صناعة حلب في ظل الأسد: نموذج إعادة إعمار الفساد
أكد خالد أن "أغلب الصناعيين تكبدوا خسائر فادحة من دون أي تعويضات من قبل الحكومة"، وأن "حيتان السوق الحاليين يملكون النفوذ والسلاح بينما نترك نحن الأسماك الصغيرة عرضة لتقلبات السوق وتحكم المليشيات المسيطرة".
14 ديسمبر 2020
عمان – خلال زيارته معرضاً لمنتجات المشاريع الصغيرة في حلب، أقيم في التكية السليمانية بدمشق الشهر الماضي، أغدق بشار الأسد المديح على تمكن صناعيي عاصمة الصناعة السورية من النهوض بعد سنوات الحرب التي توشك أن تتم عامها العاشر؛ معتبراً أنه “إذا لم يؤثر الحصار والقصف على حلب، فهو بالتأكيد لن يؤثر على سوريا”.
لكن بعد أربع سنوات على سيطرة القوات الحكومية، بفضل الدعم الروسي والإيراني، على كامل مدينة حلب، يبدو واقع المدينة أبعد ما يكون عن النموذج الذي يحتذى، ولأسباب لا تتعلق مباشرة بالعقوبات الاقتصادية التي يتخذها نظام الأسد شماعة لتبرير إخفاقاته المتتالية في إعادة الإعمار. بل هي أيضاً أسباب تفسر هروب رأس المال السوري إلى لبنان، على خلاف ما ادعى الأسد في حديثه في التكية السليمانية بأن احتجاز الأموال في لبنان منذ تفجر الأزمة الاقتصادية في الأخير هو ما يؤخر نهوض سوريا الاقتصادي.
قبل معركة حلب وبعدها
قدمت محافظة حلب في العام 2010، بحسب المكتب المركزي للإحصاء، أعلى مساهمة في إجمالي الإنتاج الصناعي بنسبة تبلغ 29.36%، واحتلت تالياً المركز الأول بعدد العاملين في هذا القطاع، بنسبة 31.68%. لكن مع اندلاع الثورة في آذار/مارس 2011، وتالياً سيطرة فصائل المعارضة على جزء الشرقي من مدينة حلب، تعرض القطاع الصناعي في المدينة لضربة قاسية.
وكما روت سيدة الأعمال لينا، التي تولت إدارة مصنع وشركة تجارية مملوكين لعائلتها، فقد اضطرت مع دخول الفصائل المسلحة للمدينة وسيطرتها على المنطقة التي يقع فيها المصنع، إلى إيقاف جميع خطوط الإنتاج. فيما تم التفاوض مع الفصيل المسيطر على المنطقة “لتأمين خروج البضائع من المعمل وبيعها عن طريق وسيط”. وبحسب تقديرات تعود للعام 2013، توقف “نحو 75 في المئة من المنشآت الإنتاجية في حلب عن العمل”.
مع سيطرة النظام على كامل المدينة مرة أخرى في العام 2016، أعربت دمشق بشكل متكرر عن رغبتها في استقطاب الاستثمارات واستئناف النشاط الاقتصادي في حلب، وتابعت، على حد قولها، إعادة تشغيل المناطق الصناعية في المحافظة والإستثمار في إعادة دوران المصانع الصغيرة.
مع ذلك، فإن إعادة تشغيل مصنع عائلة لينا في العام 2017، كان “بطاقة إنتاجية منخفضة تعادل 10% فقط من القدرة الانتاجية الكاملة للمعمل”. ليعقب ذلك تخفيض آخر نهاية العام 2019، “بسبب أزمة المصارف في لبنان والحجز على إيداعاتنا فيها”، كما قالت لـ”سوريا على طول”.
في هذا السياق، أوضح د. كرم شعار، الباحث في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، لـ”سوريا على طول”، أن “ما لدى البنوك السورية لا يتجاوز المليار دولار من القطع الأجنبي، بينما بعض المصادر تتحدث عن ودائع للسوريين في لبنان بما يتجاوز 40 مليار دولار”، بحيث أدى عملياً “خفض الحد الأعلى المسموح للحصول على الودائع في لبنان إلى تجميد أموال المودعين السوريين الكبار مما أثر على قدرة المنتجين والتجار السوريين على استيراد المواد الخام والمصنعة على حد سواء”.
لكن أزمة المصارف في لبنان ليست إلا واحدة من أسباب أخرى عديدة تعيق تحريك عجلة الاقتصاد في سوريا عموماً، ولاسيما العاصمة الاقتصادية حلب.
إتاوات أو”خراب ديار”
لم تشهد محافظة حلب خلال السنوات الأربع الماضية أي عودة حقيقية للقطاع الصناعي والتجاري فيها. وتعاني الصناعة تحديداً مشاكل عديدة. فإضافة إلى إغلاق المعابر الحدودية، ما أدى إلى صعوبة تأمين المواد الأولية وبالتالي ارتفاع تكلفتها، وأيضاً انتشار البضائع المهربة ورخص ثمنها، ما سبب عزوف المستهلك عن البضائع المحلية، “يواجه صغار الصناعيين في مدينة حلب عدم توفر مواد الغيار بسبب العقوبات، وندرة المهنيين بسبب الهجرة والنزوح”، كما قال لـ”سوريا على طول” خليل، الصناعي في مجال النسيج.
