حماية الأقليات: مسيحيو حلب بين وعود هيئة تحرير الشام وذكريات مؤلمة
بينما تتعهد هيئة تحرير الشام بنهج جديد في مناطق نفوذها، يوازن المسيحيون في مدينة حلب بين ضمانات الحماية والذكريات الصعبة. بعد السيطرة على المدينة، في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر، فرّ البعض خوفاً من سيناريو أسوأ على يد الفصائل الإسلامية.
6 ديسمبر 2024
مرسيليا – لم يغادر جوزيف كرم (اسم مستعار)، 42 عاماً، وزوجته وأطفاله الأربعة الصغار شقتهم في حي العزيزية، وهو حي مسيحي وسط مدينة حلب، رغم سيطرة هيئة تحرير الشام وفصائل المعارضة السورية على المدينة، لكن خطر الغارات الجوية التي يستهدف النظام بها المدينة جعلهم يعيشون في دوامة قلق دائم، لدرجة عدم قدرتهم على النوم ليلاً.
عندما اجتاحت الفصائل المشاركة في عملية “ردع العدوان” ثاني أكبر مدن سوريا، في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر، كان لدى المسيحيين مخاوف أخرى، وهو ما دفع العديد من أفراد طائفة الروم الأرثوذكس، التي ينتمي كرم إليها، إلى مغادرة المدينة فور سقوطها من دون مقاومة.
توسلت زوجته، التي كانت خائفة في البداية، أن يغادروا أيضاً، فقال لها: “دعينا نرى الوضع أولاً ثم نقرر بعد ذلك“، إذ “ليس لدينا ما يكفي من المال لشراء الطعام حتى نفكر بالمغادرة”، على حدّ قوله لـ”سوريا على طول”.
في الأول من كانون الأول/ ديسمبر الحالي، انتشر مقطع فيديو، على نطاق واسع، يبدو أنه لمقاتل مع المعارضة، وهو يحاول إسقاط شجرة عيد ميلاد معدنية، وقد تجاوز تأثير الحادثة وسائل التواصل الاجتماعي، بحسب كرم، ما دفع بعض المسيحيين إلى مغادرة المدينة. في اليوم التالي، أعيدت الشجرة إلى مكانها، كما أظهرت فيديوهات أخرى زينة أعياد الميلاد في الأحياء المسيحية بحلب من دون أن يتم العبث بها.
كان للحادثة تأثير سلبي كبير، إذ “أصيب الناس بالذعر، وعادوا بذاكرتهم إلى الزمن الذي اقتحمت فيه [جبهة النصرة] مقدسات الأقليات ودنّستها، وفرضت عليهم الحجاب، فسارع البعض إلى مغادرة حلب”، ولو كان الطريق آمناً “ربما غادر 80 بالمئة من الأقليات من شدة الخوف”، بحسب كرم.
هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، كانت فرعاً لتنظيم القاعدة في سوريا حتى عام 2016، وهي مسؤولة عن اختطاف رجال دين مسيحيين واضطهاد أقليات دينية أخرى.
قال جميل دياربكرلي، المدير التنفيذي للمرصد الآشوري لحقوق الإنسان، ومقره السويد، أن حوالي ثلث مسيحيي حلب -حوالي 6600 شخص- فرّوا من المدينة، مستشهداً بمراقبين ميدانيين على الأرض، وتوجه هؤلاء إلى مناطق سيطرة النظام وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال شرق سوريا، وفقاً له. من بين معارف كرم، غادرت 50 عائلة مسيحية المدينة.
وحتى يوم الثلاثاء، كان هناك العديد من العائلات التي “تفكر في الخروج من حلب”، بحسب دياربكرلي، مضيفاً: البعض “لم يحسموا قرارهم بالخروج أو لم يجدوا طريقة مناسبة”. لا تزال الاشتباكات مستمرة على أطراف المدينة والطرق المؤدية إليها خطرة.
كان يعيش نحو 20 ألف مسيحي في حلب، قبل هجوم المعارضة، علماً أن عددهم يقدر بنحو 220 ألفاً في عام 2011، وفيها “يتركز أكبر تجمع للمسيحيين في البلاد”، كما تعد المدينة ذات الغالبية السنية موطناً تاريخياً لأقليات أخرى: الأكراد، بما في ذلك اليزيديين، بالإضافة إلى عدد أقل من الشيعة والعلويين وبعض الإسماعيليين والدروز.
