6 دقائق قراءة

رياضيو سوريا من ذوي الاحتياجات الخاصة: ملهمون رغم إعاقتهم

الإعاقة هي "إعاقة العقل وليس الجسد"، كما شدد الرياضي إبراهيم حسين. "لكن نظرة المجتمع الشرقي لمبتور الأطراف على أنه عاجز، وعدم تركه يمارس حياته الطبيعية، هو بحد ذاته قتل للروح قبل الجسد".


7 ديسمبر 2020

عمان – كان الثاني من كانون الأول/ ديسمبر 2012 نقطة تحول في حياة الرياضي السوري إبراهيم حسين. إذ تم بتر قدمه اليمنى من أسفل الركبة بعد تهشمها إثر سقوط قذيفة في أحد أحياء مدينة دير الزور، شرق سوريا، أثناء محاولته إسعاف صديقه المصاب بطلقة قناص. وهو ما أدى أيضا إلى فقدانه مفصل كاحل قدمه الأيسر السفلي، وإصابته بخمسة كسور في الأنف.

الحسين، المولود في العام 1988، نشأ في عائلة رياضية معروفة، إذ إن “والدي محمد الحسين مدرب السباحة في نادي اليقظة بدير الزور، وهو من درّبني على السباحة ورياضة الجودو مذ كنت طفلا. كما ساعدني على المشاركة بعدة بطولات محلية في سوريا”.

وكما روى لـ”سوريا على طول”، قضى الحسين ثلاثة أشهر بعد بتر قدمه في دير الزور، كانت تعادل ثلاثمائة سنة لقساوتها، نتيجة افتقار المدينة لأدنى مقومات الحياة، إثر محاصرة [قوات] النظام السوري لها، واستهدافها بالمدفعية بسبب سيطرة الجيش الحر عليها آنذاك”. مضيفاً: “تعد تلك الفترة أسوأ أيام حياتي، لما عانيته من آلام الإصابة بسبب سوء الخدمات الصحية هناك، وندرة الغذاء الصحي الذي كنت في أمس الحاجة إليه”.

وقدر تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية في العام 2017، إصابة 1.5 مليون سوري بإعاقة دائمة منذ العام 2011، منهم 86 ألف شخص أفضت إصابتهم إلى بتر أطرافهم. فيما قدر تقرير آخر صادر نهاية العام الحالي عن برنامج الأمم المتحدة لتقييم الاحتياجات الإنسانية معاناة 37% من المهجرين السوريين من إعاقة جسدية 

أما على صعيد الرياضيين، فوثق المكتب الإعلامي في الهيئة السورية للرياضة والشباب التابعة للحكومة السورية المؤقتة، إصابة 50 رياضياً بإعاقات دائمة منذ اندلاع الثورة السورية العام 2011 وحتى نهاية العام 2018، بحسب ما قال لـ”سوريا على طول”، مدير المكتب الإعلامي في الهيئة، عروة قنواتي. لافتاً إلى أن “أعدادهم الحالية تفوق ذلك بكثير، لكننا نعاني صعوبة الوصول إلى عناوينهم داخل سوريا وخارجها”. 

السعي إلى النجاة

معاناة الحسين كانت سبباً رئيساً في دفعه إلى المخاطرة بحياته مرتين، ركب فيهما البحر عبر طرق التهريب، أملاً في “واقع أفضل، أستطيع من خلاله الحصول على علاج يخفف ألمي، وقدم اصطناعية تعينني على المشي. فكانت رحلتي الأولى من مدينة دير الزور إلى تركيا، والثانية من تركيا إلى اليونان”.

الرحلة الأولى في العام 2013 كانت “الموحشة” على حد وصفه؛ فقد “استغرقت منا ليال ونحن نصارع الأمواج والخوف أيضا من أي كمين لنا، منطلقين عبر نهر الفرات من دير الزور إلى ريفها في قارب صغير يقوده أحد المهربين قاصدين تركيا”.

بعد الوصول إلى تركيا “بأعجوبة”، كما روى، تم وضعه من قبل إحدى المنظمات في منزل صغير يشاركه فيه عشرة أشخاص جميعهم من السوريين مبتوري الأطراف، الخارجين بهدف العلاج. و”كان بعض العائلات التركية في ذلك الوقت تقدم لنا الطعام رأفة بحالنا، لكن ليس بشكل يومي، ما كان يضطرنا للتعاون فيما بيننا لتحضير وجبة نأكلها مما كان يأتينا من أهل الخير من معلبات وغيرها”.

خروج الحسين إلى تركيا كان بهدف العلاج، وهو ما لم يتحقق؛ إذ “لم تقدم المنظمات التركية هناك العلاج الصحي المطلوب لترميم قدمي اليسرى وعلاج جراحاتي الملتهبة، بل اكتفت بتقديم الأدوية المسكنة لي”، كما قال.