لكن فيما أكد خالد، صاحب معمل للخيوط، على “التكلفة العالية لإعادة التشغيل بسبب الدمار والنهب الذي تعرض له المعمل خلال فترة المواجهات العسكرية”، إضافة إلى “الانقطاع المتكرر في الكهرباء ونقص إمدادات الوقود”، فإنه اعتبر أن الصعوبة الحقيقية التي واجهته عند بدء تصريف البضائع هي اضطراره “دفع إتاوات منذ خروج البضاعة من المعمل، عن كل شاحنة، ولكل حاجز تمر به بضائعنا لحين وصولها للمستهلك”. موضحاً لـ”سوريا على طول” أن متقاضي الأتاوات يتبعون فروعاً أمنية مختلفة ومتنفّذين في المدينة”، و”عند امتناع أحد الصناعيين عن الدفع، فإن التهمة جاهزة: دعم مجموعات إرهابية أو تهريب أموال؛ يعني خراب ديّار”.
أما “أقل عقوبة يتعرض لها صاحب المعمل بامتناعه عن الدفع”، وفقاً لخالد، فهي “قطع الكهرباء والتفتيش بحثاً عن عمال فارين من الخدمة العسكرية، مما يكبد صاحب المعمل خسائر مضاعفة”.
لكن “على النقيض مما يعتقده كثيرون”، كما لفت د. شعار، فإن “عدم وضوح الأفق السياسي والتنظيمي والأمني في البلاد هو الإشكال الأكبر الذي يواجه” صناعيو حلب ويمنع عودة من غادر منهم معتبراً أن في سوريا عموماً “هناك بعض الفرص الممتازة إذا ما تم تجاهل عامل المخاطرة، وذلك بسبب رخص اليد العاملة والأصول الثابتة ومدخلات الإنتاج”.
صراع أباطرة الحرب
يهيمن على اقتصاد حلب حالياً لاعبون اكتسبوا نفوذاً متزايداً منذ العام 2011، أبرزهم فارس الشهابي الذي يعتبر من “الحرس الاقتصادي القديم” في المدينة، والذي استفاد من قرابته بالعماد حكمت الشهابي، رئيس هيئة أركان الجيش السوري سابقاً، وعلاقته الوطيدة بابن خالة بشار الأسد رامي مخلوف الذي كان يتحكم بمفاصل الاقتصاد السوري ككل حتى وقت قريب جداً. إذ إن الشهابي عضو مؤسس في شركة الشام القابضة، ورئيس مجلس إدارة اتحاد غرف الصناعة السورية وغرفة صناعة حلب، وعضو سابق في مجلس الشعب السوري.
أما اللاعب الثاني الأبرز، فهو حسام قاطرجي، عضو مجلس الشعب ورئيس مجلس إدارة مجموعة القاطرجي التي تتولى تهريب النفط من مناطق شمال شرق سوريا منذ سيطرة تنظيم “داعش” عليها، إلى مناطق سيطرة النظام.
وفيما يتحكّم الشهابي بحصص كبيرة في قطاعات رئيسة بحلب، مثل الأدوية، والتعليم، والقطاع المصرفي، يسيطر القاطرجي على قطاعات حيوية في المحافظة، كالطاقة والفندقة والعقارات. ويعزز نفوذه عبر مليشيات “القاطرجي”.
لكن طبيعة علاقة الإقصاء بين الطرفين ظهرت جلية في الانتخابات الأخيرة لمجلس الشعب، حين تم إقصاء فارس الشهابي وقائمته لصالح قائمة “الأصالة” التي تضم حسام قاطرجي وحسن بري. وليتعزز ذلك باكتساح قائمة الشهباء الانتخابات الأخيرة لغرفة تجارة حلب. إذ تتبع القائمة للقاطرجي أيضاً، وضمت جميع الواجهات الاقتصادية الجديدة للنظام في المدينة.
في السياق ذاته، ظهرت نهاية العلاقة الرسمية مع رجل الأعمال هاني عزوز، من خلال الحجز الاحتياطي على أمواله المنقولة وغير المنقولة. ويعتبر عزوز شريكاً لمخلوف وأحد أكبر المساهمين المؤسسين لشركة الشام القابضة. كما كان عضو مجلس إدارة غرفة صناعة حلب، ورئيس اتحاد المصدرين السوريين، ورئيس مجلس رجال الأعمال السوري-الروسي.
وذهب د. شعار إلى أن هذه الحرب المعلنة بين اللاعبين الاقتصاديين في حلب “أدت إلى الحد من قدرتهم على التعاون البناء الذي يؤدي إلى علاقات اقتصادية مكملة تعود بالنفع على الجميع”.
لكن قبل ذلك، فإن النفوذ المتزايد لطبقة أمراء الحرب، دفع غالبية الصناعيين القدامى، برأي خالد وخليل، إلى تشغيل أعمالهم بالحدود الدنيا، معتبرين أن العمل في هكذا ظروف أشبه بالمقامرة. وبحسب خالد، فإن “تخفيض طاقة الإنتاج يقلل الخسائر المحتملة ويحافظ على رأس المال، خاصة أن أغلب الصناعيين تكبدوا خسائر فادحة من دون أي تعويضات من قبل الحكومة”. مضيفاً أن “حيتان السوق الحاليين يملكون النفوذ والسلاح بينما نترك نحن الأسماك الصغيرة عرضة لتقلبات السوق وتحكم المليشيات المسيطرة”.
بالنتيجة، فإن “الحماقة الإدارية في سوريا تبقى أصل التردي الاقتصادي”، برأي د. شعار