6 دقائق قراءة

داريا “عاصمة البراميل المتفجرة”: أزمة السكن تقف عائقاً أمام العودة

منذ سقوط نظام الأسد، عاد إلى مدينة داريا بريف دمشق نحو 25 ألف شخص، بينما وقف الدمار عائقاً أمام عودة آخرين إلى المدينة، التي بلغ عدد سكانها، قبل 2011، نحو 350 ألف نسمة


30 يناير 2025

داريا- عندما عادت غيداء مطر، 32 عاماً، إلى مدينة داريا بريف دمشق، في 31 كانون الأول/ ديسمبر 2024، الشهر الذي سقط فيه الأسد، شعرت بـ”الذهول” من هول الدمار الذي حلّ بمدينتها، رغم معرفتها بذلك مسبقاً، لكن الواقع أسوأ مما كانت تتوقعه.

“لا تتجاوز نسبة الأبنية الصالحة للسكن 15 بالمئة في أحسن الأحوال، وهي صالحة لكنها ليست بدرجة لائقة أو جيدة”، كما قالت مطر لـ”سوريا على طول”، التي وجدت منزل طفولتها مدمراً، ما اضطرها إلى السكن في منزل آخر مع أمها وأختها (زوجة مفقود) وأبناء أختها.

قبلها بأيام، عاد كمال شحادة، 37 عاماً، رفقة زوجته وأطفاله الثلاثة، إلى مدينة داريا بريف دمشق، رغم حجم الخراب الذي حلّ بمنزله في المدينة المدمرة، لينهي بذلك رحلة نزوح استمرت 12 عاماً في إدلب، شمال غرب سوريا.

عندما أطلقت إدارة العمليات العسكرية عملية “ردع العدوان”، في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، كان شحادة يتابع تطوراتها “لحظة بلحظة”، ومع “تحرير كل منطقة يكبر الأمل [بالعودة] ونتنفس الصعداء”، كما قال لـ”سوريا على طول”.

“أعجز عن وصف شعوري لحظة سقوط النظام، فرحتنا كانت لا توصف، لأن ما حدث أشبه بمعجزة. حتى الآن لا أصدق، يومياً أستيقظ صباحاً وأسأل نفسي: هل عدنا إلى داريا؟ وهل سقط النظام حقاً؟!”، على حد قول شحادة.

كان إعلان سقوط نظام الأسد، في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، لحظة تاريخية لا يمكن نسيانها ولا وصفها، بحسب شحادة، الذي حزم أمتعته بعد “تحرير سوريا”، وكان من أوائل العائدين إلى داريا، التي وصفها مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، ستيفن أوبراين، في حزيران/ يونيو 2016، بأنها “عاصمة البراميل المتفجرة”، إذ استهدف نظام الأسد البائد أحياءها، بين 8 و16 من ذاك الشهر، بـ 309 براميل متفجرة.

دفعت مدينة داريا ثمناً باهظاً جراء موقفها المناهض لنظام بشار الأسد، وهي من أوائل المدن التي انتفضت ضده عندما خرجت أول مظاهرة فيها في 25 آذار/ مارس 2011، أي بعد أيام من اندلاع الثورة السورية. تحولت المدينة بين عامي 2012 و2016 إلى خراب، حيث “خسرت نحو 80 بالمئة من أبنيتها السكنية”، كما قال عامر أحمد خشيني، عضو الإدارة المدنية في داريا لـ”سوريا على طول”.

“بعض المناطق دُمرت بالكامل، مثل حي الخليج الذي كان يقطنه نحو عشرة آلاف عائلة، ومنطقة الجمعيات التي كان يقطنها أكثر من 15 ألف نسمة، فيما بلغت نسبة الدمار بنحو 70 بالمئة في الحارة القبلية”، بحسب خشيني، لافتاً إلى أن الأحياء التي لم تتعرض للتدمير “قليلة”، ناهيك عن أنها “تعرضت لعمليات سرقة ونهب ممنهج وعشوائي”.

