سوريون يغادرون لبنان عبر “قوارب الموت” وسط انشغال الرأي العام بجنوبه
استمرار تدهور الأوضاع في لبنان يدفع بأعداد متزايدة من السوريين إلى شق طريقهم بحراً للوصول إلى أوروبا، مستغلين انشغال العالم بالعنف المتصاعد في جنوب لبنان. تضاعف عدد السوريين الذين غادروا من الشمال خلال الشهرين الماضيين أكثر من أربعة مرات مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2022.
14 ديسمبر 2023
بيروت، طرابلس- بينما كان يدخن سيجارته في أحد مقاهي بيروت، اتصل صلاح أبرش، 22 عاماً، بصديقه فراس الذي وصل إلى ألمانيا في أيلول/ سبتمبر، وبعد أن أنهى اتصاله أسند ظهره إلى الكرسي مبتسماً، وقال: “سوف تتلقى المساعدة في ألمانيا ليس كما هو الحال في لبنان”.
في تموز/ يوليو، دفع فراس، وهو سوري الجنسية مثل صلاح، مبلغ ثمانية آلاف دولار أميركي لمهرب، لقاء نقله بحراً من لبنان إلى تونس، ومنها عبر قارب، في رحلة لمدة 22 ساعة، إلى إيطاليا، وانتهى به المطاف في ألمانيا في رحلة استمرت لشهر عبر سويسرا.
استقر فراس في مدينة كولونيا غرب ألمانيا، ويسير الآن في إجراءات طلب اللجوء. بعد سماع صلاح قصة نجاح صديقه، صار تواقاً لخوض رحلة مماثلة.
لم يعد صلاح يحتمل حياته في لبنان، الذي وصله عندما كان طفلاً، قادماً من مسقط رأسه في حلب عام 2009، أي قبل اندلاع الثورة السوري، وبقي فيه بعد تردي الأوضاع في سوريا. بعد عام 2011، توافد 1.5 مليون لاجئ سوري إلى لبنان، وشيئاً فشيئاً ساءت ظروف الحياة فيه، وعاد معظم أفراد عائلة صلاح إلى سوريا، لكنه لم يرافقهم خشية العقوبة لتهربه من الخدمة العسكرية الإلزامية، وحالياً صارت خياراته محدودة وفيها مخاطرة.
“تزداد الأمور خطراً على السوريين في لبنان، نحن مُكرهون هنا”، قال صلاح، وهو يمد يديه ليلامس أعلى رأسه، ممرراً أصابعه على كتلة كبيرة متورمة فيه. في 10 تشرين الثاني/نوفمبر، اقترب مسلحون لبنانيون من صلاح وطالبوه بإعطائهم دراجته النارية، وعندما رفض اعتدى عليه أحدهم، وضربه بقضيب معدني غليظ، ما تسبب بإصابته في رأسه ونزيف في دماغه كاد أن يودي بحياته.
تظهر صورة الإصابة، التي قدمها صلاح لـ”سوريا على طول” جرحاً كبيراً في الجزء العلوي من رأسه. عند إسعافه إلى المستشفى، أخبره الأطباء بضرورة مبيته ليلة في المستشفى، لكن هذا يترتب عليه دفع 1,500 دولار، لأنه من دون تأمين، لذلك طلب إخراجه بعد بضع ساعات، فلا خيار أمامه سوى التعافي في المنزل.
يتصاعد العنف ضد اللاجئين السوريين في لبنان، تؤججه الحملات الإعلامية التحريضية للسياسيين، الذين يُحملون السوريين مسؤولية الأزمة الاقتصادية في بلادهم. وبالتزامن مع ذلك، يقوم الجيش اللبناني بحملة ترحيل واعتقال غير مسبوقة للاجئين السوريين.
لم يفكر صلاح رفع دعوى ضد المهاجمين الذين تعرضوا له، لأن تصريح إقامته منتهٍ، وفي حال الذهاب إلى مخفر الشرطة سيكون مصيره الترحيل “بالتأكيد”، وهو ما لا يريد أن يخاطر به.
قبل شهر من الاعتداء عليه، أقيل صلاح وخمسة من زملائه السوريين من وظائفهم في إحدى متاجر “سبنيس”، في الأشرفية، من الأحياء المترفة في بيروت، بسبب إغلاق المتجر كما قيل له، ولكن عندما عاد لأخذ راتبه وجد المتجر مفتوحاً ويقدم الخدمة لزبائنه من دون وجود موظفين سوريين.
