حكومة دمشق وهيئة تحرير الشام و”داعش” تلتقي على استهداف الناشطات الإعلاميات شمال غرب سوريا
إن"الصحافيات دون الذكور في المجتمعات المحافظة يتعرضن لتحديات خاصة، من مثل مراقبة حركتهن وملابسهن ومنشوراتهن على وسائل التواصل الاجتماعي. كما انعدام ثقة الرجال بهن، والشك في قدراتهن".
عمان- من محافظة إدلب التي تعد واحدة من أخطر مناطق العالم، تصر الناشطة الإعلامية يقين بيدو على تغطية التطورات الميدانية في شمال غرب سوريا، بما في ذلك العسكرية منها. وهي في سبيل ذلك لا تتصدى فحسب لتحديات تمتد من الأمنية إلى الاجتماعية، وإنما نجحت فوق ذلك، كما قالت لـ”سوريا على طول”، في المساهمة في “تغيير نظرة المجتمع المحلي” إلى دور المرأة في هذا المجال.
بيدو البالغة من العمر 25 عاماً فقط، هي واحدة من “نحو 60 صحافية سورية يمارسن نشاطهنّ الإعلامي في إدلب”، كما ذكرت، مديرة قسم الإعلام في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، يارا بدر، لـ”سوريا على طول”. لكن اسم بيدو برز بينهن بعد تعرضها لهجوم على وسائل التواصل الاجتماعي من شخصيات موالية لحكومة دمشق، على خلفية تحدّ بينها وبين شادي حلوة، مراسل التلفزيون السوري في حلب. إذ بثّت بيدو، أواخر شباط/فبراير الماضي، شريطاً مصوراً من داخل مدينة سراقب، في رد على زعم حلوة آنذاك سيطرة القوات الحكومية والمليشيات المتحالفة معها على المدينة. ومنذئذ، تتعرض “كل يوم لإشاعة جديدة”، كما قالت بيدو، “ما سبب لي موقفاً محرجاً”.
ففي آذار/مارس الماضي، على سبيل المثال، تناقلت صفحات موالية لدمشق على مواقع التواصل الاجتماعي، تغريدة لعضو مجلس الشعب فارس الشهابي، قام بحذفها لاحقاً، ادعى فيها اغتيال بيدو بعد “اغتصابها من إرهابيين”. مضيفاً، بشكل يعبر عن الشماتة، أن “هذا مصير كل من يتعامل مع الإرهاب ويخون وطنه”.
دمشق تتصدر الانتهاكات
في تقريره السنوي، وثق المركز السوري للحريات الصحفية، التابع لرابطة الصحفيين السوريين (المعارضة لحكم دمشق)، 35 انتهاكاً ضد الإعلاميات السوريات منذ اندلاع الثورة السورية في آذار/مارس 2011 وحتى نهاية العام 2019، من بينها مقتل سبع إعلاميات، واعتقال 14 أخريات.
وقد تصدر النظام السوري قائمة الجهات المرتكبة للانتهاكات ضد الإعلاميات، إذ كان مسؤولاً عن ارتكاب 11 انتهاكاً، تليه فصائل المعارضة بست انتهاكات، فحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الكردي بأربع انتهاكات، والسلطات التركية وتنظيم داعش بثلاثة انتهاكات لكل منهما. وبحسب المركز، تتراوح الانتهاكات بين القتل، والاعتقال، والخطف، والإصابة، والضرب، والضغط والتهديد، والشتم، وصولاً إلى المنع من التغطية.
ومع أن أغلب منطقة شمال غرب سوريا ما تزال خارج سيطرة القوات الحكومية، إذ تخضع لهيئة تحرير الشام وفصائل المعارضة السورية، فإنه إضافة إلى الانتهاكات المتمثلة بقصف المنطقة واستهداف سكانها بشكل عام وضمنهم الإعلاميون، تصل تهديدات إلى الصحافيات الناشطات في إدلب من موالين لدمشق.
ففي حالة بيدو، “تصلني عشرات رسائل التهديد يومياً، معظمها من أشخاص موالين للنظام. بعضها تهديدات صوتية وبعضها مكتوب، [من مثل] سنقتلك أنت وأهلك وسنغتصبك حتى وإن كنت داخل إدلب”، إلى جانب “عبارات التحرش اللفظي لي ولعائلتي”، كما أضافت.
الأمر ذاته تواجهه المراسلة الميدانية لقناة “حلب اليوم” في إدلب، سلوى عبد الرحمن. إذ وردتها رسائل تهديد بالقتل والتصفية من شخصيات تابعة للنظام، كما قالت لـ”سوريا على طول”، ما يعني “حالة من الرعب والقلق الدائمين أعيشهما نتيجة ضغط العمل والتهديدات”. مضيفة أن هؤلاء يستخدمون أيضاً صور الناشطات الإعلاميات “بطريقة مسيئة”.
