7 دقائق قراءة

صناعة التنور الطيني في الحسكة: موروث شعبي يزدهر في الأزمات

يعد التنور الطيني جزءاً من ذاكرة السوريين وموروث شعبي حولته سنوات الحرب والأزمات في سوريا إلى مهنة رائجة، كما هو الحال في مدينة الحسكة بشمال شرق سوريا.


بقلم سلام علي

26 يوليو 2024

الحسكة، أربيل- في يوم مشمس أواخر نيسان/ أبريل الماضي، كانت سناء علي، 32 عاماً، منهمكة رفقة ابنة عمها فضة، 40 عاماً، في صنع “التنور الطيني”، وهو فرن بدائي تراثي يستخدم لصناعة الخبز، في شارع “الدكاكين” بحي النشوة الشرقية في مدينة الحسكة، شمال شرقي سوريا،  بينما تجلس والدتيهما بالقرب منهما، تراقبان خفة حركة يديهما وسرعتهما في العمل.

اقتربت كحلة الأحمد، 65 عاماً، والدة سناء، من تنور أنهت ابنتها صناعته قبل يوم، قائلة: “يريدون واحداً كبيراً، اصنعيه حسب الطلب”، لتقاطعها صبحة محمد، 70 عاماً، والدة فضة، مبدية إعجابها: “أترين؟ صاروا يصنعونه أفضل منا”.

في غضون ثلاثين دقيقة أنهت سناء وفضة صناعة القاعدة الدائرية لثلاثة “تنانير” كانتا يصنعانها، وهي الحلقة الأولى للتنور، ثم تركنَها لتجف تحت أشعة الشمس، على أن تعاوِدا العمل على الأجزاء الأخرى بعد جفاف الحلقة الأول، كما قالت سناء لـ”سوريا على طول”.

يستخدم التنور الطيني بكثرة في أرياف شمال شرق سوريا، لإنتاج الخبز المنزلي، الذي يعتمدون عليه إلى جانب خبز الأفران، الذي يصل سعر الربطة الواحدة منه لأكثر من سبعة آلاف ليرة سورية (0.46 سنتاً أميركياً، بحسب سعر الصرف في السوق السوداء البالغ 15200 ليرة للدولار)، ويصبح خبز التنور أساسياً عند انقطاع خبز الأفران أو نقص كمياته، ولطالما يتكرر ذلك في بلد تعاني من ويلات الحرب منذ ثلاثة عشر عاماً.

لكن أيضاً، يستخدمه العديد من السوريين لمذاقه الشهيّ ولكونه جزءاً من تراثهم وذاكرتهم، كما في حالة زكريا سليمان أحمد، 49 عاماً، من سكان قرية الكرباوي جنوب غرب مدينة القامشلي. 

في شباط/ فبراير الماضي، اشترى أحمد تنوراً ب ـ160 ألف ليرة (10 دولاراً تقريباً)، من أحد مصنّعي التنور في قريته، حُبّاً بالخبز المنزلي “ذو الرائحة الشهية، ومذاقه الذي يفوق خبز الأفران الآلية”، كما قال لـ”سوريا على طول”.

مخبز شعبي لبيع خبز التنور  في أحد أحياء مدينة الحسكة، 27/ 04/ 2024، ( سلام علي/ سوريا على طول)

مخبز شعبي لبيع خبز التنور  في أحد أحياء مدينة الحسكة، 27/ 04/ 2024، ( سلام علي/ سوريا على طول)

ورغم وجود فرن آلي في قرية أحمد، إلا أن “التنور أساسي عند الكثير من العائلات في القرية”، وغالباً ما يتم شراء التنور الطيني من شاب يصنعه يدوياً، وقد ورث هذه المهنة عن أمه التي وافتها المنية قبل أربع سنوات.

ويستخدم التنور أيضاً لطبخ بعض الأكلات العربية، مثل المندي، وهو طبق عربي تقليدي يتكون من اللحم والأرز، وكذلك يستخدم في صناعة الفطائر والمخبوزات الأخرى. 