ومن ثم، قرر في العام 2014، خوض رحلته الثانية في البحر، قاصداً اليونان عبر قوارب المهربين؛ “فلم أكن أخشى الموت غرقا في البحر، لأني كنت أعيشه بخسارتي لأطرافي وأنا حي”.

ويعتقد الحسين أنه كان “محظوظاً” بوصوله إلى جزيرة ساموس اليونانية من المحاولة الأولى، بحيث يعتبر أن “تاريخ وصولي إلى اليونان في السابع والعشرين من شباط/ فبراير 2014، هو يوم ميلادي؛ إنه بمثابة ولادة جديدة لي”.

من المعاناة إلى الإلهام

بعد 18 يوماً على جزيرة ساموس، تسلّم الحسين بطاقة تسمح له بالمغادرة مدة ستة أشهر. لكن “لم أكن أملك مالاً حينها لأصل العاصمة أثينا عبر الباخرة”، كما ذكر، “فساعدني أحد الأشخاص بثمن التذكرة”. ورغم أنه أمضى أسبوعين قرب سفح جبل في أثينا يقتات “على أوراق الشجر والعشب”، إلا أنه كان “مستعداً أن أموت في ذاك السفح على أن أعود أدراجي”.

ثم وبمحض الصدفة، تعرف الحسين إلى فتاة يونانية تتحدث العربية، كانت سبباً في “تغيير حياتي” على حد وصفه؛ إذ “تكفلت بعلاجي لدى طبيب يدير مركزاً للأطراف الصناعية، وأيضاً بإقامتي في أحد فنادق أثينا، ريثما أحصل على حقي في اللجوء، وكان لها الفضل في وضعي على أول طريق حلمي الرياضي. فرغم أنني لم أستطع الحصول على أوراقي الرياضية من سوريا، فقد ساعدتني في التواصل مع أندية يونانية كي أنضم إليها”.

بعد إتمام علاجه، كان على الحسين البحث عن عمل “كي لا أكون عالة على أحد”. فعمل “بتنظيف الحمّامات في مقهى بأثينا، كوني لا أتكلم اليونانية، ومن خلال عملي استطعت شيئاً فشيئاً أن أستأجر منزلاً وأبدأ بتأثيثه”. وبالتزامن مع ذلك، “وافق ناديان على انضمامي لهما؛ أحدهما للسباحة والآخر لكرة السلة، فبدأت أتمرن بشكل يومي إلى جانب عملي”.

بعد مضي ستة أشهر من التمارين، تم ترشيح الحسين للمشاركة في بطولة الجمهورية اليونانية للسباحة في سباقين، حقق فيهما المركز الأول. وكان هذا الفوز “سبباً في تشكيل اللجنة البارالمبية [الخاصة بالرياضيين ذوي الإعاقة] فريق اللاجئين البارالمبي، وكنت أول لاجئ يحمل الشعلة الأولمبية، ويقود فريق اللاجئين إلى البطولة البارالمبية العام 2016”. فيما يستعد حالياً “للمشاركة في البطولة العالمية للسباحة في طوكيو العام 2021، بعد حصولي على المركز الأول في بطولات لندن العام 2019، والبطولة الأولمبية للسباحة في المكسيك ومن ثم إيرلندا العام 2018، والبطولة العالمية في برلين العام 2017”.

إنجاز ملهم مماثل، لكن في داخل سوريا، كان بطله مأمون عبد اللطيف الذي تسببت إصابته بشلل الأطفال بإعاقة حركية في طرفه الأيسر السفلي.

إصابة عبد اللطيف، المولود في مدينة الأتارب بريف حلب العام 1978، كانت سبباً في “عزلي عن أصدقائي في دروس الرياضة المدرسية والتربية العسكرية”، كما روى لـ”سوريا على طول”، إذ “كان المدرب يطلب مني الجلوس في زاوية بعيدة في ساحة المدرسة، والاكتفاء بالنظر إلى أصدقائي وهم يلعبون”. واصفاً تلك اللحظات بـ”القاسية جداً، بسبب نظرتهم الدونية لي”.

لكن هذه المعاناة ذاتها سبباً مشجعاً لدخول عبد اللطيف عالم الرياضة. ولأن رياضة كرة الطاولة “تناسب وضع إعاقتي”، كما قال، فقد “بدأت بممارستها في أندية حلب الرياضية، إلى جانب دراستي لتخصص الحقوق في جامعة حلب. وهو ما أهّلني للانتساب لمنتخب حلب للرياضات الخاصة، والمشاركة ببطولة الجمهورية عدة مرات، حققت في إحداها المركز الأول العام 2009/ 2010”.

شغف عبد اللطيف، الأب لأربعة أطفال، بالرياضة لم يتوقف بعد انضمامه للثورة السورية، وانقطاعه عن منتخب النظام. إذ “أسست العام 2013، برفقة أصدقاء رياضيين منشقين عن النظام، الاتحاد السوري للرياضات الخاصة” الذي صار يتبع لاحقاً الهيئة السورية للرياضة والشباب. وهو لا يضم الرياضيين فقط، بل أيضا “نحو 300 مدني مبتوري الأطراف وجدوا في الرياضة متنفساً لهم، تحول بعضهم إلى رياضيين أبطال بعد أن دربناهم، وأحرزوا مراكز أولى ضمن البطولات المحلية التي كنا نقيمها في المحرر [المناطق الخارجة عن سيطرة نظام بشار الأسد]”.