صورة مأخوذة عن تغطية تلفزيونية للمراسلة الصحافية سلوى عبد الرحمن من مدينة إدلب، 28/3/2020 (قناة حلب اليوم)
في هذا السياق، لفت د. خالد ناصر، مستشار التواصل الأسري في لبنان، والذي قدم استشارات طبية لصحافيين في إدلب، إلى أن كون “وظيفة الصحافيين نقل الأحداث من وجهة نظر سياسية، ومعظمهم [في شمال غرب سوريا] معادون للنظام، فإنهم يعانون من قلق دائم. إذ يتخوفون من سيطرة النظام على مناطقهم والقبض عليهم”. يضاف إلى ذلك، كما قال لـ”سوريا على طول”، شعور هؤلاء الصحافيين “بالتوتر لاقتصار دورهم على نقل معاناة الناس، فيما يعجزون عن تقديم المساعدة لهم”.
هيئة تحرير الشام و”داعش”.. قيود ورسائل تهديد
انعكست سيطرة هيئة تحرير الشام على إدلب منذ بداية العام 2019، عقب مواجهات مسلحة مع فصائل المعارضة في المحافظة، على حرية الرأي والتعبير، لا سيما الحريات الصحافية. إذ بحسب المركز السوري للحريات الصحفية، ارتكبت الهيئة 29 انتهاكاً بحق الصحافيين في العام 2019، منها حالة قتل واحدة.
ورغم أن الصحافيات، بحسب الأرقام، أقل تعرضاً لانتهاكات الهيئة من الصحافيين، لفتت مديرة مشروع سوريا في معهد صحافة الحرب والسلام، زينة إبراهيم، والتي دربت عدداً من صحافيات سوريا من مكان إقامتها في لندن، إلى حقيقة أن “من السهل تعرض الصحافيات في إدلب على وجه التحديد، للاختطاف أو الاغتيال مقارنة بالذكور، يجعل الصحافية تخشى الخروج بمفردها من المنزل، أو إظهار وجهها للكاميرا، باعتباره أمراً غير معتاد في تلك المنطقة”. مضيفة في حديثها إلى “سوريا على طول” أن “ظهور المرأة المتكرر في الإعلام يخيف السلطات دائماً. ولذلك هي تبقى تحت المراقبة لمعرفة من هي وماذا تفعل”.
ومع أن “انتهاكات هيئة تحرير الشام بحقنا تكاد لا تذكر مقارنة بانتهاكات النظام”، برأي عبد الرحمن، إلا أنها أشارت في الوقت نفسه إلى أن “الهيئة تفرض قيوداً تأسر حريتنا. إذ يطلبون مني على نقاط التفتيش التابعة لهم، أن أغطي جسدي بلباس ساتر أكثر”. كما يرى أعضاء الهيئة “أن ليس هناك مبرر لظهورنا أمام الكاميرات”، و”يظنون أننا انتهكنا معاييرهم بسلوكنا السيء [المتمثل] في ارتداء حجابات ملونة وسترات قصيرة، أو التقاط صور في أماكن مليئة بالرجال”.
في السياق ذاته، أشارت الصحافية رزان العبد إلى أن عناصر هيئة تحرير الشام “يسألونني في كل مرة أمر من نقاط تفتيشهم: لماذا ترتدين هذا اللباس؟ ولماذا تضعين المكياج؟”، الأمر الذي “يشعرني بإهانة كبيرة”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.
يضاف إلى ذلك، بحسب العبد التي تعيش حالياً في مدينة عفرين نازحة من قرية معرة حرمة في ريف إدلب، سؤال عناصر الهيئة: “لماذا تتنقلين من دون وجود محرم شرعي [في إشارة إلى عدم جواز سفر المرأة من دون رجل من محارمها]”. وقد بلغ الأمر في إحدى المرات حد “احتجاز سائق سيارة الأجرة لأنه كان يوصلني من دون محرم. ولم يطلقوا سراحه إلا بعد تعهده بعدم توصيل أي امرأة تخرج وحدها”.
ولعل اللافت أكثر في حالة العبد تلقيها، قبل ستة أشهر كما ذكرت، رسائل تهديد على هاتفها المحمول من عناصر “داعش”، على شكل “مقاطع فيديو يظهر فيها رجال ملثمون يحملون سكاكين ويقطعون الرؤوس، مرفقة بعبارة: حنين، سنحطم رأسك. أنت تغضبين الله”. وهو ما دفعها إلى تغيير رقم هاتفها.