وقد شهدت داريا، في آب/ أغسطس 2012، واحدة من أكبر المجازر على يد النظام، راح ضحيتها أكثر من 700 شخص، تم توثيق 514 شخصاً منهم بالاسم، بينهم 36 امرأة و63 طفلاً على الأقل، في حين لم يتم التعرف على الجثث المتبقية، بحسب تقرير استقصائي نشره “المجلس السوري البريطاني”.

مع رغبة العديد من أهالي داريا المهجرين بالعودة إلى ديارهم، يقف الدمار عائقاً أمامهم، خاصة أن الأبنية المدمرة كلياً “تحتاج إلى خطة إعادة إعمار”، بينما المدمرة جزئياً “تحتاج إلى عمليات ترميم كبيرة حتى تكون صالحة للسكن مجدداً”، وفقاً لخشيني.

امرأة من داريا تتفقد منزلها الذي تعرض لتدمير جزئي بسبب قصف سابق، 15/ 01/ 2025، (عبد المجيد القرح/ سوريا على طول)

امرأة من داريا تتفقد منزلها الذي تعرض لتدمير جزئي بسبب قصف سابق للنظام، 15/ 01/ 2025، (عبد المجيد القرح/ سوريا على طول)

تفاقم أزمة السكن

في أعقاب سقوط الأسد، عاد العديد من المهجرين في شمال غرب سوريا إلى مدنهم وبلداتهم بغرض زيارتها أو الاستقرار فيها، لكنهم شعروا بـ”الصدمة”، كون رحيل الأسد لا يكفي لعودتهم إلى منازلهم بسبب حجم الدمار الكبير، كما هو الحال في حمص وأحياء حلب الشرقية والعديد من بلدات غوطة دمشق، بما فيها مدينة داريا.

حالياً، ارتفع عدد سكان داريا من 100 ألف نسمة إلى 125 ألف نسمة، بحسب أرقام شاركها خشيني مع “سوريا على طول”، ما أدى إلى “زيادة الضغط على البنية التحتية وخلق أزمة سكن خانقة”، علماً أن عدد سكان المدينة قبل 2011 كان ثلاثة أضعاف العدد الحالي.

كانت المدينة تعاني أصلاً من أزمة سكن في السنوات الماضية، بسبب حجم الدمار، لكن “المشكلة تفاقمت وصارت أكثر تعقيداً” بعد سقوط النظام “وعودة العائلات إليها”، لدرجة أنه “لم تعد هناك منازل متاحة للإيجار”، بحسب خشيني.

منذ عودته إلى داريا، يتنقل كمال شحادة وعائلته بين منازل أقاربه وأصدقائه “رغم أن ظروفهم مأساوية”، لكن لا خيارات أمامه لأن يقف عاجزاً أمام إعادة بناء منزله المدمر، ولا قدرة لديه لاستئجار منزل “بسبب قلة البيوت المعروضة وارتفاع الإيجارات”، كما قال.

تتراوح إيجارات المنازل في داريا بين مليون ومليوني ليرة سورية (بين 90 و180 دولار أميركي، بحسب سعر الصرف في السوق السوداء)، وهو مبلغ لا يمكن لشحادة تأمينه، لأنه لا يملك مصدر دخل حالياً، كما قال.

يفكر شحادة أحياناً بالعودة إلى إدلب “الحضن الدافئ خلال سنوات التهجير”، نتيجة “الظروف المعيشية السيئة في داريا، وغلاء الأسعار، وعدم توفر السكن وإن وُجد لا تتوفر التدفئة”، على حدّ قوله، ولكنه سرعان ما يعدل عن قراره “ففي داريا أهلنا، ويجب أن نحاول بشتى الوسائل البقاء فيها”.

بعودة المهجرين إلى المدينة، وجد عمار فايز، 32 عاماً، مضطراً إلى البحث عن منزل آخر، بعد أن “عاد صاحب المنزل، قبل أيام، من إحدى الدول العربية وطالبني بإخلائه”، كما قال لـ”سوريا على طول”.

كان فايز يدفع لصاحب المنزل 250 ألف ليرة سورية شهرياً (22 دولاراً بحسب سعر الصرف الحالي)، بينما حالياً لا يجد منزلاً بأقل من أربعة أضعاف الأجرة السابقة، وهو مبلغ لا يمكنه تأمينه، على حد قوله.