تفضل كحلة، التي قضت عقوداً من عمرها في صناعة التنانير، خبز التنور على خبز الأفران الآلية، وهذا ينطبق على رأي جارتها، التي صنعت كحلة لها تنوراً من دون مقابل مادي قبل خمس سنوات ووضعته في حديقة (حوش) منزلها.

“خبز التنور أطيب إذا كان ساخناَ، لذلك في كل مرة أصنع عشرة أرغفة، بحيث تكفي ليوم واحد”، قالت جارة كحلة، التي فضلت عدم نشر اسمها، مشيرة إلى أنها تستخدم التنور عندما لا يتوفر خبز الأفران، وأحياناً “عندما أشتهيه”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.

تنوي جارة كحلة شراء تنور جديد، لأن “العجين لم يعد يلتصق بجدرانه بشكل جيد”، قاطعتها كحلة قائلة: “متوسط عمر التنور خمس سنوات أو أكثر قليلاً، ويعتمد ذلك على مدى حفاظك عليه، وعدم تعرضه للمياه”.

تصنيع التنور الطيني

يحتاج التنور إلى نوع خاص من التراب، تجلبه النسوة من الآبار المحلية التي يحفرها سكان الحسكة بغرض استخراج المياه، أو يقمن بطلبه من أصحاب الشاحنات لجلبه من الأرياف، وتكفي “الشحنة الواحدة لصناعة 20 إلى 25 تنوراً”، بحسب سناء.

في حديثها لـ”سوريا على طول”، شرحت كحلة طريقة صناعة “تنور جيد”، حيث تبدأ المرحلة الأولى  بتحضير العجينة، وذلك بوضع كمية من التراب على غطاء بلاستيكي، يتم رشها بالمياه حتى تتبلل كلها، ثم يضاف كمية من التبن وشعر الماعز والملح وخيوط أكياس الخيش، ويمزج الخليط حتى يتماسك بشكل جيد، ومن ثم يُترك الخليط ليوم أو يومين حتى يتخمر ويصبح صالح للاستخدام.

أكدت كحلة وصبحة على أن الخليط حتى يكون جيداً لا بد من تخميره ليوم أو يومين، لكن ابنتيهما سناء وفضة تضطران أحياناً إلى “صناعة التنور في نفس يوم تحضير الخليط إذا كانت الطلبية مستعجلة”.

بعد أن يصبح الخليط (العجينة) جاهزة، تبدأ صانعات التنور بتشكيل الحلقة الأولى منه، ويحرصنَ على أن تجف بشكل جيد قبل إضافة الحلقات الأخرى، وهكذا حلقة بعد أخرى وصولاً إلى “فم التنور”، بحسب سناء، مشيرة إلى أن عدد الحلقات يصل إلى تسع، يتم إنجاز من ثلاث إلى أربع حلقات في اليوم الواحد.

تتفاوت أحجام “التنور الطيني”، بين الصغير والوسط والكبير، وفقاً لطلب الزبون، ويصل ارتفاعه إلى نحو 120 سنتمتراً، وفقاً لسناء.

يثبت التنور بشكل مائل على الأرض لسهولة لصق الأرغفة على جدرانه الداخلية، ويوجد في أسفله مجرى (فتحة) لِدخان النيران المنبعثة منه.

“مرحلة تجهيز العجينة هي الأصعب”، بحسب سناء وفضة، لأنه يتوجب مزج الخليط بأرجلهنّ لنحو نصف ساعة حتى يتماسك جيداً ويصبح جاهزاً، وهذا يحتاج مجهوداً بدنياً، لذا تتناوبان على تجهيز الخليط، ومن ثم تعتمد كل واحدة منهما على نفسها في تشكيل طبقات التنور، وفقاً لفضة.