ومع أنه لا سيطرة لتنظيم “داعش” في شمال غرب سوريا، إلا أن وجود خلايا نشطة له هناك يزيد من مخاوف الصحفيات في المنطقة.
تحديات مجتمعية
تمخضت الثورة السورية التي اندلعت في آذار/مارس 2011، عن ثورة نسوية في مختلف القطاعات، من ضمنها قطاع الإعلام. وفيما أثبتت الصحافيات قدرة على مجاراة نظرائهن من الصحافيين في التغطية الإعلامية، فإن عملهنّ في هذا المجال ما تزال تعترضه سلسلة من العقبات والتحديات المجتمعية، إضافة إلى المخاطر الأمنية.
لذلك، كان على الصحافية شادية التعتاع، من مدينة كفرنبل بريف إدلب، العمل في الصحافة “من وراء الكواليس ومن دون الظهور على الشاشات”، كما قالت لـ”سوريا على طول”، لأن “مجتمعنا لا يقبل ذلك”. إذ “ينظر إليّ الناس باستغراب وأنا أحمل الكاميرا، وكأن لسان حالهم يقول: ألا يوجد رجال حتى تخرج هذه الفتاة للتصوير؟”.
وفي حالة عبد الرحمن، فإنها لم تدخل مجال الإعلام إلا بعد أن توفي زوجها، كما قالت، لأنه “كان يرفض بشدة عملي في هذه المهنة، خوفاً على أطفاله”.
وبحسب د. ناصر، فإن “الصحافية الأم تعيش قلقاً أكبر من غيرها من الصحافيات، بسبب كلام المجتمع المحيط، من مثل: أين أطفال؟ هل تركتهم في المنزل؟ من سيطعمهم؟”. كما إنهم سينظرون إليها، فوق ذلك، على “أنها امرأة ليست صالحة، لدرجة قد تصل إلى ابتعاد الرجال عن الزواج من الصحافيات العازبات”.
وفيما أكدت العبد على أن بعض الرجال “ينظرون إلى المرأة التي تخرج من المنزل وتعود بحرية مطلقة على أنها إنسانة سيئة ولا تصلح للزواج”، فإنهم يحاولون في الوقت ذاته “التحدث إلينا والتقرب منها، ويتجرأون على فعل ذلك معنا دون النساء الأخريات”، كما قالت.
يضاف إلى ذلك، بحسب ابراهيم، أن “الصحافيات دون الذكور في المجتمعات المحافظة يتعرضن لتحديات خاصة، من مثل مراقبة حركتهن وملابسهن ومنشوراتهن على وسائل التواصل الاجتماعي. كما انعدام ثقة الرجال بهن، والشك في قدراتهن”.
وبحسب د. ناصر فإن عمل الصحافيات في إدلب تسبب بشكل من أشكال الصدمة الثقافية. إذ “تشكلت نتيجة لذلك ثلاث طبقات من الضغط مورست على المرأة الصحافية في إدلب: [أولاها] أنها عربية، تعيش في مكان مزقته الحرب أو نازحة من مجتمع مختلف. و[ثانيتها] أنها أنثى، ستحتاج للحديث إلى الرجال من خلال تغطياتها، وهذا لا يناسب المجتمعات المحافظة. فيما الثالثة في كونها تعمل في مهنة تقليدية للذكور، و[لذا] عليها أن تبرر هويتها دائما بأنها صحافية جيدة وتعرف ما تفعله، وهذه الفكرة مرهقة للغاية”. محذراً من أنها قد “تتعرض للاستغلال من الرجال في محيطها”.
بالرغم من ذلك، ذهبت العبد إلى أن “نظرة المجتمع بدأت تتغير قليلاً، خاصة وأن بعض الصحافيات استطعن تغيير بعض من الواقع المرير الذي يعيشه السكان، عبر تغطية قصص إنسانية لمرضى، ما أدى إلى نقلهم إلى تركيا لتلقي العلاج”.
كذلك، شددت التعتاع على أن “النساء كسرن حاجزاً كبيراً من القيود التي فرضها المجتمع بمجرد دخولهن هذا المهنة”. مؤكدة أن “وجود المرأة في المجال الإعلامي إلى جانب الرجال ذا أهمية كبيرة؛ إذ إنها تستطيع نقل معاناة النساء المهمشات اللواتي لا يقبلن التحدث مع الرجال، لاسيما في المواضيع الحساسة، أو اللقاء بهن في منازلهن أو في المستشفيات والمدارس”.
بالمحصلة، فإن “المرأة الصحافية في إدلب فرضت نفسها في هذا القطاع، سواء قبل المجتمع ذلك أم لا”، برأي عبد الرحمن.