نزح فايز، وهو أب لطفلة، في الفترة التي ارتكب النظام بها مجزرة بحق أبناء مدينته عام 2012، وعاد إليها عام 2020 ليجد منزله المؤلف من طابقين مدمراً بشكل شبه كامل، ولأن تكلفة إعادة ترميمه “تفوق 20 ألف دولار أميركي”، وهو مبلغ لا يمكن لعامل في مجال التمديدات الصحية تأمينه، لذا استأجر المنزل الذي يتعين عليه إخلاؤه الآن.

مع فرحته بسقوط النظام وعودة الناس إلى داريا، لم يخف فايز استياءه من “الأوضاع الصعبة في المدينة، وعدم وجود منازل للسكن” في وقت “تشهد عودة الكثير من المهجرين، الذين لا يجدون منازل يقيمون فيها”، وفقاً له.

وإضافة إلى أزمة السكن، تعاني داريا من “سوء الخدمات، خاصة قطاع الصحة والمياه والكهرباء والإنترنت”، بحسب خشيني، عضو الإدارة المدنية في داريا، وهو دفع “العديد من العائلات إلى التريث وعدم العودة حتى الآن”.

غياب الحلول الإسعافية

بعد سقوط النظام، عملت الإدارة المدنية في داريا على إحصاء المنازل المدمرة كلياً أو جزئياً، ورفعت الأرقام إلى محافظة ريف دمشق، منتظرين أن “تتوضح الصورة الكاملة حول دور الحكومة الجديدة” في ملف إعادة الإعمار، بحسب خشيني.

وقال خشيني أن دور الإدارة المدنية حالياً “يقتصر على إجراء الإحصاء ورفعها للحكومة”، لا يوجد أي “حلول إسعافية” يمكن تقديمها للعائدين إلى داريا، المدينة التي كان يقطنها نحو 350 ألف نسمة، بينما “لا يمكنها أن تستوعب في أحسن الأحوال حتى بعد ترميم المباني المدمرة جزئياً أكثر من 200 ألف”، وفقاً له.

في هذا السياق، قال أكثر من مصدر محلي لـ”سوريا على طول” أن إدارة المدنية في داريا بالتنسيق مع قيادة “ردع العدوان” أسكنت العديد من أهالي داريا -بشكل مؤقت- في مساكن “سرايا الصراع” الواقعة بين معضمية الشام وجديدة عرطوز، بعد أن كانت تسكنها عائلات ضباط في جيش النظام البائد، وهي أراض استملكها النظام السابق من أصحابها. ومع ذلك، لا يمكن لهذه الخطوة أن تحلّ أزمة السكن في داريا، عدا عن أنها قد تؤدي إلى تداعيات من نوع آخر.

يتمثل الحل بالنسبة لعمار فايز في تحسين الخدمات في مدينته وزيادة فرص العمل فيها، ويكون ذلك عبر “تحريك عجلة إعادة الإعمار”. يتفق كمال شحادة مع ذلك، قائلاً: “أتمنى من الدول العربية والمجتمع الدولي أن تكون سنداً لهذا البلد وأن يسهموا في إعادة إعماره من خلال دعم الاستثمارات وتأسيس المعامل”.

وفي الوقت الذي يتعين على السوريين “التعاون والتكاتف من أجل بناء البلد”، يجب أن يعمل المجتمع الدولي على “رفع العقوبات الاقتصادية”، لأن رفعها يسهم في تحريك عجلة الاقتصاد “ويساعد الناس على تأمين احتياجاتهم الأساسية”، بحسب شحادة.

ربما تسهم عملية إعادة الإعمار في دعم استقرار المدن المدمرة وعودة المهجرين إليها، ولكن لا يمكن تعويض الجانب المعنوي والنفسي للمتضررين من “إجرام النظام على مدى السنوات الماضية”، بحسب غيداء مطر، التي استذكرت حديقة منزلها حيث “جمعات العائلة وأفراحها، ولكل غرفة قصة وحكاية”.

وختمت حديثها: “بنى والدي منزلنا بيديه كونه متعهد بناء، ومات في لبنان قبل أن يعود إلى داريا ويعيد بناء البيت بنفسه”.

شارك هذا المقال