7 دقائق قراءة

“صيدنايا المحرر”: اختفاء قسري وابتزاز مالي في سجون الجيش الوطني شمال حلب

فتحت قضية اعتقال المصور الصحفي بكر القاسم وكرم كلية النقاش مجدداً حول سجون الفصائل في شمال غرب سوريا، لا سيما سجن حوار كلس، والدور التركي في الانتهاكات داخل هذه السجون.


17 سبتمبر 2024

باريس- بعد أسبوع على اعتقاله في أحد سجون الشرطة العسكرية التابعة للجيش الوطني السوري (المعارض) في ريف حلب الشمالي، أطلق سراح المصور الصحفي بكر القاسم، في الثاني من أيلول/ سبتمبر الحالي، الذي أوقف من دون مذكرة قضائية أو أسباب معلنة.

لم يُسمح للقاسم طيلة فترة اعتقاله الاتصال بذويه أو توكيل محامٍ يتابع ملفه، وتضاربت الأنباء حول مكان اعتقاله، إذ تداول ناشطون أنه موقوف في سجن “حوار كلس” سيئ الصيت، الواقع على الشريط الحدودي مع تركيا، ويُقال أنه سجن غير رسمي تابع للاستخبارات التركية، تحرسه وتمارس التعذيب فيه فرقة السلطان مراد بقيادة فهيم عيسى، القيادي في الجيش الوطني، لكن تبين أن القاسم الذي عمل مصوراً لوكالة فرانس برس (أ ف ب) ووكالات أخرى، كان معتقلاً في سجن منطقة الراعي بريف حلب الشمالي.

وفيما أفرج عن القاسم، الذي رفض الحديث لـ”سوريا على طول” عن ملابسات اعتقاله، ما يزال الصحفي كرم كلية، مختفٍ قسرياً في أحد سجون الجيش الوطني، في شمال غرب سوريا، منذ أقل من ثلاثة أشهر، دون تفاصيل عن أسباب اعتقاله ومكانه.

تختزل قصة الصحفيين القاسم وكلية، قصص العديد من الصحفيين والناشطين، الذين تعرضوا للاعتقال على يد فصائل المعارضة المدعومة من أنقرة، وتثير النقاش مجدداً حول سجون الفصائل في شمال غرب سوريا، لا سيما سجن حوار كلس، والغموض الذي يكتنف السجن ومصير المعتقلين فيه وما يجري من انتهاكات داخله، والدور التركي.

رحلة البحث عن مختفٍ قسرياً

في منتصف آب/ أغسطس الماضي، اعتقلت الشرطة العسكرية الناشط سامر الحسن (اسم مستعار)، ومنذ اعتقاله وصلت عائلته معلومات متضاربة حول مصيره ومكانه احتجازه، تارة أنه معتقل لدى الشرطة العسكرية في جرابلس وتارة في اعزاز، لكن “المعلومة الأدق أنه في حوار كلس”، كما قال ابن عمه المقيم في ألمانيا لـ”سوريا على طول”، شريطة عدم الكشف عن هويتهما حرصاً على سلامة سامر.

في الأيام الأولى من اعتقال الحسن، مارست عائلته ضغوطاً عشائرية على الشرطة العسكرية، لذا “أخبرونا أنه في الشرطة العسكرية بجرابلس”، وعندما حاولت زيارته “أبلغنا فرع جرابلس أنه في اعزاز”، ومن ثم وصلهم معلومات من ضابط في الشرطة العسكرية باعزاز أن ابنهم في حوار كلس، و”يجب دفع عشرة آلاف دولار لقاء الإفراج عنه أو تخفيف عقوبته إلى سجن لفترة قصيرة لا تتجاوز ستة أشهر”، بحسب ابن عمه.

لا تعلم عائلة الحسن جرم ابنها قبل أن يخبرها الضابط في الشرطة العسكرية أنه متهم بتهريب البشر والتعامل مع حزب العمال الكردستاني (ب ك ك)، المصنف على لوائح الإرهاب التركية، وكذلك التعامل مع النظام السوري، ولأجل ذلك “هو مطلوب للاستخبارات التركية”، كما أضاف ابن عمه.