فضة العلي تعد القاعدة الدائرية للتنور الطيني، وعلى بعد أمتار منها تجلس والدتها مع نساء أخريات، في حي النشوة الشرقية بمدينة الحسكة، 27/ 04/ 2024، (سلام علي/ سوريا على طول)

فضة العلي تعد القاعدة الدائرية للتنور الطيني، وعلى بعد أمتار منها تجلس والدتها مع نساء أخريات، في حي النشوة الشرقية بمدينة الحسكة، 27/ 04/ 2024، (سلام علي/ سوريا على طول)

موروث يتحول إلى مهنة

“في قرانا لم نصنع التنور لأغراض تجارية، وإنما كنا نصنعه لأقاربنا ومعارفنا”، قالت كحلة، التي أتقنت هذه الحرفة مذ كانت في العشرين من عمرها.

بعد زواجها، انتقلت كحلة، التي تنحدر من قرى جبل عبد العزيز جنوب غرب الحسكة، إلى حي “الدكاكين” في مدينة الحسكة، لتبدأ بصناعة التنانير وبيعها، “هنا في شارع الدكاكين بعت أول تنور بمئتين وخمسين ليرة، كان ذلك قبل 30 عاماً”، على حد قولها، أي بنحو خمسة دولارات بحسب سعر الصرف آنذاك.

ارتفع سعر التنور الذي تصنعه عائلة كحلة تدريجياً إلى ألف، ثم ثلاثة آلاف، ووصل قبل اندلاع الثورة السورية في ربيع 2011 إلى عشرة آلاف ليرة (200 دولار تقريباً بحسب سعر الصرف آنذاك). خلال سنوات الحرب ارتفع سعره إلى 30 ألف ليرة سورية، وحالياً يباع بحوالي 75 ألف ليرة، وهو سعر زهيد إذا ما احتسبت قيمته بالدولار، إذ يبلغ سعره حوالي خمسة دولارات.

تعلمت صبحة والدة فضة صناعة التنور عندما كانت في الخامسة والعشرين من عمرها، ومثل كحلة كانت تصنعه لأقاربها ومعارفها مجاناً على مدى سنوات، “لكن بعد زواجي وإنجاب أطفال، احتجت إلى مصدر رزق، فصرت أبيع التنانير لأشتري بثمنها احتياجاتي”.

قالت السيدتان كحلة وصبحة إن إنتاجهما من “التنانير” يلقى رواجاً أكبر في السنوات الأخيرة، أي خلال سنوات الحرب، لأن السكان لجأوا لشراء التنانير وصناعة الخبز المنزلي بسبب انقطاع خبز الأفران الآلية وعدم كفاية كمياته، وتعدّ أزمة الخبز من تداعيات الحرب السورية التي تعاني منها عدة مناطق في البلاد.

في بعض الأحيان “كنا نصنّع من أربعة إلى خمسة تنانير بوقت واحد، وكان الزبائن يدفعون الثمن سلفاً لتجهيز التنور بأسرع وقت”، بحب كحلة.

ويزداد الطلب على التنور الطيني في المواسم الزراعية الجيدة، حيث يخصص السكان كميات من القمح لطَحنه واستخدامه في صناعة خبز التنور، بحسب صبحة، ولا يتم بيع التنور يومياً في الوقت الحالي، على عكس سنوات “الحرب” الأولى، “عندما كنا نبيع تنورين وسطياً في اليوم الواحد”.

على مدار العقود الأربعة الماضية، عملت كحلة وقريباتها صبحة المحمد وطرفة العبد في مهنة صناعة التنور بشارع “الدكاكين”، حيث مكان إقامتهنّ، لكسب لقمة العيش، ومن أجل الحفاظ على “هذا الموروث الشعبي” حرصن على تعليم بناتهن وزوجات أولادهنّ هذا المهنة.

“الجيل الجديد”

تتفاخر السيدات الثلاث، اللواتي تقدم بهنّ العمر، بإتقان صناعة التنانير وإنتاج أحجام كبيرة منها حتى ذاع صيتهن في شمال شرق سوريا، ولهنّ زبائن من حلب أيضاَ. “منذ سنوات طويلة بعت أربعة تنانير لأحد سكان حلب”، قالت كحلة. قاطعتها صبحة: “عندما كنت شابة صنعت واحداً كبيراً، من كبر حجمه لم نستطع إخراجه من باب حوش منزلنا”.