حتى الآن، لم يتم توثيق سوى القليل من الانتهاكات -إن وُجدت- ضد الأقليات في حلب، وقد سعت فصائل المعارضة مراراً وتكراراً إلى طمأنة الأكراد والأقليات الدينية.
في الرابع من الشهر الحالي، زار زعيم هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع)، مدينة حلب، وتعهد في بيان لمجموعة الأزمات الدولية (ICG) بأن “المسلمين والمسيحيين بكل تنوعهم سوف يحظون بالاحترام”.
وقبل ذلك، أعلنت إدارة الشؤون السياسية في حكومة الإنقاذ، التابعة لهيئة تحرير الشام، في الأول من هذا الشهر، قالت فيه أنها تسعى جاهدة لحماية حقوق المدنيين من جميع الطوائف والمكونات السورية. وفي بيان لاحق، دعت العلويين -الطائفة التي ينتمي إليها الرئيس بشار الأسد- إلى أن يكونوا “جزءاً من سوريا المستقبل التي لا تعترف بالطائفية”.
تأكيداً على ذلك، قال كرم: “كان واضحاً أنهم قادمون للسيطرة على المدينة دون المساس بممتلكات وأعراض المدنيين، ومنذ سيطرتهم على المحافظة أناروا حلب بالكهرباء، التي لم نكن نراها أيام النظام إلا ساعتين كل 30 ساعة أو كل 72 ساعة أحياناً“، لكنها عادت إلى الانقطاع مرة أخرى منذ أمس الخميس، على حد قوله.
وأيضاً، قرر باسل قس نصر الله، 66 عاماً، من طائفة الروم الملكيين الكاثوليك، البقاء في حلب لأنه لا يتخيل نفسه أن يغادرها، قائلاً: “أنا شخص عندما أمر في الشارع، ربما يقول لي خمسون شخصاً: صباح الخير. الجميع يعرفني، الأرصفة تعرفني، والجدران تعرفني. فأين أريد أذهب؟ لدي ذكريات في هذه المدينة”.
وقال نصر الله: “لم يزعجني أحد”، مشيراً إلى أنه لا يخشى على سلامته، رغم أنه كان مستشار مفتي سوريا السابق، أحمد بدر الدين حسون، المتواطئ مع نظام الأسد.
“نعم، كنا نخاف منهم” في البداية، بسبب “التطرف قبل 11 أو 12 عاماً”، لكن اليوم “خطاب آخر، خطاب جديد”، بحسب نصر الله، الذي أشار إلى حقيقة أن جميع كنائس حلب العشرين أقامت قداساً، يوم الأحد الماضي.
وأضاف: “ومع ذلك، يشكك الكثيرون ويقولون أن هذا السلوك ما هو إلا البداية”، مشيراً إلى أنه “لا توجد إدارة في المدينة ولا سلطات واضحة للشكوى إليها” في حال حدوث انتهاكات. ومع ذلك، أنشأت حكومة الإنقاذ في إدلب يوم الأحد خطوطاً ساخنة للسكان للإبلاغ عن الحوادث.
وفي هذا السياق، أخبر الجولاني مجموعة الأزمات الدولية، في الرابع من هذا الشهر، أن هيئة انتقالية ستحكم حلب، وأن السيطرة على المؤسسات الحكومية ستكون للمدنيين.
من جهته، قال دياربكرلي من المرصد الآشوري لحقوق الإنسان: “لم نلمس أي انتهاكات حقيقية أو واضحة ضد المسيحيين في حلب من قبل الجماعات التي تسيطر الآن على المدينة”، لكن “خبرتنا بعد سنوات طويلة [من الصراع] تشير إلى أن كل الاحتمالات مفتوحة للأسوأ وليس للأفضل”.
في ظل المستقبل الضبابي، يخشى كرم ردة فعل النظام في شنّ “هجوم مضاد سيكون شرساً… أخاف من القصف العشوائي”. وقد استهدفت الطائرات الروسية وطائرات النظام بالفعل المدينة وغيرها من المناطق التي تسيطر عليها المعارضة عدة مرات.
“نحن خائفون على الأطفال أكثر من أي شيء آخر، لم نكن مستعدين للحرب”، قالت بهار زوجة كرم، مشيرة إلى أنهم يختبئون “مع الأطفال في الجزء الخلفي من غرفة النوم”.
وأضافت ابنتهما رهف، ذات الثماني سنوات: “نحن خائفون من الصواريخ والطائرات، ولا نخرج من المنزل، ولا نذهب إلى المدرسة”، وواصلت: “نريد أن أعيش وأن أستمتع مع أصدقائي”.