وصل صلاح إلى يقين بأنه سيغاد لبنان، لأنه “ليس عندي خيار آخر”، بحسب قوله، بعد أن “تأكدت مئة بالمئة عدم وجود مستقبل لي هنا. لن يكون لي أطفال، لن أتزوج. لن أستطيع أن أفعل شيئاً”.
الأنظار متجهة إلى الجنوب
في ظل تصاعد الضغوط على اللاجئين السوريين في لبنان، وتوجه العيون كلها إلى العنف المتزايد بين حزب الله وإسرائيل في جنوب البلاد، يخاطر عدد كبير من السوريين بعبور البحر قاصدين أوروبا انطلاقاً من شواطئ لبنان شمالاً.
خلال شهرين بعد اندلاع الحرب في غزة، غادر من لبنان، بحراً، أعداد أكبر بكثير من الذين غادروا في الفترة نفسها العام الماضي، بحسب بيانات موثقة قدمتها المتحدثة باسم مفوضية شؤون اللاجئين في لبنان ليزا أبو خالد لـ”سوريا على طول”، الغالبية العظمى منهم سوريين.
في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وثقت المفوضية إقلاع تسعة قوارب تحمل على متنها 598 مسافراً، وصل منها سبعة مراكب إلى شواطئ قبرص، جارة لبنان في البحر الأبيض المتوسط، بينما في الشهر ذاته من عام 2022، تم توثيق قاربين فقط على متنهما 67 مسافراً لم تكن قبرص وجهة أي منهما.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الحالي، أقلعت ثمانية قوارب من لبنان على متنها 327 مسافراً. وصل ثلاثة منهما وعاد أربعة. بينما أقلت أربعة قوارب فقط في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي، تحمل على متنها 137، وصل قارب واحد منها إلى قبرص.
“مع تركيز الجميع على غزة، كان من المرجح أن تزداد أعداد القوارب التي تغادر لبنان”، بحسب إبراهيم جوهري، باحث في مجال الهجرة شارك في تأليف الورقة البحثية، التي أصدرتها مؤسسة فريدريش ناومان في 2023 ، قائلاً: “لا قدرة لأحد على التركيز على هذا الأمر في وقت يحترق فيه الجنوب”.
قبل تفاقم الأزمة الاقتصادية في لبنان، عام 2019، قلة فقط من الناس حاولوا الهجرة من لبنان بحراً. ولكن منذ ذلك الحين، كان هناك “ارتفاعاً كبيراً سنوياً في أعداد كل من السفن والأفراد الذين يحاولون الهجرة من شواطئ لبنان”، بحسب الورقة البحثية.
في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر، مع احتدام الحرب في غزة واستمرار التصعيد بين حزب الله وإسرائيل في جنوب لبنان، أعلنت السلطات القبرصية استنفارها لتوافد عدد أكبر من طالبي اللجوء من لبنان. وجاء هذا الإعلان عقب استقبالها قوارب من لبنان تحمل على متنها 458 مسافراً سورياً خلال أسبوعٍ واحد.
وذكرت إليزابيث كاسيناس، مديرة منظمة كاريتاس لـ”سوريا على طول” أنَّ الأرقام التي أعلنت عنها السلطات تشير إلى أن أعداد السوريين الواصلين إلى قبرص “تضاعف تقريباً” منذ بداية تشرين الأول/ أكتوبر.
تلقت السلطات القبرصية 761 طلب لجوء مقدم من مواطنين سوريين في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، مقارنة بـ 370 طلب في الشهر نفسه من عام 2022، وفقًا للأرقام المرسلة من مفوضية شؤون اللاجئين في قبرص لـ”سوريا على طول”. في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، تلقت السلطات القبرصية 1125 طلب لجوء جديد من سوريين أيضاً.
مخاطر البحر
قبل عام، حاول إبراهيم العلون، 23 عاماً، الذي ينحدر من محافظة إدلب في شمال غرب سوريا، مغادرة لبنان بالقارب. غادرت زوجته غيداء وابنهما ذو الخمسة أشهر من ساحل لبنان الشمالي، في أواخر كانون الأول/ ديسمبر 2022، على أمل الوصول إلى إيطاليا والتوجه إلى ألمانيا، كما قال لـ”سوريا على طول” من مكان إقامته في طرابلس.
كان إبراهيم وعائلته من ضمن 4,334 شخص حاول الشروع بالهجرة غير الشرعية، عبر القارب، من شواطئ لبنان في عام 2022، بزيادة 176% عن 1,570 قاموا بمحاولات مشابهة في عام 2021. في عام 2023، بقيت الأرقام مرتفعة، إذ حاول 3,158 شخصاً الهجرة بالقارب حتى تشرين الثاني/ نوفمبر، وفقًا لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان.