لا تنكر السيدات أنّ بناتهن وزوجات أبنائهن، اللاتي ورثنَ المهنة، يصنعن أيضاً تنانيراً تفوق جودة إنتاجهنّ أحياناً. قالت سناء، التي تعلمت المهنة من والدتها قبل عشر سنوات، بلهجتها المحلية: “آني الحين ما أرضى بشغل أمي”. ردت عليها فضة ضاحكة: “يقولون أننا أخذنا مكانهم في المهنة، نرد عليهم بأننا نحافظ على صناعتكم ونجعلها دائمة وحيّة”. 

حاولت فضة رفع صوتها لتسمع والدتها وزوجة عمها كحلة، اللتان كانتا جالستان على بعد أمتار منها: “نحن الجيل الجديد، إن لم نصنع قد تختفي هذه المهنة”. ويبدو ذلك صحيحاً، إذ توقفت كحلة عن العمل بهذه المهنة الشاقة قبل عامين، ومن قبلها توقفت صبحة وطرفة، لأن قدرتهنّ الجسدية لم تعد تساعدهنّ.

“إنه عمل شاق ومضني، ويتطلب جهداً بدنياً”، قالت صبحة، التي رسم الزمن تجاعيده بدقة على وجهها ويديها كما قريباتها.

تفضل سناء وفضة، وندى (زوجة ابن طرفة)، مهنة صناعة التنانير وبيعها على العمل في الأراضي الزراعية الذي يفوق صنع التنانير صعوبة برأيهنّ، كما يحتاج إلى ساعات عمل أطول، على خلاف صناعة التنور، إذ يستغرق صناعة الواحد منها عمل يومين أو ثلاثة أيام بمعدل ساعة إلى ساعتين يومياً، إذا كان الطقس مشمساً، بينما قد يستغرق إنجازه اسبوعاً إذا لم يكن الجو مناسباً، بحسب فضة.

“صناعة التنور كان مصدر رزق أمي لعقود، وحالياً هو مصدر رزقي”، قالت سناء، التي صنعت العام الماضي أكثر من 25 تنوراً، وتسعة هذا العام، بدأت بصناعتهم في آذار/ مارس الماضي، بعد أن بات الطقس مشمساً. 

أما فضة، صنعت العام الماضي 21 تنوراً، وسبعة خلال شهر آذار/ مارس الماضي، مشيرة أن عملهم  يزداد بعد حصاد المواسم الزراعية، وعندما يكثر الطلب “نقوم بصناعة عدة تنانير مع بعضها دفعة واحدة”، على حد قولها.

تأسفت سناء وفضة وندى على عدم إمكانية صناعة التنانير في الشتاء، لعدم قدرتهنّ على بناء غرفة مخصصة لهذه المهنة، وبالتالي يتوقفهن عن الإنتاج شتاء، بسبب الظروف الجوية الماطرة، بينما في الصيف يعملن تحت أشعة الشمس.

اشتكت صانعات التنور، اللاتي تحدثن لـ”سوريا على طول” من ارتفاع أسعار التراب والتبن هذا العام. تصل تكلفة الشحنة الواحدة من التراب إلى 150 ألف ليرة سورية (عشرة دولارات تقريباً)، بينما كانت  80 ألف ليرة (5.5 دولار) العام الماضي.

وينعكس ارتفاع أجور النقل الباهظة على شراء سكان القرى البعيدة للتنانير، بحسب فضة، لأن شراءه يتطلب نقله من شارع الدكاكين في الحسكة إلى قرية المشتري أو المشترية.

وعبّرت فضة عن قلقها إزاء عدم رغبة قريباتها تعلم هذه المهنة، قائلة: “أرغب أن تتعلم الأخريات هذه الصناعة، ولكن لا أحد يقبل بها لأنها ليست مهنة سهلة”.

تستعد فضة حالياً لصنع ستة تنانير جديدة، وهي طلبية لسكان بريف الحسكة، تحرص على أن تسلمها دفعة واحدة، لذا “قمت بعمل اثنين منها مرة واحدة في نفس اليوم”.

شارك هذا المقال