قبل أسبوع، رفعت المصادر في الشرطة العسكرية، التي تتواصل معها العائلة، قيمة المبلغ المطلوب لإطلاق سراح الحسن من عشرة إلى خمسة عشر ألف دولار، على حد قول ابن عمه، نافياً الاتهامات الموجهة للحسن.

وأشار ابن عم الحسن إلى أن الأسباب الحقيقية وراء الاعتقال “موقفه المعارض لسياسة تركيا في ريف حلب الشمالي، إضافة إلى أنه أحد ناشطي اعتصام الكرامة“، في إشارة إلى الاعتصام المعروف أيضا باسم “انتفاضة تموز”، الذي أطلقه أكاديميون وناشطون في تموز/ يوليو الماضي، رداً على مقتل سبعة أشخاص وإصابة نحو 50 آخرين بجروح، خلال الاحتجاجات التي شهدتها المنطقة رفضاً للتطبيع التركي مع النظام السوري.

لا يدري ابن عم الحسن إن كانت تركيا وراء الاعتقال وتلفيق التهم أم أن الشرطة العسكرية المسؤولة عن هذا “الانتهاك”، معتبراً أن ما يحدث مع العائلة عملية “ابتزاز مالي”.

حتى اليوم، لم تتمكن العائلة من زيارة ابنها أو تحديد مكان اعتقاله، لكنها وكّلت محامٍ قبل أيام، ووعدها بـ”تقليص المبلغ من 15 ألف دولار إلى ثلاثة آلاف”، بحسب ابن عم الحسن.

“صيدنايا المحرر”

منذ أشهر بدأ بعض الناشطين والحقوقيين شمال حلب بإطلاق اسم “صيدنايا المحرر” على سجن حوار كلس، في إشارة إلى سجن صيدنايا العسكري، شمال العاصمة دمشق، المعروف أيضاً بـ”المسلخ البشري”، كونه واحد من أكبر سجون النظام السوري وأكثرها سوءاً، حيث عمليات قتل وتعذيب المعتقلين.

سجن حوار كلس بريف حلب الشمالي، الذي تديره فرقة السلطان مراد في الجيش الوطني السوري (المعارض)، وتُتهم المخابرات التركية باتخاذه مركزاً لاستجواب السوريين المطلوبين لهاسجن حوار كلس بريف حلب الشمالي، الذي تديره فرقة السلطان مراد في الجيش الوطني السوري (المعارض)، وتُتهم المخابرات التركية باتخاذه مركزاً لاستجواب السوريين المطلوبين لها

صورتان تظهران التغيرات التي طرأت على سجن حوار كلس بريف حلب الشمالي، بين عامي 2019 و2024، الذي تديره فرقة السلطان مراد في الجيش الوطني السوري (المعارض)، وتُتهم المخابرات التركية باتخاذه مركزاً لاستجواب السوريين المطلوبين لها، (المصدر: جوجل إيرث)

في مطلع عام 2019، بدأت فصائل الجيش الوطني استخدام “المكان كمركز احتجاز”، يخضع مباشرة لجهاز الاستخبارات التركية، وفرقة السلطان مراد المنضوية في الجيش الوطني، التي يقودها فيهم عيسى، كما قال بسام الأحمد، المدير التنفيذي لمنظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، وهي منظمة حقوقية سورية.

وقدر الأحمد وجود نحو 300 محتجز/ معتقل ومختفٍ قسرياً في “حوار كلس”، مستنداً إلى شهادات حصلت عليها منظمّته من مفرج عنهم، وجهت لهؤلاء ثلاث تهم رئيسية: معارضة السياسة التركية في سوريا، أوالتعامل/ التواصل مع سلطات الإدارة الذاتية/ قوات سوريا الديمقراطية أو الانتماء لها، إضافة إلى تهمة الانتماء لتنظيم الدولة (داعش).

في كانون الأول/ ديسمبر 2023، أُفرج عن شقيق حسان الحلبي (اسم مستعار)، بعد أن قضى قرابة العامين في حوار كلس، انتهت بتحويله إلى القضاء، لتثبت براءته من التهمة التي نُسبت إليه، وهي الارتباط بتنظيم داعش”، كما قال الحلبي لـ”سوريا على طول”.