“يؤثر الانهيار الاقتصادي المستمر على اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين”، بحسب جوهري، مضيفاً “أثارت حملة القمع ضد السوريين مخاوفهم، لذلك من المرجح أن يفكر المزيد منهم مغادرة لبنان عبر القوارب”.
ارتفع عدد السوريين الذين يصلون إلى أوروبا عبر اليونان أو قبرص بنسبة 40% في عام 2023، وفق تحليل جوهري لبيانات فرونتكس حتى تشرين الأول/ أكتوبر. لا تشير الأرقام إلى نقاط المغادرة، لنه أشار إلى أن معظم المهاجرين الذين يسلكون هذا المسار يغادرون من لبنان أو سوريا. وفي ظل تشديد الدوريات الروسية رقابتها على الشواطئ السورية المحيطة بقاعدتها البحرية في طرطوس فإن “المؤشرات تشير إلى أن الانطلاق من الشواطئ الشمالية للبنان”.
في العام الماضي، شرع العلون وعائلته في مسار مختلف، يفضي مباشرة إلى إيطاليا لتجنب دوريات الشرطة القبرصية، التي تتصدى للمهاجرين. في عام 2020، وقعت قبرص ولبنان اتفاقاً بخصوص الهجرة، يمكن لقبرص بموجبه إعادة المهاجرين إلى لبنان. في آب/ أغسطس 2022 وحده، أعادت قبرص أكثر من 100 سوري وصلوا بالقارب دون تقييم أوضاعهم إن كانوا مؤهلين للحماية القانونية أم لا.
دفع إبراهيم مبلغاً باهظاً، مقداره 12,000 دولار، وهي تكاليف سفره رفقة زوجته وطفله الرضيع، وأعطى المال للمهرب قبل موعد الإقلاع. كان من المقرر أن يغادروا في تموز/ يوليو، غير أنَّ الرحلة تأجلت إلى 31 كانون الأول/ ديسمبر، حيث العواصف الشتوية تجعل الأمواج أعتى مما هي عليه في أشهر الصيف.
عندما وصل العلون وعائلته إلى الميناء في دير عمار، على بعد نحو 10 كيلومترات شمال ميناء طرابلس الرئيسي، كان الجو “ماطراً وعاصفاً” والمركب -الذي كان يفترض أن يكون سفينة كبيرة تتحمل رحلة طويلة- كان عبارة عن قارب صيد بسيط.
“تركب، أو نقتلك” قال المهرب لإبراهيم عندما أعرب عن تردده بالصعود. غالباً ما تكون القوارب التي تغادر من لبنان صغيرة جداً، وغير مناسبة للرحلات البحرية الطويلة.
بعد ثمانية ساعات داخله، انقلب القارب في عرض البحر. قبل شهرين، غرق 100 طالب لجوء في حادث مماثل، عندما انقلب قاربهم بعد إقلاعه من لبنان باتجاه إيطاليا.
انقلاب قارب في عرض البحر الأبيض المتوسط الهائج 01/ 01/ 2023 (القوات المسلحة اللبنانية/ منظمة العفو الدولية)
في نيسان/ أبريل من العام ذاته، لقي 47 شخصاً حتفهم، عندما اعترض زورق تابع للقوات البحرية اللبنانية طريق قاربهم المتوجه إلى قبرص، بحسب أقوال الناجين، وتسبب بإغراقه فيما يبدو أنها المحاولة الأولى القاتلة لعبور 131 ميلاً بحرياً (200 كيلومتر) بين طرابلس وقبرص.
اقرأ المزيد: الإبحار إلى الموت: قصة ناجٍ من حادثة غرق طرابلس شمال لبنان
عندما غرق قارب إبراهيم في الأول من كانون الأول/ ديسمبر، ماتت امرأة سورية وطفل، فيما أنقذت قوات البحرية اللبنانية 232 شخصاً كانوا على متنه، وهم من الجنسيات السورية واللبنانية والفلسطينية. عندما أدرك المسافرون على القارب أنهم سيُعادون إلى لبنان “أرادوا إلقاء أنفسهم في البحر”، بحسب العلون.
الترحيل إلى سوريا
بعد نجاتهم من الغرق، نقل الجيش اللبناني إبراهيم وزوجته وابنه إلى جانب 200 سورياً، إلى الحدود السورية عبر الشاحنات.
قالت منظمة العفو الدولية آنذاك أن إعادة الجيش لهذه المجموعة من السوريين قسراً، و بعضهم مسجل لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، تنتهك التزامات لبنان بعدم الإعادة القسرية، التي يتعهد فيها عدم إعادة أي أحد إلى البلدان التي يواجهون فيها خطر الاضطهاد أو غيرها من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وهي ليست المرة الوحيدة التي يعُاد فيها سوريون قسراً إلى بلادهم.