صورة مغايرة
بينما قوبلت مبادرات هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) تجاه الأقليات بالترحيب، لا يمكن نسيان تاريخها المتشدد، وهي التي أشار زعيمها إلى معتقدات المسلمين غير السنة على أنها أخطاء عقائدية، وحاول الضغط على المسيحيين والدروز من أجل تغيير معتقداتهم.
وفي إدلب، صادرت النصرة ممتلكات المسيحيين والدروز. كانت مزرعة عائلة كرم في جسر الشغور، التي فرّ منها في عام 2011، بينما بقي والداه خلفه، وبمجرد وفاة والده “جاؤوا إلى والدتي قبل الدفن، ومنعوها من دخول أراضينا، كما أخذوا المعدات الزراعية قائلين: هذا من حقي المجاهدين”، على حد قوله.
لكن، مع تغيير الجبهة اسمها إلى هيئة تحرير الشام بدأت بتغيير صورتها أيضاً. حلت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقمعت الفصائل المتطرفة، إضافة إلى تخليها عن حلم “الإمارة”، واستبدل الجولاني عمامته وزيه العسكري ببدلة رسمية وخطاب وطني.
وفي عام 2022، بدأ الجولاني بعقد لقاءات مع أعيان الدروز، وتمكن المسيحيون من العودة إلى ممارسة شعائرهم لأول مرة منذ سنوات. وفي العام الماضي، حثت هيئة تحرير الشام المسيحيين والدروز على العودة إلى إدلب لاستعادة ممتلكاتهم، التي تم الاستيلاء عليها، وفعلاً استعادت عائلة كرم أملاكها في نهاية العام الماضي.
إقرأ المزيد: الأقليات في إدلب ورقة بيد “تحرير الشام” لتبييض سجل طويل من الانتهاكات (خريطة)
وقال آرون زيلين، الباحث المتخصص في شؤون الجماعات الجهادية والباحث الزائر في جامعة برانديز، أن هيئة تحرير الشام تسعى إلى أن “تكون شرعية” في نظر المجتمع الدولي وحاضنتها الشعبية.
وأكد زيلين على أن التغيير في موقف التنظيم تجاه الأقليات حديث نسبياً، خلال العامين الماضيين، وأن السوابق التاريخية تظهر أن مثل هذه السياسات يمكن أن تنقلب، مستشهداً بالقول: “لقد ادعت جماعات مختلفة في البداية أنها ستكون منفتحة ثم تراجعت عن ذلك، سواء كان ذلك مع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 أو في الآونة الأخيرة مع طالبان”.
تختلف حلب عن إدلب، التي حكمتها الهيئة لأكثر من عقد من الزمن، بحسب زيلين، مشيراً إلى أن حلب تضم عدداً أكبر من الأقليات، لذا قد يكون هناك “سيناريو جديد لهيئة تحرير الشام وحكومتها”كما توقع زيلين، مشيراً إلى أنه لا يوجد تمثيل للأقليات في مجلس الشورى التابع حكومة الإنقاذ وإنما مديرية لشؤون الأقليات.
ومع ذلك، يشعر زيلين بالقلق حيال انتهاكات الجيش الوطني السوري، الذي أطلق عملية “فجر الحرية” بالتزامن مع عملية “ردع العدوان”، أكثر من قلقه من الهيئة، التي وصفها بأنها أكثر احترافية وانضباطاً ومركزية.
وبينما هيئة تحرير الشام “مهتمة بمشروع بناء دولة ومؤسسات”، فإن الجيش الوطني “أكثر ارتزاقاً… وطائفية وقومية”، إذ تنشغل قواته في السنوات الأخيرة بشكل رئيسي في قتال قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ذات الغالبية الكردية، بناء على طلب أنقرة، بحسب زيلين.
لذا “إذا رأينا انتهاكات، خاصة ضد الأكراد، فمن المرجح أن تأتي من الجيش الوطني السوري أكثر من هيئة تحرير الشام”، وفقاً لزيلين.
في الوقت الراهن، يعتقد نصر الله أن هيئة تحرير الشام ”مقتنعة“ بإخلاص في ايديولوجيتها الجديدة، بعد أن تعلمت من أخطاء الماضي، مشيراً إلى أنهم “قبل 12 عاماً كانوا ثواراً، بينما الآن يمارسون السياسة”.
وختم قوله: ”ليس كل شيء أبيض وأسود، هناك ألوان رمادية”.