بعد أسابيع من اعتقال شقيقه مطلع العام 2022، علمت العائلة عبر أشخاص مفرج عنهم من سجن حوار كلس أن ابنها معتقل هناك، لكن “هذا لم يغير شيء بالنسبة لنا، لأننا لم نستطع زيارته أو توكيل محامٍ له”.

منذ إخلاء سبيله، يرفض شقيق الحلبي الحديث عن قصته وما حدث معه داخل سجن حوار كلس “خشية اعتقاله مرة أخرى”، لكن الصور التي التقطت له بعد يوم من إطلاق سراحه، حصلت عليها “سوريا على طول” من العائلة، تظهر آثار التعذيب الوحشي ووجود تشوهات جلدية، لكن رفضت العائلة نشر هذه الصور لأسباب أمنية.

اتهم الحلبي فرقة السلطان مراد بممارسة أعمال التعذيب بحق الموقوفين في السجن، مؤكداً “وجود محققين أتراك، لكن عمليات التعذيب على يد عناصر الفرقة”.

تتطابق رواية الحلبي مع معلومات أدلى بها الحقوقي بسام الأحمد، تشير إلى أن “عمليات التحقيق تجري من قبل ضباط جهاز الاستخبارات التركي، بوجود مترجمين تابعين له”، مع “وجود عمليات تعذيب وسوء معاملة واسعة بحق المحتجزين في هذا المكان، وهناك أشخاص أمضوا عدة أشهر من دون عرضهم على قاضي، وهم بحكم المختفين قسراً”، بحسب الأحمد.

وأضاف الأحمد: “الشبح، الضرب بالسياط، طريقة البلانكو (التعليق بالسقف)، الاعتداءات الجنسية بحق المحتجزين الذكور، سوء المعاملة، والتجويع، هي من أساليب التعذيب” المستخدمة في السجن.

اتصلت “سوريا على طول”، بفرقة السلطان مراد، للرد على الاتهامات الموجهة إليها، لكن لم تتلق أي رد حتى لحظة نشر هذا التقرير، لكن مصدراً عسكرياً من الفرقة، اكتفى بالقول أن “المكان خاضع للسيطرة التركية بشكل مطلق” ولا وجود لفرقته في حوار كلس.

وتكمن المشكلة في هذا السجن، أنه “خارج القضاء بشكل مطلق، لذلك لا يمكننا كمحامين فعل أي شيء للسجناء، لعدم وجود سلطة من أي مؤسسة ثورية عليه”، قال محامٍ سوري مقيم في ريف حلب الشمالي لـ”سوريا على طول”، طالباً عدم الكشف عن اسمه لدواع أمنية.

وأكد المحامي أن “السجن تابع للاستخبارات التركية، وفصيل السلطان مراد مجرد أداة فيه”، مكرراً ما جاء في شهادات حصلت عليها “سوريا على طول” بأن غالبية من يودع في هذا السجن توجه لهم تهم “بالانتماء لداعش أو لقسد”، إضافة إلى أن “غالبية الأكراد، الذين يلقى القبض عليهم أثناء عبورهم من شمال غرب سوريا إلى تركيا، بقصد الهجرة إلى أوروبا، يتم تحويلهم إلى السجن، ويبقون فيه لفترة قبل يُحالوا إلى القضاء”.

الابتزاز باستخدام العصا التركية

في منتصف نيسان/ أبريل 2023، اعتقل حرس الحدود في الجيش الوطني، الصحفي رزق العبي وزوجته، في منطقة بلبل بريف عفرين شمال غرب حلب، بعد عبورهما من الأراضي التركية إلى سوريا.

احتجز العبي وزوجته في مركز اعتقال غير رسمي، لمدة 16 يوماً في ظروف اعتقال “صعبة”، كما وصفها.

المركز الذي احتجز فيه العبي هو مركز بريد سابقاً (في عهد النظام السوري)، تم تحويله إلى مقر لحرس الحدود ومركز توقيف، بحيث “يوضع الأشخاص بعد أن يلقى القبض عليهم قادمين من تركيا أو ذاهبين إليها”، ثم يرسل حرس الحدود أسماءهم ومعلوماتهم الشخصية إلى تركيا “للتأكد من أنهم مطلوبين لتركيا أو لا”، كما قال العبي لـ”سوريا على طول”.

