويش، طبيب مضايا، “بشكل عام الحمل يستهلك الكثير من الأم من ناحية الغذاء والصحة والتفكير ومن الناحية الصحية يسبب لها العديد من المشكلات مثل نقص الكلس أو نقص الحديد وانخفاض الخضاب والإجهاض كذلك الأمر له تأثيرات صحية ونفسية كبيرة بعد أن يكون الجنين قد استهلك جسد الأم وتفكيرها بالتعب والتوتر والإجهاد”.
ولا يمكن لسوريا على طول أن تؤكد بشكل مستقل سبب الإرتفاع المسجل في حالات الإجهاض في مضايا. إلا أن الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية ربطت مابين الإجهاد الجسدي الذي تفرضه الحياة تحت الحصار في سوريا ومعدلات الإجهاض المرتفعة وغيرها من مضاعفات الحمل منذ آواخر عام 2013.
وأشارت منظمة أطباء بلا حدود في عام 2013 إلى أن الولادات المبكرة وحالات الإجهاض في سورية كانت “في ازدياد بسبب الإجهاد الذي تسببه الحرب”.
وبعد عامين، “عانت غالبية النساء الحوامل في المناطق المحاصرة من الأنيميا، وحالات الإجهاض، وازدات التشوهات الولادية بشكل ملحوظ”، وفق ما لفت تقرير في عام 2015 للجنة الدولية المستقلة للتحقيق في الجمهورية العربية السورية.
والإجهاض هو أحد مضاعفات الحمل الأكثر انتشاراً على نطاق العالم، ويحدث لـ14 إلى 20% من حالات الحمل. وعلى أية حال فإن العوامل البيئية كالإجهاد وسوء التغذية والتعرض للمواد الكيماوية والأسلحة المتفجرة كانت مرتبطة بالمعدلات المرتفعة للإجهاض.
و” لنقص المياه والغذاء تأثير بالغ على النساء الحوامل والأمهات المرضعات”، وفقا للتقرير الإنساني لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة، الصادر في أيار 2015.
وبين درويش أن “الأم الحامل بحاجة إلى تنوع غذائي بشكل عام، كتناول الخضار والفواكه، الحليب ومشتقاته، البيض، ومع الأسف تلك المواد كلها غير موجودة في مضايا، طعامنا يقتصر على المساعدات والتي تضم البرغل، الرز، الفاصولياء، الحمص”.
وقالت أم مرح لسوريا على طول ” خلال فترة الحمل كان غذائي معظمه من مواد المساعدات”.
وبدوره، قال درويش “للأسف لاتتوفر المواد الغذائية التي تحوي على الكلس والفيتامينات الضرورية لكل حامل إلا بأسعار خيالية لا يقوى الأهالي على شرائها”، فمثلا سعر الحليب 40 ألف ليرة للتر الواحد، الكوسا والخيار متوفرة بسعر 4000 ليرة للكيلو الواحد، البيض غير متوفر حاليا لكن من مدة شهر أحد التجار أدخل البيض وعرض البيضة الواحدة بسعر 700 ليرة بعد أن كانت بـ3000 ليرة ورغم ذلك المبلغ خيالي بالنسبة للمواطن.
وذكر درويش أن الحوامل، وسكان مضايا عموماً، يعانون من “الوهن العام كهبوط الضغط والدوار الدائم نتيجة نقص الفيتامينات في الغذاء المتوفر”. وأضاف “نحن نحاول قد الإمكان أن نعطي بدائل عن الأدوية مثل السيرومات أو بعض أنواع الفيتامينات المتوفرة (…) وأحيانا حتى البدائل غير موجودة”.
إلى ذلك، قال حسام مضايا، عضو المجلس المحلي والناشط لدى الهيئة الإغاثية في البلدة، لسوريا على طول، “منذ حوالي شهرين أو أكثر لم تدخل أية مساعدات”. وأضاف أن “الأغذية التي أدخلتها الأمم المتحدة بدأت بالنفاد”.
وبالعودة للأم التي بثت للعلن حزنها بإجهاض جنينها، والخيبة التي شعرت بها بموت برعم نما في أحشائها لكونها من أهالي مضايا، المحتجزين في حصارها. قالت أم مرح “عندما رأيته أجهشت بالبكاء حيث كانت معالمه ظاهرة وحجمه صغير جدا رق قلبي عليه، شعرت كأي أم تمتلك شعور الأمومة”، مشيرة إلى أن إجهاضها أحزن زوجها أيضاً، والذي قالت إنه “أصيب بالإحباط حيث كان ينتظر طفلا يحمل اسم العائلة”.
ولكنها أصرت “لم أفقد الأمل بالإنجاب ولكن دائما ينتابني شعور بالخوف كلما تذكرت صورة جنيني الذي توفي”.
ترجمة: فاطمة عاشور