منذ مطلع عام 2023 وحتى 30 تشرين الثاني/ نوفمبر، أقدم لبنان على ترحيل 761 سورياً قسراً، واحتجز 1027 تعسفياً، معظمهم مسجلون لدى مفوضية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بحسب أرقام حصلت عليها “سوريا على طول” من محمد حسن، المدير التنفيذي لمركز وصول لحقوق الإنسان (ACHR)، وهي منظمة حقوقية مقرها بيروت وباريس.
يشير الرقم إلى زيادة ملحوظة مقارنة بعام 2022، عندما لم يتجاوز عدد السوريين المرحلين قسرياً 159 شخصاً، وعام 2021 الذي شهد ترحيل 59 سورياً. وفي تشرين الأول/ أكتوبر، وثق مركز وصول ثلاث حالات ترحيل قسري، و28 حالة في تشرين الثاني/ نوفمبر، لكن الأرقام الحقيقية قد تكون أعلى من التي تم الإبلاغ عنها، بحسب حسن.
اقرأ المزيد: من الباب إلى الحدود: اعتقال 1,100 لاجئ سوري وترحيل 600 من لبنان
تواصل الحكومة الأميركية والاتحاد الأوروبي تمويل الجيش اللبناني، مع فرض بعض الضغط على لبنان لوقف عمليات الترحيل. في 13 أيلول/ سبتمبر، غيرت الولايات المتحدة وجهة مساعدات عسكرية قدرها 85 مليون دولار من مصر إلى تايوان (55 مليون دولار) ولبنان (35 مليون دولار) بسبب “تعثر مصر في إحراز تقدم في مجال حقوق الإنسان وقضايا أخرى”، كما منحت الولايات المتحدة لبنان 72 مليون دولار في كانون الأول/ يناير، لدفع رواتب الشرطة والجيش لأول مرة.
كان الترحيل كابوساً بالنسبة لإبراهيم. احتجزته ما أسماه بـ”عصابة سورية” ليومين حينها، لكنه تمكن من التواصل مع أقاربه وجمع مبلغ أربعة آلاف دولار رشوة مقابل إطلاق سراح عائلته والسماح لهم بالعودة إلى لبنان.
بعد عودته إلى طرابلس، يعيش إبراهيم الآن في خوفٍ مستمر من الترحيل ثانيةً، قائلاً: “إن أمسكوا بي سوف يعيدونني إلى سوريا”، وهو الآن مدين بآلاف الدولارات صرفها ليجد موطأ قدم في القارب الذي انقلب، ورشوة دفعها في سوريا.
ونظراً لعجزه عن تأمين الإيجار، انتقل إبراهيم وزوجته وطفله، البالغ من العمر عاماً واحداً، للعيش مع شقيقه. كان البقاء في سوريا مستحيلاً. و”في لبنان، لم يتبق لي أي شيء… الحياة هنا مقرفة. هناك الكثير من العنصرية. لا يمكنني أن أفعل شيئاً ولا يساعدنا أحد”.
“أريد أن أُبصِر العالم”
بالعودة إلى مقهى بيروت، يتصفح صلاح الرسائل الواردة من صديقه فراس الواصل إلى ألمانيا قبل أشهر، وقال متفائلاً: “أخبرني أنَّ الرحلة كانت سهلة”.
عثر صلاح على مهرِّب يستطيع نقله، عبر قارب، من المغرب إلى إيطاليا ومنها إلى ألمانيا، مقابل مبلغ ستة آلاف دولار. وسمع أن بإمكانه السفر بالطائرة من لبنان إلى ليبيا والمواصلة سيراً على الأقدام عبر الجزائر حتى المغرب بمبلغ قدره نحو ألف دولار فقط.
إنّها رحلة طويلة ومحفوفة بالمخاطر، ولكنها أيضاً فرصة صلاح للمغادرة، معتبراً أن الموت واحد “سوف تموت هنا [في لبنان] أو ستموت في طريقك للخروج. لذا سأخرج”.
“أول شيء سأفعله عندما أغادر هو استئناف تعليمي، سوف أدرس وأطور مستوى لغتي الإنجليزية”، قال صلاح، ومن ثم صمت قليلاً وأكمل: “ما زلت صغيراً، أريد أن أبصر العالم”.
تم نشر هذا التقرير أصلاً في الإنجليزية وترجمته إلى العربية فاطمة عاشور.