وتضم البطولات الذي نظمها الاتحاد في مناطق شمال سوريا الخاضعة للمعارضة، “رفع الأثقال، وسباق الكراسي المتحركة، وكرة الجرس للمكفوفين، وكرة القدم لمبتوري الطرف السفلي، والسباحة”، وفقاً لعبد اللطيف، “كلها تتم في ساحات المدارس أو بالتنسيق مع صالات رياضية خاصة لاستعارتها مجاناً”. لافتاً في هذا السياق إلى أنه رغم وجود جسمين رياضيين في مناطق المعارضة، هما المديرية العامة للرياضة والشباب التي تأسست العام 2017، والهيئة السورية للرياضة والشباب التي تأسست العام 2013، وتتبعان للحكومة السورية المؤقتة، فإن كليهما “ليس لديهما الإمكانات المطلوبة لدعم الرياضيين والرياضات”، بحيث “يقتصر الدعم الحالي على بعض التجمعات المدنية على الصعيد المحلي”. 

مناعة نفسية مجتمعية 

الإعاقة هي “إعاقة العقل وليس الجسد”، كما شدد الحسين. “لكن نظرة المجتمع الشرقي لمبتور الأطراف على أنه عاجز، وعدم تركه يمارس حياته الطبيعية، هو بحد ذاته قتل للروح قبل الجسد”. مشيراً إلى أنه من وحي تجربته بالعيش في أوروبا، فإن “المجتمع الغربي يعامل الرياضي من ذوي الاحتياجات الخاصة كأي شخص سليم”.

إذ يتمرن الحسين حالياً مع فريق سباحة يوناني، واصفاً معاملتهم بـ”الإنسانية؛، يتعاملون معي وكأني سليم الأطراف، اجتماعياً ورياضياً، وبذلك أرى كيف أنهم يعززون ثقتي بنفسي”.

في المقابل، رأى عبد اللطيف أن نظرة المجتمع لمبتوري الأطراف عموماً “تغيرت في الشمال السوري، نتيجة تضاعف أعداد المعاقين بشكل كبير خلال الثورة السورية؛ إذ لا توجد عائلة إلا وفيها معاق، فأصبحت النظرة للمعاق على أنه فقد قطعة من جسده وهو يدافع عن بلده وأهله”. وليكون “أسوأ ما يعانيه المعاق حركياً في المناطق المحررة، هو عدم قدرته على التنقل في لحظات القصف الشديد”. ويتضافر ذلك في حالة المعاقين الرياضيين، مع “عدم حصولهم على الدعم الكافي”، متهماً عبد اللطيف منظمات بسرقة “المبالغ المخصصة للأنشطة الرياضية”، بحيث لا يصل شيء منها للمستفيدين، وهو “ما شهدته بنفسي”.

في هذا السياق، شددت الأخصائية النفسية السورية المقيمة في الأردن رهف محي الدين على أن أهم أسباب إبداع أصحاب الإعاقات الحركية في مجالاتهم “المناعة النفسية القوية”. لافتة إلى اختلاف هذه المناعة “من شخص لآخر، بحسب البيئة التي ينشأ فيها الشخص إن كانت داعمة أو محبطة، والتي تؤثر حتماً في البناء النموذجي لأفكاره وتحليلها”. كما إن “الأشخاص الرياضيين يمتلكون تلك المناعة بدرجة أكبر من غيرهم، لأن الرياضة بحد ذاتها تحتاج إلى مثابرة وإرادة وثبات. وهذه الصفات تجعل المناعة النفسية لدى الشخص أكبر وأقوى، وتحفّزه دائماً ليكون فرداً منتجاً وفعالاً في المجتمع”.

وكون “البيئة الداعمة لوجستياً وبشرياً ونفسياً لفئة المعاقين في البلدان العربية تكاد تكون معدومة” وفقاً لمحي الدين، فإن ذلك “يفسر محاولات عبد اللطيف تأسيس اتحاد رياضي حقق من خلاله حلمه بطريقة ما، من دون أن يحصل على دعم حكومي لمشروعه، بينما استطاع الحسين الوصول لحلمه في العالمية، برغم الانتكاسات التي تعرض لها، نتيجة دعم المجتمع الغربي له ككيان رياضي بغض النظر عن إعاقته”.

مع ذلك، ما يزال عبد اللطيف يطمح في حصول “فرقنا الرياضية في الداخل على فرصة للمشاركة ببطولات عالمية خارج سوريا، وأنا متأكد من أنهم سيحرزون مراكز متقدمة على مستوى العرب وآسيا”.

شارك هذا المقال