بين التواصل مع تركيا ووصول الرد منها “يبقى الشخص في هذا المكان، وسط معاملة سيئة”. أثناء اعتقاله، قابل العبي أشخاصاً محتجزين في المركز لأكثر من شهرين.

المكان أشبه بـ”مركز جباية، فالشخص المسؤول، اتخذ منه مركزاً لاستغلال الناس وابتزازهم”، إذ يقوم العناصر بـ”إيهام المعتقل أنه مطلوب لتركيا وسوف يتم نقله إلى الأراضي التركية”، ولكن يمكنه “دفع المال مقابل إطلاق سراحه ليهرب” قبل أن يتم تسليمه للسلطات التركية، بحسب العبي.

بعد إرسال بيانات العبي إلى تركيا، ردت الأخيرة بأنه يتوجب عليهم الاحتفاظ به ريثما يتم نقله وزوجته إلى تركيا، وهو ما حصل بالفعل، إذ اعتقل العبي في تركيا نحو تسعة أشهر، بينما أفرجت السلطات التركية عن زوجته فور نقلهم إلى تركيا.

خلال فترة اعتقاله في ناحية بلبل، عرض العبي على مسؤول المقر دفع خمسة آلاف دولار من أجل إطلاق سراحه، لكنه رفض طلب العبي، رغم أنه يبتز بقية المعتقلين بإطلاق سراحهم مقابل المال، وهذا “لأنني مطلوب لتركيا”، وبالتالي المسؤول لا يستطيع أن يتجاوز الأتراك، بينما “الذين لا تريدهم تركيا يتم ابتزازهم” وتخويفهم بها!.

في السياق ذاته، كشف المحامي من ريف حلب الشمالي عن وجود الكثير من “حالات الابتزاز المالي التي تمارسها الشرطة العسكرية بحق موقوفين لديها” توهمهم أنهم “مطلوبين للسلطات التركية”، أي أنه “جرى استخدام العصا التركية” للابتزاز “وغالبية هؤلاء خرجوا بعد دفع المال”.

وأضاف المحامي: “في حالة العديد من الموقوفين، ترفض الشرطة العسكرية تنفيذ القرارات القضائية بدعوى أن الجهاز [الاستخبارات التركية] منع تنفيذ القرار القضائي، أو منع إخراج السجين، رغم انتهاء مدة محكوميته، بهدف ابتزاز أهل الموقوف لدفع مبالغ مالية” قبل إطلاق سراحه، والمشكلة أنه “لا يمكن كشف صدقهم من كذبهم، أو التأكد من هناك طلب رسمي من الاستخبارات التركية يمنع إطلاق سراح الموقوف”.

“حتى القضاء العسكري، بأعلى هرمه، فشل في تنفيذ قرارات قضائية”، بحسب المحامي، مستشهداً بتوكيله في قضية موقوفين لدى الشرطة العسكرية “بتهمة التجنيد في صفوف قسد”، وبعد أن “تخلت المحكمة العسكرية عن الدعوى لأنه ثبت أنهم أحداث حين ارتكاب الجرم تخلى القضاء العسكري عن الدعوى” في أواخر العام الماضي، ومع ذلك “لم يتم إحالتهم إلى محكمة الأحداث حتى اليوم، لأن الشرطة العسكرية تذرعت بأنها لا تستطيع تحويلهم حتى يوافق جهاز الاستخبارات التركي”.

ما يحدث على الأراضي السورية “غير مقبول في الداخل التركي، لأنها دولة قانون ولا تستطيع ممارسة هذه الانتهاكات هناك”، بينما تتملص أنقرة مما يحدث في سوريا “أمام القضاء التركي ودولياً”، قال المحامي، مشيراً إلى أن “الرقابة تغيب عن سجن حوار كلس وغيره من السجون السرية”، بل أكثر من ذلك “يتم إخفاء مظاهر التعذيب والأشخاص الذين تظهر عليهم آثار التعذيب أثناء زيارة جهات حقوقية تركية لحوار كلس”. 

شارك هذا المقال